إبراهيم العلبي... صوت ووجه جديد لسوريا في الأمم المتحدة

خطاب سوري دولي انتظرته دمشق لسنوات طوال

مندوب سوريا الدائم لدى الأمم المتحدة إبراهيم العلبي

إبراهيم العلبي... صوت ووجه جديد لسوريا في الأمم المتحدة

وُلد في الرياض عام 1993، خَبِر الاغتراب القسري منذ ولادته، وعاش في كنف عائلة قد لا تمر عليها فترة دون أن تتحدث عن ظلم النظام السوري وممارساته ضد شعبه، فربّ الأسرة غادر سوريا إلى المملكة العربية السعودية في الثمانينات من القرن الماضي. هو إبراهيم العلبي، الذي عينه الرئيس السوري أحمد الشرع في 19 أغسطس/آب 2025 سفيرا مفوضا فوق العادة ومندوبا دائما للجمهورية العربية السورية لدى منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، وذلك بموجب المرسوم الرئاسي رقم 142.

انعكست تجربة النزوح واللجوء القسري على السياقات التي عمل فيها العلبي، فخلال سنوات الثورة السورية التي انطلقت عام 2011، قام العلبي بتقديم وتنسيق ورشات تدريبية للناشطين السوريين في مجالات التعذيب والنزوح القسري، وقضايا قانونية وحقوقية كثيرة، إضافة إلى تدريبات حول آليات الأمم المتحدة وتسهيل المساعدات الإنسانية. وتخصص العلبي في متابعة القضايا القانونية وملفات التعذيب والنزوح والجرائم التي يرتكبها النظام السوري بحق شعبه أوصله- بين أغسطس/آب ونوفمبر/تشرين الثاني من عام 2017- إلى منصب مستشار قانوني لمكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة حول جرائم النزوح القسري.

درس العلبي في العاصمة السعودية الرياض حتى الثانوية العامة، ثم ذهب إلى جامعة مانشستر في المملكة المتحدة (بريطانيا) لدراسة القانون، وحصل منها على البكالوريوس في عام 2014، ثم درس ماجستير "الأمن والقانون الدولي" عام 2015، يُضاف إليها حصوله على شهادة ماجستير في مجال السياسات العامة من جامعة أكسفورد عام 2021. خلال سنوات دراسته وعمله، أصبح العلبي يحمل جنسيّتين عدا كونه سوريّا، فحصل على الجنسيتين البريطانية والألمانية. وعلى صعيد التقدير الشخصي، نال جائزة "طالب العام" من جامعة مانشستر على مستوى البكالوريوس والدراسات العليا، وحصل في المدرسة على جائزة للتميز الأكاديمي من الأمير سعود الفيصل. وكان رئيس الجمعية العربية في الجامعة، وانتُخب مندوبا في اتحاد الطلبة الوطني.

العلبي سيكون أول من يُمثل سوريا الجديدة في الأمم المتحدة، بتوجهاتها العاصفة للتاريخ التقليدي السوري، فالبلاد اليوم تسير في خطوات متسارعة لتجاوز تاريخ طويل من الالتفاف حول المعسكرات الاشتراكية والمعادية للغرب، إلى حقبة العودة إلى المظلة العربية، والتعاون الوثيق مع الغرب، ومعاداة المخططات الإيرانية، والاستحواذ الاشتراكي على البلاد، حقبة تُمثل فرصة غير مسبوقة للغرب في مسار علاقته مع سوريا وتغيير التاريخ الذي رُسمت ملامحه في فترات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

انعكست تجربة النزوح واللجوء القسري على السياقات التي عمل فيها العلبي، فخلال سنوات الثورة السورية، قام العلبي بتقديم وتنسيق ورشات تدريبية للناشطين السوريين في مجالات التعذيب والنزوح القسري، وقضايا قانونية وحقوقية كثيرة

لعلّ العلبي من المدركين لهذه التحولات، فهو الذي عمل قبل صدور قرار تعيينه كمندوب سوريا في الأمم المتحدة مستشارا لوزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في مجال الشؤون القانونية الدولية، ولعب دروا في ملف المحادثات الدولية الخاصة بتفكيك السلاح الكيماوي الذي امتلكه وطوّره النظام السوري السابق، وكان حاضرا في كثير من الاجتماعات الدبلوماسية عالية المستوى مع الشيباني، كما كان أحد الفاعلين في ملفات التعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية في ملفات العدالة والمساءلة القانونية، إضافة إلى دوره في ملف رفع العقوبات المفروضة على سوريا زمن النظام السابق.

