"سد النهضة" من رمز للوحدة إلى محور للتوتر بين مصر وإثيوبيا (2 من 2)

أما العطش أو الفيضان..

المجلة
المجلة

"سد النهضة" من رمز للوحدة إلى محور للتوتر بين مصر وإثيوبيا (2 من 2)

يعد سد النهضة الإثيوبي واحدا من أعقد المشروعات المائية التي شيدت في القارة الإفريقية خلال العقود الأخيرة، ليس فقط لضخامته الهندسية، بل لأنه أُقيم على نهر دولي رئيسي يغذي أكثر من مئة وخمسين مليون إنسان في دول المصب. من ثم فإن تقييم طريقة إدارته لا يمكن أن ينفصل عن فهم نظامه الفني، ومعادلات تصريفه، وآلية تفاعله مع الدورة الهيدرولوجية الطبيعية للنيل الأزرق.

حين نتحدث عن "الإدارة الأحادية" من منظور فني، فإننا نعني أن إثيوبيا تتحكم بشكل منفرد في ثلاثة عناصر هندسية حرجة وهي معدلات التخزين والملء السنوي وتوقيتات فتح وإغلاق البوابات السفلية وتصريف المياه نحو مجرى النيل الأزرق ثم النيل الرئيسي.

هذه العناصر الثلاثة تشكل ما يمكن تسميته بـ"القلب النابض" للنظام الهيدرولوجي للنهر. وأي تغيير فيها، دون تنسيق، يعني إحداث اضطراب مباشر في النظام الطبيعي للتدفق، بما ينعكس على السودان ومصر في صور متتابعة من التقلبات المائية والبيئية.

يبلغ ارتفاع سد النهضة نحو 145 مترًا وطوله أكثر من 1.8 كيلومتر، بسعة تخزينية كلية تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه. هذه السعة توازي تقريبا كل التدفق السنوي للنيل الأزرق في السنوات المتوسطة المطر (الذي يتراوح بين 48 و55 مليار متر مكعب سنويا).

ويتكون السد من جسم خرساني رئيسي، وسد ركامي جانبي، وبحيرة تمتد لمسافة أكثر من 240 كيلومترا في الداخل الإثيوبي، مع محطتين لتوليد الكهرباء بطاقة إجمالية مخططة تبلغ نحو 5150 ميجاوات.

المجلة
أبرز السدود على نهر النيل

تبدو الأرقام مذهلة من الناحية الهندسية، لكنها في الحقيقة تحمل معضلة توازن مائي، لأن التحكم في هذا الحجم الضخم من المياه يعني فعليا القدرة على تغيير إيقاع النهر الطبيعي.

فالسد مزود ببوابتين سفليتين فقط للتصريف المستمر، بالإضافة إلى ست بوابات في المفيض العلوي، ما يجعل التحكم في توقيت فتحها أو غلقها قضية محورية في استقرار النهر.

منابع النيل الأزرق

ينبع النيل الأزرق من الهضبة الإثيوبية، وهي من أكثر المناطق مطرا في شرق أفريقيا، حيث تسقط الأمطار الموسمية بغزارة بين شهري يونيو وسبتمبر، لتكون ما يُعرف بـ"الفيضان الإثيوبي" الذي يصل إلى السودان ثم مصر خلال شهري أغسطس وسبتمبر.

هذه الدورة الطبيعية ظلت ثابتة نسبيا عبر القرون، ما أتاح لدول الحوض بناء نظمها الزراعية والهيدرولوجية حول "الزمن الفيضي" المنتظم. لكن إدارة سد النهضة أحاديًا غيرت هذه المعادلة.

فمنذ أن بدأت إثيوبيا عمليات الملء الأولى عام 2020، لاحظت محطات الرصد السودانية والمصرية تغيرا في نمط وصول الفيضان. انخفضت ذروة التدفق في بعض السنوات، وتأخرت مواعيدها في أخرى، ما أحدث اضطرابا في الجداول الزراعية، ومشكلات في تشغيل السدود السودانية مثل الروصيرص وسنار.

وهذا التغير في إيقاع النهر ليس مجرد انحراف بسيط، بل تحول في ديناميكية النظام الفيضي، لأن السد يقوم فعليا بتخزين كميات ضخمة في فترة الأمطار، ثم يطلقها وفق احتياجات توليد الكهرباء المحلية في إثيوبيا، وليس وفق الحاجة الطبيعية للمجرى المائي.

