طوال أكثر من 100 عام، والفلاسفة والمفكرون والسياسيون والكتاب يتناولون بالبحث والتنظير الأنظمة التوتاليتارية وأثرها على النتاج الإبداعي، وإلى أي درجة يؤثر الانتماء السياسي أو الأيديولوجي للمبدع على نتاجه، وهل يبقى محتفظا بحريته الإبداعية، أم إنه يصبح جزءا من آلة دعائية أكبر منه، تقيد في النهاية مخيلته ولغته وحسه الإبداعي. وهذه الأنظمة التوتاليتارية تبدلت أشكالها لكنها ما زالت حاضرة، من خلال تفشي الديمقراطيات الشعبوية، اليمينية منها واليسارية من أوروبا وصولا إلى أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية، حيث بات يمكن الكلام على "ديمقراطيات توتاليتارية".
وكما هو معروف، فالأنظمة الشمولية تقوم على نوع من الاستبدادية الفردية التي يختزل فيها القائد كل شيء لصالح أجندته، بوسائل القوة والضغوط المتمادية، محولا المجموع إلى كائنات تنتسب إليه.
في السياسة هذه أمور معروفة، لكن هل يمكننا أن نضم إليها التيارات الأدبية والفنية، في الفلسفة والآداب والفنون البصرية، لاسيما وأن الكثير من هذه التيارات تسلح بقوانين جاهزة لتشكيل خطابه الإبداعي. فهل تختلف التيارات الكبرى، من خلال تعميمها أسسا ثابتة يخضع لها الكتاب والفنانون أو ينضمون إليه، عن الأجندات السياسية الأيديولوجية، مثل الشيوعية والنازية والديمقراطية الشعبوية وغيرها.
الأيديولوجيات تكبل مخيلة الشاعر والفنان والفيلسوف، وتحد من حريتهم وآفاقهم، وتوقعهم في الأسلوبية المنمطة، أي الارتهان للأفكار الجاهزة
وهنا يمكن التمييز بين تيار أدبي أو فني استخلص قوانينه من حركة هي أصلا طالعة من الأنظمة الأيديولوجية، وأخرى فجرها كتاب أو جماعات أدبية. في القرن الماضي ولدت الدادائية وانتهت، بإرثها المكتظ، وانبثقت عنها السوريالية التي انتشرت في أوروبا وبعض البلدان العربية، وقد انسحب منها زعيمها أندريه بريتون، ليؤلف حركته السوريالية "الثورية" التي أدخلت شيئا من العقلانية إلى شروطها. وقد أصدر بريتون، سبعة بيانات، لكن الحركة لم تلتزم بها حرفيا، بل وسعت أفقها الصادم، إلى رفض كل شيء، واتخذ أعضاؤها هوامش من الحرية، أما بريتون فكان صارما وحاول فرض نظام شبه ديكتاتوري، وقد طرد عدة شعراء وفنانين كبارا، من أمثال أنطونان أرطو وأراغون.
وننتقل هنا إلى أمثلة أخرى من المدارس الأدبية هذه، مثل "تيار اللغة"، الذي جسدته مجلة "تيل كيل"، والتي تلتقي المدرسة الرمزية، من حيث إن دعوتها تميزت باعتبار أن "اللغة" جوهر الشعر، ومن أبرز الشعراء الذين يمثلونها بول فاليري، وعندنا سعيد عقل، وأدونيس في مراحله المتعددة.
ولا ننسى "الواقعية الاشتراكية" كامتداد لليسارية الشيوعية، وضمت شعراء من الاتحاد السوفياتي وعرفت امتدادا مهماً في العالم العربي وأوروبا. والعديد من الشعراء اللبنانيين في بداياتهم كانت هذه الأيديولوجيا ملاذهم فانضموا إلى الحزب الشيوعي اللبناني، ثم ما لبثوا أن غادروه.
الكتّاب والفنانون الذين ارتبطت نصوصهم بالأيديولوجيات وكانوا أصداء لها، تظل قيمتهم مرتبطة بالمناسبة وبالاتجاه السياسي الذي صدروا عنه
نكتفي بسرد هذه الأمثلة التي اعتنقت هذه الاتجاهات، لنتساءل: إذا كانت معظم هذه الحركات والأحزاب ذات منحى أيديولوجي صارم، فهل يمكن اعتبار أن الأفكار والنصوص، الأدبية والفنية التي رافقتها أو صدرت عنها هي كذلك أيديولوجية؟ ومن المعلوم أن الأيديولوجيات تكبل مخيلة الشاعر والفنان والفيلسوف، وتحد من حريتهم وآفاقهم، وتوقعهم في الأسلوبية المنمطة، أي الارتهان للأفكار الجاهزة، مما يجعل التماثلات تؤثر على التعددية الفكرية والتعابير الأدبية والفنية، كأن تقرأ قصيدة لذلك الشاعر وتكون قد قرأت كل شعره، وهذا ينطبق على الذين اختاروا أسلوبهم أو اختارهم أسلوبهم، ومنهم مسرحيون وكتاب كبار.
وكذلك أصحاب المدرسة الوجودية وعلى رأسهم جان بول سارتر والعبثية وعلى رأسها ألبير كامو، لكن علينا التمييز بين الأسلوبيين الذين عمقوا تجاربهم بطرائقهم الخاصة، وبين آخرين استسهلوها، فقلدوا الآخرين، وكذلك أنفسهم، وفي ذلك قال أحد الشعراء يوما: أفضل أن أقلد الآخرين على أن أقلد نفسي.
ويمكن القول إن الكتاب والفنانين الذين ارتبطت نصوصهم بالأيديولوجيات وكانوا أصداء لها، تظل قيمتهم مرتبطة بالمناسبة وبالاتجاه السياسي الذي صدروا عنه، علما أن كثرا ممن ارتبطوا بالحركات اليسارية ميزوا بين النصوص السياسية والأخرى الذاتية، فقدموا أعمالا وتحفا رائعة. ولم يتبق منهم سوى أعمالهم هذه.
واليوم، توارت كل هذه الأيديولوجيات ومعها النصوص والأعمال التي التصقت بها، وهنا نستذكر الفيلسوفة الألمانية الكبيرة حنه آرندت عندما قالت: أنا لا أنضم إلى المدارس الفلسفية من أجل حريتي وعدم اتباع أي نظرية جاهزة.