إبراهيم العلبي أطلق في يناير/كانون الثاني 2014 برنامجا متخصصا في تعليم المهارات القانونية اللازمة للمنظمات غير الحكومية السورية، أطلق عليه "برنامج التطوير القانوني السوري"، وفي عام 2018، انضمّ إلى مؤسسة "غرنيكا 37" بصفته محاميا معتمدا في المملكة المتحدة، حيث ساهم من المكتب في الجهود القانونية الدولية في مجال محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.

قاد عمل العلبي على ملف المحاسبة، إلى السفر حول العالم، من كوستاريكا إلى اليابان وسيراليون، حيث التقى وزراء وصنّاع سياسات رفيعي المستوى لإقناعهم بالانضمام إلى مجموعة عمل لمناقشة هذا الموضوع. والحمد لله، فقد نجح ذلك، وتمكّن من جمع عدد من الدول من مختلف أنحاء العالم، من بينها الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والمكسيك، وغواتيمالا، وكوستاريكا، وقطر، واليابان، وسيراليون، وليبيريا.

أما على الصعيد المحلي في المملكة المتحدة، فقد تمثلت جهوده في الضغط السياسي من خلال المجلس السوري- البريطاني (SBC) حيث التقى وزراء ووزراء ظل ومسؤولين حكوميين كبارا معنيين بسياسة المملكة المتحدة تجاه سوريا. كما كان جزءا من الفريق القانوني الهولندي الذي رفع دعوى ضد سوريا في ظل النظام السابق أمام محكمة العدل الدولية بشأن جرائم التعذيب الجماعي.

وفي الداخل السوري، كان حاضرا كثيرا في حلب الشرقية، وكان في إدلب حين وقعت الهجمة الكيماوية على خان شيخون. أجرى الكثير من التدريبات قرب خطوط الجبهة. أما من ناحية الظهور الإعلامي، فقد تحدث على معظم القنوات الإخبارية الكبرى، سواء الناطقة بالعربية أو بالإنكليزية. كما ألقى كلمة أمام مجلس الأمن الدولي حول قضايا تتعلق بسوريا.

أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يصافح إبراهيم العلبي خلال المؤتمر الدولي حول سوريا في مركز المؤتمرات الوزاري في باريس

ملفات قانونية، واجتماعات دبلوماسية عالية المستوى، وتاريخ من البحث والعمل في مجالات العدالة والنزوح والانتهاكات، هيّأت الأرضية أمام العلبي ليتم اختياره مندوبا لسوريا في الأمم المتحدة فترة ما بعد الاستقلال من عقود الأسد، ووضعت العلبي أمام مرحلة جديدة من حياته، تتّسم بتحديات كثيرة سيّما أن سوريا الجديدة تواجه كثيرا من الملفات الدولية المُعقّدة على مستويات داخلية وخارجية متداخلة بشكل كبير، فلمف شرق الفرات وتعقيدات التفاوض فيه التي تلقي بظلالها على أروقة السياسة الدولية وتدخلات الوساطة الغربية والعربية التي تحتاج إلى حنكة وحساسية في التعامل معها، وملف الجنوب السوري (السويداء) وتعقيداته نتيجة دخول الجانب الإسرائيلي بحجة حماية الدروز، فضلا عن ملفات كثيرة أبرزها إقناع الساحات الدولية- من منصة وأروقة الأمم المتحدة- بتوجهات الحكومة السورية لتحقيق العدالة وتضمين كافة شرائح السوريين في القرار الداخلي، ووحدة البلاد والجيش، والقضاء على الإرهاب وتجارة وتهريب الكيبتاغون، وإنهاء أي بوادر لعودة المشروع الإيراني من سوريا، والوصول إلى توافقات تُنهي التدخلات الإسرائيلية في سوريا وتهدئ مخاوف الجانب الإسرائيلي، وملفات أخرى ذات أهمية متعلقة بالاقتصاد وإعادة الإعمار وهندسة العلاقات القديمة والجديدة للدولة السورية.    

الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع رأت في العلبي قدرات تتناسب وتوجهاتها الحالية، فالسياسي الشاب اختبر الاغتراب القسري منذ ولادته، وعمل منذ نشأته- التي تزامنت مع اندلاع الثورية السورية- على ملفات كثيرة هي في صلب اهتمام الحكومة الجديدة، فهو الذي أمضى سنوات من عمره في التركيز على العدالة الانتقالية، ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات، والتدريبات القانونية للناشطين، إضافة إلى الجهود الإيجابية التي أظهرها خلال فترة وجوده مع الوزير الشيباني في ملف العلاقات الدولية والتفاهمات والتمهيد للاتفاقيات السياسية والقانونية مع المنظمات الدولية. جهود العلبي ما قبل سقوط النظام، وفترة ما بعد السقوط أثارت اهتمام الحكومة السورية التي قررت منحه فرصة الجلوس على كرسي سوريا في الأمم المتحدة، الكرسي ذاته الذي جلس عليه فارس الخوري، السياسي السوري الشهير الذي كان من المؤسسين لمرحلة ما بعد الاستقلال السوري من الانتداب الفرنسي.