وتقوم الهندسة الهيدرولوجية لأي سد كبير على موازنة دقيقة بين ثلاثة عناصر هي حجم التخزين والتدفقات الداخلة والتصريف للخارج. في حالة سد النهضة، يُفترض أن تكون عملية الملء "تدريجية ومنسقة"، بحيث لا تؤثر على تدفق المياه نحو دول المصب. لكن الإدارة الأحادية جعلت من هذه العملية أمرا واقعا إذ تم الملء دون استشارة دول المصب.

من المعروف هندسيا أن التغير السريع في منسوب المياه يمكن أن يؤدي إلى تشققات دقيقة في جسم السد الركامي الجانبي، وهي ظاهرة حذر منها العديد من خبراء السدود.

فعلى سبيل المثال، في الملء الثالث عام 2022، احتجزت إثيوبيا نحو 22 مليار متر مكعب، وهو ما تجاوز التقديرات التي كانت مصر والسودان تعتمدها للتشغيل السنوي. أدى ذلك إلى انخفاض مفاجئ في منسوب النيل الأزرق بنسبة ملحوظة عند الحدود السودانية، ما اضطر سلطات السودان لفتح بوابات سد الروصيرص لتفادي فيضانات عكسية. هذه الاضطرابات ليست مجرد "خلافات في القياس"، بل تظهر أن السد يعمل في معزل تام عن نظام التحكم الإقليمي، ما يدخل النهر في حالة من "اللايقين المائي"، أي فقدان القدرة على التنبؤ المسبق بتصرفاته.

تتمثل الخطورة الكبرى في أن بحيرة السد تقع في منطقة جيولوجية نشطة زلزاليا. ورغم أن التصميم الهندسي للسد أُعد لمقاومة ضغوط هيدروليكية عالية، فإن التحكم الأحادي في معدلات الملء والتفريغ قد يعرض جسم السد وسدوده الجانبية لاختلالات مفاجئة في الضغط المائي.

من المعروف هندسيا أن التغير السريع في منسوب المياه يمكن أن يؤدي إلى تشققات دقيقة في جسم السد الركامي الجانبي، وهي ظاهرة حذر منها العديد من خبراء السدود. وهذا ما يجعل التعاون في تبادل البيانات أمرا حيويا، ليس فقط لحماية دول المصب، بل أيضًا لحماية السد نفسه من مخاطر هندسية.

REUTERS
نهر النيل الأزرق

كذلك، فإن غياب التنسيق في توقيتات التصريف يمكن أن يتسبب في موجات فيضانية غير متوقعة، أي باتجاه السودان، خصوصا عند امتلاء البحيرة إلى أقصى سعة ثم فتح البوابات فجأة في موسم مطير. وقد سجلت بعض المناطق السودانية خلال الأيام الماضية فيضانات غير معتادة نتيجة تصريف غير منسق من السد.

تشير القراءات الأخيرة لمحطات القياس في الخرطوم وأسوان إلى أن فيضان هذا العام حمل كميات مياه مرتفعة نسبيا، إلا أن سلوك التدفق لم يتبع النمط التاريخي المعروف، حيث جاءت الذروة متقطعة ومتأخرة بنحو أسبوعين عن المتوسط.

ويرى الخبراء أن السبب يعود إلى تعديل إثيوبيا في توقيت فتح بوابات السد خلال شهري يوليو وأغسطس، بما يتناسب مع تشغيل التوربينات الجديدة التي دخلت الخدمة في العام الماضي.

هذا النمط المتقطع له آثار خطيرة على التوازن المائي في مجرى النيل. فبدل أن يصل الفيضان ككتلة واحدة تغمر الأراضي تدريجيا، أصبح يصل على شكل دفعات متقطعة، تحدث غمرا مفاجئا في مناطق ثم جفافا مؤقتا في أخرى. وهذا ما يفسر تزايد شكاوى المزارعين في السودان من تلف المحاصيل بسبب "الفيضان المتذبذب"، وهو مصطلح لم يكن موجودًا من قبل في أدبيات الري.

مقامرة هيدرولوجية

في إدارة الأنهار الدولية الكبرى مثل نهر الميكونغ في آسيا أو نهر الدانوب في أوروبا، تدار السدود وفق منظومات تشغيل مشتركة تضمن لكل دولة الحصول على بيانات فورية عن منسوب المياه، وكميات التصريف، وأي تغييرات في التشغيل.

في حوض نهر الميكونغ، على سبيل المثال، يوجد مركز إقليمي لتبادل البيانات في لاوس، يزوّد كل دول الحوض بمعلومات يومية حول السدود الصينية واللاوسية والكمبودية. وفي حوض نهر الدانوب، تُدار السدود عبر لجنة فنية مشتركة تراقب كل التعديلات التشغيلية. بينما في حالة النيل الأزرق، لا توجد أي آلية من هذا النوع. فإثيوبيا ترفض إنشاء مركز تبادل بيانات مشترك، وتتعامل مع السد باعتباره مشروعًا سياديًا صرفًا، رغم أنه يؤثر مائيا على دولتين أخريين. هذا الغياب للمؤسسية التعاونية يجعل كل تصرف إثيوبي مفاجئًا، ويحوّل إدارة النهر من علم هندسي إلى مقامرة هيدرولوجية.

يزداد الموقف تعقيدا مع التغير المناخي، إذ تتوقع النماذج المناخية أن تتزايد تذبذبات الأمطار في الهضبة الإثيوبية خلال العقود المقبلة، ما يعني أن سنوات الجفاف والفيضانات الشديدة ستصبح أكثر تواترا. وفي ظل غياب آلية تنسيق بين الدول الثلاث، سيصبح السد عاملا مضاعفا للمخاطر. فعندما تأتي سنوات الجفاف، ستحتجز إثيوبيا كميات أكبر للحفاظ على توليد الكهرباء، مما يقلل التدفق نحو المصب. أما في سنوات الفيضانات، فقد تضطر إلى تصريف كميات ضخمة فجأة لتفادي امتلاء البحيرة فوق الحد الآمن، ما قد يسبب كوارث في السودان.

تُظهر الأحداث الأخيرة أن التحولات في نظام فيضان النيل الأزرق لم تبق حبيسة الجداول الهيدرولوجية أو التقارير الفنية، بل امتدت لتصوغ واقعا ميدانيا جديدًا في السودان ومصر معا يجمع بين فيضانات غير متوقعة، وانحسار زراعي متسارع، ومخاطر إنسانية واقتصادية متشابكة.

لقد أصبحت إدارة السد الإثيوبي الأحادية ليست فقط مسألة قانونية أو سياسية، بل قضية أمن مائي وإنساني تمس الحياة اليومية لملايين البشر على ضفتي النهر.

منذ بدء إثيوبيا عمليات الملء الأول في عام 2020، لاحظت سلطات الري السودانية تذبذبا غير مسبوق في منسوب النيل الأزرق

يعد السودان المتأثر الأول فنيا وهيدرولوجيا بسلوك سد النهضة، نظرا لوقوعه مباشرة في مجرى النيل الأزرق بعد خروج المياه من الحدود الإثيوبية. ويشكل سد "الروصيرص" – الواقع على بعد 15 كيلومترا فقط من الحدود – النقطة الأكثر هشاشة في هذا النظام، حيث يعتمد تشغيله بالكامل على انتظام تدفق المياه القادمة من إثيوبيا.

منذ بدء إثيوبيا عمليات الملء الأول في عام 2020، لاحظت سلطات الري السودانية تذبذبا غير مسبوق في منسوب النيل الأزرق. ففي بعض الأيام ينخفض المنسوب عدة أمتار خلال ساعات، ثم يرتفع فجأة نتيجة فتح البوابات الإثيوبية لتصريف المياه. هذه التقلبات المفاجئة أحدثت ارتباكا في تشغيل السدود السودانية، وأحيانًا أدت إلى فيضانات مفاجئة أغرقت أراضي واسعة.

وتشير تقارير وزارة الري السودانية إلى أن انخفاض التصريف المفاجئ في موسم الجفاف لعام 2021 تسبب في توقف محطات مياه الشرب في مدينتي "الخرطوم" و"بحري" عن العمل لعدة أيام، بسبب انكشاف مداخل السحب. وفي المقابل، أدت الفيضانات المفاجئة في موسم 2022 إلى انهيار أجزاء من الجسور الترابية في ولايتي سنار والنيل الأزرق.

بهذا المعنى، أصبح السودان يعيش بين نقيضين أما العطش أو الفيضان، وهما وجهان لإدارة مائية غير مستقرة.