جهود العلبي ما قبل سقوط النظام، وفترة ما بعد السقوط أثارت اهتمام الحكومة السورية التي قررت منحه فرصة الجلوس على كرسي سوريا في الأمم المتحدة، الكرسي ذاته الذي جلس عليه فارس الخوري، السياسي السوري الشهير الذي كان من المؤسسين لمرحلة ما بعد الاستقلال السوري من الانتداب الفرنسي

فارس الخوري كان أول مندوب لسوريا في الأمم المتحدة عام 1946، وهي فترة تزامنت مع إنهاء الانتداب الفرنسي في سوريا، ودخول البلاد مرحلة الاستقلال، تتشابه الديناميكيات السياسية ما بين مرحلة الخوري ومرحلة العلبي، فسوريا زمن الخوري حينها كانت تخرج من تاريخ طويل من الاحتلال والقرار المسلوب خارجيا، في حين أن سوريا اليوم زمن العلبي تخرج من إرث عقود الأسد التي احتلّت القرار الداخلي السوري وسلبت إرادة الشعب بحجة الاشتراكية والمعسكرات الشرقية المواجهة للمعسكرات الغربية.   

الخوري دخل قاعة الأمم المتحدة عام 1946، ببذلته البيضاء وطربوشه الدمشقي الأحمر، متحديا المندوب الفرنسي، حيث جلس في المقعد الفرنسي لمدة 25 دقيقة، الأمر الذي أغضب المندوب الفرسي وأخرجه عن طوره، ليرد عليه الخوري أن 25 دقيقة لغريب كانت كافية لإخراج ممثل فرنسا عن طوره، ودولة الأخير تحتل سوريا لمدة 25 سنة، الخوري قال كلمته الشهيرة حينها: "سعادة السفير، جلست على مقعدك 25 دقيقة، فكدت تقتلني غضبًا وحنقًا، وقد احتملت سوريا سفالة جنودكم 25 سنة، وقد آن لها أن تستقل".

أ.ف.ب
إبراهيم العلبي يحضر المؤتمر الدولي حول سوريا في مركز المؤتمرات الوزاري في باريس في 13 فبراير 2025

يدخل العلبي قاعة الأمم المتحدة كمندوب لسوريا الجديدة بعد أكثر من خمسين عاما من احتلاله لصالح عائلة واحدة تُدير البلاد وفق مصالحها، ويجلس على ذات الكرسي الذي جلس عليه فارس الخوري الذي أسس لمرحلة الاستقلال، وهو الكرسي ذاته الذي جلس عليه بشار الجعفري الذي عمّق رؤية الأسد ونظامه في أروقة الأمم المتحدة، وهاجم كل معارضي الأسد بكل ما أوتي من قوّة لغوية ومنطق، العلبي يدخل قاعة الأمم المتحدة كندوب سوريا الجديدة، مُعلنا نهاية عقود من حكم الأسد لسوريا، ومُستهلّا مستقبلا قُلبت فيه طاولة التحالفات السورية القديمة وظهر على أجندتها الجديدة أوراق تحالفات غير تقليدية تحتاج جهدا كبيرا لتعميقها وتدعيمها.

الاختبار الذي يدخله العلبي بمنصبه الجديد ليس اختبارا لمستقبله السياسي فحسب، بل هو اختبار تعيشه سوريا كلها عموما، والحكومة السورية الجديدة بشكل خاص، سيّما أن تاريخ قادتها يثير الكثير من الأسئلة حول إمكانية التغيير الذاتي للأفراد والجماعات. والجهود التي تقع على عاتق العلبي ستكون في أوراق التاريخ الجديد لسوريا في رفوف الأمم المتحدة، وكتب التعليم السوري بعد سنوات. ولعلّ شهر سبتمبر/أيلول سيكون نقطة الانطلاق الأبرز لهذه الجهود المركبّة على كل المستويات، فالرئيس السوري أحمد الشرع سيُخاطب العالم أجمع من منصة لم يقف عليها رئيس سوري منذ عقود، وإبراهيم العلبي يجلس في كرسيّ الخوري مؤسسا لموقف وخطاب سوري انتظره العرب والغرب لسنوات طوال. العيون كلها تتوجه اليوم إلى قاعة الأمم المتحدة، فسوريا فيها ليست سوريا التي خبرها العالم الحديث، وأصوات سوريا الجديدة في تلك القاعة تحمل من الفرادة ما يكفي ليستمع العالم إليها باهتمام كبير. وكأن سوريا هي الحدث الأبرز في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة القادمة.

font change