السودان دولة زراعية يعتمد اقتصادها بنسبة كبيرة على الري الفيضي، خاصة في مناطق "الجزيرة" و"سنار" و"النيل الأبيض". وقد أدى عدم انتظام تدفق النيل الأزرق إلى اضطراب دورة الزراعة الصيفية، لأن توقيت الفيضان هو العامل المحدد لبدء الزراعة وبذر المحاصيل.

في عام 2023، على سبيل المثال، تسببت موجة فيضانية غير منتظمة في غمر أكثر من 70 ألف فدان من الأراضي الزراعية في مناطق جنوب سنار وجبل أولياء. لم تكن المياه عالية بما يكفي لإحداث دمار شامل، لكنها استمرت لفترة أطول من المعتاد، مما جعل التربة مشبعة بالمياه وأفقدها التهوية اللازمة للنبات، فتعفنت الجذور وتلفت المحاصيل.

وفي الأيام الماضية. اجتاحت الفيضانات في السودان مناطق واسعة خلال الأسابيع الأخيرة، مخلّفة دماراً كبيراً في المنازل والبنى التحتية وتلفاً واسعاً في المحاصيل الزراعية ونفوق أعداد كبيرة من الماشية. وارتفع منسوب النيل الأبيض ليغمر مناطق جنوب العاصمة الخرطوم، من بينها الشقيلاب، فيما امتدت مياه الفيضان إلى ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق ونهر النيل والشمالية.

وقد أفادت تقارير ميدانية بأن تصريف المياه من قنوات سد النهضة الإثيوبي أسهم في ارتفاع منسوب النيل الأزرق، ما فاقم حجم الأضرار، خاصة في ولاية النيل الأزرق ولا سيما منطقة الروصيرص القريبة من السد.

وفي المقابل، نفت الحكومة الإثيوبية الاتهامات المصرية التي حملت السد مسؤولية الفيضانات، إذ أكد وزير المياه والطاقة أن سد النهضة أسهم في تقليل المخاطر وتنظيم التدفقات المائية، مضيفا أن العواقب كانت ستكون "أكثر خطورة" لولا وجوده. وبدوره أوضح مدير مشروع السد أن الأمطار الغزيرة والاستثنائية أجبرت السلطات على إغلاق بعض بوابات السد مؤقتا، كما أشار إلى أن هناك تنسيقا مستمرا وتبادلا للبيانات مع الجانب السوداني بشأن منسوب المياه والتدفقات.

مخاطر الإدارة الأحادية

في مصر، تبدو الصورة أكثر استقرارا من الناحية المائية بفضل وجود السد العالي، لكن التغيرات في نظام فيضان النيل الأزرق بدأت تظهر آثارها بطريقة خفية ومتراكمة. فعندما يتغير توقيت وصول المياه من السودان، يضطر السد العالي لتعديل سياسات التشغيل للحفاظ على منسوب التخزين الآمن في بحيرة ناصر. هذه التعديلات المتكررة تؤثر بدورها على ديناميكية بحيرة ناصر ونظام الري في الدلتا، إذ قد يؤدي انخفاض التصريف في شهور معينة إلى نقص في مياه الري، بينما يؤدي ارتفاعه المفاجئ إلى فيضانات في مناطق "طرح النهر" وهي الأراضي المنخفضة الواقعة على ضفاف النيل داخل مجراه القديم، وتستخدم عادة لزراعة المحاصيل السريعة مثل الذرة والخضروات.

AFP
أعضاء فرقة "جمهورية إثيوبيا" الموسيقية يؤدون عرضًا موسيقيًا في سد النهضة الإثيوبي الكبير

وقد قالت وزارة الموارد المائية والري المصرية في بيان رسمي إن فيضان نهر النيل لهذا العام كشف مجددا عن مخاطر الإدارة الأحادية التي تنتهجها إثيوبيا في تشغيل سدها المقام على النيل الأزرق، مؤكدة أن هذه التصرفات تمثل انتهاكا صريحًا للقانون الدولي، وتشكل تهديدا مباشرا لأمن وحياة شعوب دولتي المصب، مصر والسودان.

الاضطراب الفني لم يكن مجرد خطأ تشغيل، بل كما ترى القاهرة — جزء من سياسة مائية أحادية تسعى لإضفاء طابع سيادي على النهر المشترك

لكن الخطر لم يكن في حجم الفيضان ذاته، بل في كيفية إدارة إثيوبيا للمياه خلف السد، على نحو وصفته القاهرة بـ"المتعجل والعشوائي وغير المنضبط"، بعدما عمد المشغل الإثيوبي إلى تخزين كميات أكبر من اللازم ثم إطلاقها فجأة لأسباب سياسية، ما أدى إلى ما وصفته مصر بـ"فيضان صناعي مفتعل" ضرب السودان وأضر بمناطق في شمال الدلتا المصرية.

من منظور علمي بحت، كان يفترض أن تبدأ إثيوبيا التخزين التدريجي منذ يوليو حتى أكتوبر، ثم التصريف المنتظم لتوليد الكهرباء، بما يحقق التوازن بين الاحتياجات المائية والمصالح الإقليمية. غير أن ما حدث، كما توضح البيانات المصرية، هو تخزين مفرط أعقبه تصريف مفاجئ بلغ في أحد الأيام 780 مليون متر مكعب، أي ما يعادل ضعف المعدل الطبيعي للانسياب الموسمي للنهر، وهو ما تسبب في اضطراب مفاجئ في المناسيب داخل السودان ومصر على السواء.

هذا الاضطراب الفني لم يكن مجرد خطأ تشغيل، بل كما ترى القاهرة — جزء من سياسة مائية أحادية تسعى لإضفاء طابع سيادي على النهر المشترك، بما يتناقض مع مبدأ "عدم الإضرار" المنصوص عليه في اتفاقيات القانون الدولي للأنهار المشتركة. ويشير مراقبون إلى أن هذه الممارسات لا يمكن فصلها عن الرؤية الإثيوبية التي تعتبر السد مشروعا للهيمنة الإقليمية بقدر ما هو مشروع تنموي، مستندة إلى خطاب داخلي تعبوي يوظف المياه كرمز للكرامة الوطنية والسيادة.

وتعكس الكارثة التي شهدتها مناطق سودانية واسعة في سبتمبر وأكتوبر 2025 — حيث غمرت الفيضانات أراضي زراعية وقرى بأكملها في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق — الوجه الإنساني الكارثي لغياب التنسيق بين دول الحوض. فبعد أن اضطر سد الروصيرص إلى تمرير كميات ضخمة حفاظا على أمانه الهيكلي، لم تجد المياه طريقها إلا إلى الأراضي الزراعية والقرى المنخفضة.

وأفادت تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) بأن مئات العائلات فقدت مساكنها، وأن خسائر الزراعة والمواشي تجاوزت المستويات المعتادة لأي فيضان موسمي.

ورغم محاولات الحكومة الإثيوبية تبرير ما جرى بأنه نتيجة "أمطار استثنائية"، فإن النمط الزمني لتصرفات السد — كما أوضحته بيانات الأقمار الصناعية — كشف أن فتح بوابات المفيض بعد يوم واحد فقط من "احتفال افتتاح السد" في 9 سبتمبر لم يكن مرتبطا بالطقس، بل بقرار سياسي وإعلامي.

ويُظهر التحليل الهيدرولوجي أن الفيضانات في السودان لم تكن طبيعية، بل ناتجة عن تذبذب اصطناعي في معدلات التصريف، وهو ما يصفه الخبراء بـ"الفيضان الصناعي"، وهو ظاهرة خطيرة تخل بالتوازن البيئي للنهر، وتؤثر على استقرار التربة الزراعية ومخزون المياه الجوفية.

تحذيرات مصرية

على الجانب المصري، لم يكن التأثير المباشر بالحدة نفسها، لكنه لم يخلُ من تداعيات. فقد أعلنت محافظتا المنوفية والبحيرة حالة الطوارئ بعد ارتفاع المناسيب في بعض فروع النهر وغمر أراضٍ من "طرح النهر" ورغم أن هذه الأراضي ليست صالحة للزراعة الدائمة، فإن التعديات عليها خلال السنوات الماضية — سواء بالبناء أو بزراعات موسمية — جعلت بعض القرى عرضة للغرق الجزئي.

AFP
منظر عام لسد النهضة الإثيوبي الكبير خلال حفل افتتاحه الرسمي في غوبا، في 9 سبتمبر/أيلول 2025.

وفي مؤتمر صحفي، حذر رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي من استمرار ارتفاع المنسوب حتى نهاية أكتوبر، داعيا إلى الإخلاء الفوري للمناطق الواقعة داخل نطاق الحرم النهري، مؤكدا أن الدولة تتعامل مع الموقف ديناميكيًا عبر الرصد اللحظي والتنبؤات الهيدرولوجية.

يرى خبراء القانون الدولي أن إصرار أديس أبابا على إدارة السد دون اتفاق، ومع غياب آلية لتبادل البيانات، يجعلها في موضع مخالفة صريحة لقواعد العرف الدولي التي تلزم الدول المتشاطئة بالتعاون والإخطار المسبق

من الزاوية القانونية، يضع هذا السلوك الإثيوبي الملف مجددا أمام تساؤلات أساسية حول مستقبل القانون الدولي للمياه المشتركة في أفريقيا.

فبينما تتمسك مصر والسودان بضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني شامل وملزم بشأن ملء وتشغيل السد، تواصل إثيوبيا سياسة "الحق المطلق في التنمية"، وهي صياغة تتناقض مع روح "مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول" المنصوص عليه في اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية.

ويرى خبراء القانون الدولي أن إصرار أديس أبابا على إدارة السد دون اتفاق، ومع غياب آلية لتبادل البيانات، يجعلها في موضع مخالفة صريحة لقواعد العرف الدولي التي تلزم الدول المتشاطئة بالتعاون والإخطار المسبق.

أما من الزاوية الفنية، فقد أعاد الفيضان إلى الواجهة تقييما أكثر تشاؤما لطبيعة السد نفسه، إذ وصفه بعض الخبراء بأنه "قنبلة مائية نووية" تهدد أمن المنطقة، وحذروا من أن بنيته الإنشائية الضخمة، المقامة على منطقة زلزالية نشطة نسبيا، يمكن أن تحدث انهيارات كارثية في حال تعرضت لضغط مائي غير محسوب.

AFP
يستعد أحد أعضاء فرقة بهلوانية لأداء عرضه، مرتديًا ألوان العلم الإثيوبي، خلف صورة جوية مزخرفة لسد النهضة الإثيوبي الكبير

في المقابل، ترد أديس أبابا بأنها تسهم في تنظيم النهر وتقليل الفيضانات، معتبرة أن السد ساعد السودان على استقرار منسوب المياه ومنع التذبذب الحاد. لكن البيانات الميدانية تنفي ذلك، إذ تظهر أن معدل التذبذب في النيل الأزرق خلال سبتمبر 2025 تجاوز 400 مليون متر مكعب يوميا، وهو رقم لم يسجل منذ ستينيات القرن الماضي.

السلامة الهيكلية

منذ اللحظة التي بدأ فيها بناء سد النهضة الإثيوبي، ارتبطت به أسئلة كبرى عن السلامة الهيكلية والأمان المائي لدول المصب، وبرز على السطح هاجس قديم متجدد، ماذا لو انهار السد؟ هل يمكن أن تتحول كتلة المياه الضخمة المحتجزة خلفه إلى طوفان يكتسح كل شيء في طريقه حتى يصل إلى مصر؟ هذا السؤال، الذي بدا في البداية أقرب إلى سيناريو خيالي، أصبح اليوم موضع تحليل علمي جاد، مع تصاعد المؤشرات على أن سلوك التشغيل الأحادي للسد، والتغيرات في أنماط الملء والتفريغ، قد تفتح الباب أمام كوارث فيضانية غير متوقعة حتى دون انهيار فعلي لجسم السد.

في الحالة الطبيعية، يفترض أن السدود الكبرى تدار وفق معايير هندسية صارمة تضمن سلامة جسم السد واستقرار معدلات تصريف المياه، بحيث لا يحدث أي تفريغ مفاجئ يمكن أن يسبب موجة فيضانية نحو المصب. لكن ما يحدث في سد النهضة مختلف؛ فغياب الشفافية في التشغيل وعدم إخطار دول الجوار بمواعيد فتح أو إغلاق البوابات يجعل من النيل الأزرق نهرًا متقلبًا يبدّل حاله بين الانحسار والفيضان في غضون ساعات. هذا التذبذب الحاد يخلق وضعًا أشبه بـ«الفيضان المصطنع» — أي فيضان لا يحدث بفعل الطبيعة، بل بسبب تدخل بشري مباشر في إدارة السد.

وتكمن الخطورة في أن الكمية المحتجزة خلف سد النهضة هائلة تفوق قدرة أي نظام طبيعي في الإقليم على امتصاصها سريعا إذا أُطلقت دفعة واحدة. فبحيرة السد قادرة على تخزين ما يزيد عن 74 مليار متر مكعب من المياه، أي ما يعادل تقريبا التدفق السنوي للنيل الأزرق بأكمله. إذا افترضنا أن خطأ تشغيليا أو خللاً إنشائيا أدى إلى إطلاق جزء من هذه الكمية خلال فترة قصيرة، فإن الموجة المائية الناتجة قد تصل إلى ارتفاعات كارثية في السودان.

كل زيادة بمقدار متر واحد في منسوب النيل الأزرق في موسم الفيضان تعني غمر آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية

النماذج الهيدرولوجية التي أعدها خبراء في جامعة الخرطوم وجامعة القاهرة تشير إلى أن انهيارًا جزئيا للسد يمكن أن يولد موجة فيضانية يبلغ ارتفاعها أكثر من 20 مترا في بعض المناطق القريبة من الحدود، وهو ما يعني تدميرا شبه كامل للبنية التحتية على امتداد مئات الكيلومترات، وغرق مدن بكاملها مثل الروصيرص وسنار وربما الخرطوم نفسها خلال ساعات قليلة.

لكن حتى دون الوصول إلى سيناريو الانهيار الكامل، فإن الاحتمال الأكثر واقعية يتمثل في «فيضانات تشغيلية» — أي تلك الناتجة عن قرارات فنية خاطئة أو تفريغ مفاجئ بسبب ضغط زائد خلف السد. في هذه الحالة، لا يحتاج الأمر إلى انهيار خرساني، بل يكفي أن تفتح إثيوبيا البوابات العليا لتصريف كميات كبيرة دفعة واحدة بهدف حماية جسم السد من الإجهاد. هذه العملية، إن تمت دون تنسيق مع السودان، يمكن أن تحدث موجة مياه مرتفعة تتجه بسرعة هائلة نحو سد الروصيرص الذي لا يبعد كثيرا، وقد يؤدي تداخل الموجتين من السدين إلى تضخيم ارتفاع المياه بشكل يفوق قدرة النظام الهيدروليكي السوداني على الاستيعاب.

وكل زيادة بمقدار متر واحد في منسوب النيل الأزرق في موسم الفيضان تعني غمر آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وتزداد احتمالات هذا السيناريو في حال حدوث أمطار غزيرة غير متوقعة على الهضبة الإثيوبية، لأن السد وقتها يواجه معضلة مزدوجة، إذا لم يفتح بواباته، يتعرض لخطر امتلاء الخزان وتجاوز السعة التصميمية؛ وإذا فتحها فجأة، يطلق موجة مائية جارفة نحو السودان. في الحالتين، يكون الخطر قائمًا.

والخطورة هنا لا تتعلق فقط بفيضان واحد، بل بتكرار الظاهرة؛ فالتقلب المستمر بين ملء الخزان وتفريغه على مدى سنوات يمكن أن يضعف تدريجيًا استقرار التربة في المناطق الواقعة أسفل السد، ويؤدي إلى تآكل الضفاف وانهيارها. هذا النوع من التآكل غير المتوازن يغير شكل مجرى النهر ويزيد احتمالية الانهيارات الطينية التي تُضخّم أثر أي فيضان لاحق.

وقد أثار عدد من الخبراء مخاوف بشأن طبيعة التربة الجبلية التي أُقيم عليها سد النهضة، إذ تقع المنطقة في نطاق زلزالي نشط نسبيًا، ما يعني أن أي هزة أرضية متوسطة قد تؤثر على استقرار السد إذا تزامنت مع ارتفاع منسوب الخزان. الدراسات الزلزالية التي أجريت في إقليم بني شنقول أشارت إلى أن المنطقة شهدت خلال العقود الماضية نشاطا تكتونيا محدودا لكنه متكرر، وهو ما يفرض ضرورة اتباع أعلى معايير الأمان الهندسي. غير أن إثيوبيا لم تقدم بعد تقارير تفصيلية عن فحوصات السلامة الهيكلية بعد كل مرحلة ملء، وهو أمر غير معتاد في مشاريع بهذا الحجم.

في السودان، ينظر إلى هذه الاحتمالات بقلق بالغ. فوجود سد الروصيرص وسنار خلف السد الإثيوبي مباشرة يجعل منهما "منطقة عازلة خطرة" أي فيضان مفاجئ سيضربهما أولًا، وإذا فاض أحدهما، فسوف تتتابع الكارثة كقطع الدومينو وصولًا إلى الخرطوم.

وحتى في حال نجت السدود السودانية من الانهيار، فإن المدن الواقعة على ضفتي النيل الأزرق ستتعرض لغمر واسع النطاق، لأن معظمها بني على ارتفاعات منخفضة لا تتجاوز بضعة أمتار فوق منسوب النهر. وتفيد تقديرات فنية أعدتها هيئة الأرصاد المائية السودانية بأن موجة مائية ناتجة عن تصريف اضطراري من سد النهضة يمكن أن تصل إلى الخرطوم خلال أقل من 24 ساعة، وهو وقت لا يكفي لإجلاء السكان أو تأمين المنشآت الحيوية.

أبعد من مجرد كارثة بيئية

أما في مصر، فالأثر المباشر سيكون أقل حدة بفضل السد العالي، لكنه ليس معدوما. فالموجة المائية القادمة من السودان ستدخل في النهاية بحيرة ناصر، مما يفرض على مصر تصريفا اضطراريا من السد العالي لحماية جسمه من الضغط الزائد. ذلك بدوره قد يرفع منسوب المياه في مجرى النيل بمناطق الصعيد والدلتا، مسببا غمرا جزئيًا للأراضي الزراعية، خصوصا في أراضي "طرح النهر" التي تقع داخل نطاق الفيضان الطبيعي. بهذا الشكل، تتحول الكارثة المائية في إثيوبيا والسودان إلى تهديد بيئي وزراعي في مصر أيضا، ولو بعد أيام من الحدث الأصلي.

لكن يبقى السؤال العلمي الأهم: هل السد نفسه مصمم بحيث يتحمل هذه الضغوط؟

البيانات المعلنة من الجانب الإثيوبي تشير إلى أن السد من النوع الخرساني الثقيل بارتفاع يبلغ نحو 145 مترًا وطول 1800 متر، وهو من الناحية النظرية قادر على استيعاب ضغوط هائلة. ومع ذلك، فإن المعايير النظرية لا تكفي ما لم تقترن بصيانة دورية ورقابة دولية على الأداء. فالعامل البشري هو الحلقة الأضعف دائما في أي منظومة هندسية.

وفي غياب منظومة مراقبة مشتركة، تبقى كل عملية فتح أو غلق للبوابات مرهونة بتقدير لحظي من المشغل الإثيوبي، وهو ما يعني أن الخطأ البسيط في التوقيت أو في حساب ضغط المياه يمكن أن يُحوّل النهر من مورد للحياة إلى سلاح طبيعي لا يمكن السيطرة عليه.

من الزاوية السياسية، يحمل هذا السيناريو دلالات أبعد من مجرد الكارثة البيئية؛ إذ إن استخدام المياه كسلاح غير مباشر عبر التحكم في الفيضان يثير أسئلة حول الأمن المائي كجزء من الأمن القومي. فإذا كانت الدولة التي تتحكم في المنبع قادرة على خلق فيضان اصطناعي في أي وقت، فإنها تملك قدرة ردع هيدرولوجية لا تقل خطورة عن السلاح التقليدي.

المجلة
تداعيات سد النهضة

ولذلك، لا ينظر الخبراء إلى خطر الفيضان المحتمل كقضية طارئة، بل كأحد محاور الصراع البنيوي على إدارة النيل، حيث تتحول القرارات الفنية إلى أدوات نفوذ سياسية.

ورغم أن احتمالية الانهيار الكامل للسد تبقى منخفضة وفق الحسابات الهندسية، فإن السيناريوهات المتوسطة — أي الفيضانات التشغيلية المفاجئة أو انهيار جزء من البوابات — تبقى واقعية تماما في ظل غياب آلية إنذار مبكر وتبادل بيانات فوري مع السودان ومصر. فأي خلل في نظام الصرف يمكن أن يولد موجة بارتفاع عدة أمتار خلال ساعات قليلة، وهو وقت غير كافٍ لأي دولة مصب لتفعيل خطط الطوارئ.

وهنا تكمن المفارقة، فالخطر لا ينبع من القوة المائية وحدها، بل من الجهل بما يجري في المنبع.

font change