أوروبا و "جدار المسيرات"... هل ينتقم بوتين لانهيار "جدار برلين"؟

ثلاث صور تختصر التحولات في "القارة العجوز" وسط تردد ترمب

أ.ف.ب
أ.ف.ب
جندي مشاة يهرب من هجوم محاكاة بطائرة بدون طيار أثناء دورة تدريبية أساسية في موقع غير معلن في شرق أوكرانيا في 11 أكتوبر 2025

أوروبا و "جدار المسيرات"... هل ينتقم بوتين لانهيار "جدار برلين"؟

الجدران وليدة الخوف، وبين الأيديولوجيا التي صاغت حدود الحرب الباردة والتكنولوجيا التي تعيد رسم حدود الحرب الحديثة، يتصدع الحلم الأوروبي الذي وعد بالوحدة وبالإنسانية.

من الأيديولوجيا ولد الجدار الأول، "جدار برلين"، ومن التكنولوجيا ولد الثاني، "جدار المسيّرات". وبين الجدارين تجد أوروبا نفسها أمام امتحانها الأصعب، أن تبقى موحدة في عالم يعود إلى بناء الجدران.

سردية الجدران هذه ليست استعادة للتاريخ فحسب، بل لنقاش سؤال ملح اليوم، كيف تغيرت أوروبا، أو بالأحرى كيف غيرها الخوف؟ الخوف من الحرب، من الانقسام، من روسيا، ومن نفسها أحيانا؟

تعامل بوتين على مدى خمس دورات من حكمه مع أربعة رؤساء أميركيين متعاقبين وشهد تبدل عشرات القادة الأوروبيين بين صعود وسقوط

فبعد أكثر من ثلاثة عقود على سقوط "جدار برلين" تبني القارة جدارا جديدا في السماء لمواجهة المسيرات الروسية. لكن الجدران لا تعود لوحدها بل تستدعي مخاوف الذين بنوها أول مرة. جدار 2025 لا يكشف الحاجة للدفاع فقط، بل يكشف خوفا عميقا على المشروع الأوروبي نفسه، وعلى فكرة السلام التي اعتقدت دوله أنها ستدوم طويلا بعيدا عن صراعات الشرق. لكن بوتين تسلل إلى هذا المشروع منذ زمن، لا بحربه على أوكرانيا في 2022 ولا حتى بضمه جزيرة القرم في 2014، بل قبل ذلك بكثير، تحديدا في 1989.

في ذلك اليوم البارد في نوفمبر/تشرين الثاني، وبينما يدمر البرلينيون الجدار، ولدت في الجانب الآخر، وتحديدا في دريسدن في ألمانيا الشرقية، أحلام ضابط سوفياتي ثلاثيني كان، مع كل حجر يسقط، يعد نفسه أن يبني مكانه جدرانا وأسوارا في أزمان أخرى وأشكال أخرى.

هناك ولد فلاديمير بوتين سياسيا. درس وحفظ أوروبا قبل أن يحكم روسيا. فقد كان عمله في جهاز الاستخبارات "كي جي بي" مدرسة لفهم العقل الأوروبي. وبعد سنوات خرج ذلك الضابط إلى العالم قيصرا جديدا يحكم دولة تمتد بين قارتين. تعامل على مدى خمس دورات من حكمه مع أربعة رؤساء أميركيين متعاقبين وشهد تبدل عشرات القادة الأوروبيين بين صعود وسقوط.

أ.ف.ب
سكان برلين الغربية أمام جدار برلين في أوائل 11 نوفمبر 1989، وهم يشاهدون حرس الحدود من ألمانيا الشرقية يهدمون جزءاً منه لفتح معبر جديد بين برلين الشرقية والغربية، بالقرب من ساحة بوتسدام

من أحجار "جدار برلين" سيبني بوتين استراتيجيته الخاصة لتغيير واقع الغرب، ويزرع الجدران في العقول قبل أن يحيلها إلى هاجس يومي تنشده القارة للخلاص والحماية..

هذا ما تحدث عنه بنفسه بعد انتخابه رئيسا للمرة الأولى في عام 2000 في استذكاره سقوط "جدار برلين". إذ قال إن "خسارة الاتحاد السوفياتي المؤسفة كانت أمرا حتميا لأن المواقع المبنية على الجدران والانقسامات لا يمكن أن تصمد".. لكنه أضاف: "كنت أريد أن ينهض في مكانها شيء مختلف".

تعيش "القارة العجوز" هذا "المختلف" اليوم، والجواب على تحدياتها ومتغيراتها يتلخص في ثلاث صور رئيسة:

أخطر الهجمات بالمسيرات لم تأت بالضرورة من خارج الحدود، وعملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية في العمق الروسي في منتصف هذا العام من أبرز الأمثلة على أن الجدار يصبح وهما عندما تأتي الضربات من الداخل

كوبنهاغن… بداية النهاية؟

منذ بداية الحرب الروسية-الأوكرانية، تغيرت أوروبا أكثر مما تُقر به. وازدادت الفجوات بين أولويات شرقها وغربها وضوحا.

الصورة الأولى من كوبنهاغن، هي لاجتماع لقادة أوروبا أواخر سبتمبر/أيلول 2025 على وقع تهديد المسيّرات الروسية وتحليق المقاتلات في أجواء دول مختلفة، من بولندا إلى أستونيا ورومانيا والدنمارك.

الاجتماع الطارئ كان أشبه بإنذار جماعي، من أن القارة العجوز التي ظنت أن الحرب بعيدة، باتت تراها فوق سمائها. هكذا برزت فكرة "جدار المسيرات" كدرع مشترك للكشف والتتبع والاعتراض عند حدود دول الاتحاد. لكن صعوبة التنفيذ، والخلاف على تمويلها والتوقيت، كشفتا انقساما أعمق وترددا استراتيجيا يمنح موسكو هامش مناورة أوسع.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد وصولهما إلى قاعدة إلمندورف- ريتشاردسون المشتركة في أنكوريج، ألاسكا، في 15 أغسطس 2025

قالها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بوضوح: "يجب أن نكون صريحين مع مواطنينا: لا يوجد قبة حديدية لأوروبا" وتساءل: "هل تعتقدون أن جدارا مثاليا مضادا للمسيّرات على حدود تمتد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر أمر ممكن التنفيذ؟ الجواب هو لا".

وفي خضم النقاش حول دور "الناتو" وتفعيل المادة الخامسة من ميثاقه لجهة الدفاع المشترك، جاء صوت السويد، هادئا لكنه قاطع، على لسان رئيس الوزراء أولف كريسترسون الذي قال "إن الاتحاد الأوروبي ليس حلفا عسكريا". موقف لافت من أحدث المنضمين للحلف الأطلسي، الدولة التي أنهت حيادها التاريخي قبل عام فقط. لكن هذا التصريح أبعد من كونه تحذيرا، إذ يذّكر بالتساؤلات الأوروبية حول فتور الحماسة الترمبية للدفاع عن القارة ومدى إمكانية بناء مظلة حماية أوروبية خارج العباءة الأميركية.

من جهته، فإن رئيس الوزراء الإستوني كريستين ميخال لم يخف تشككه في جدوى "حائط الدرونز" أيضا، وحذر من بناء "خط ماجينو" جديد، ذلك الخط الذي فشل في صدّ الغزو الألماني لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.

وبين أسئلة دفاعية بلا إجابات حاسمة، بدا بوتين كمن يتلقى الإجابات عمليا: يدفع بالمسيّرات من بعيد ويراقب، ويكفيه تردد أوروبا. وجاء استهزاء ترمب بفرضية أن الطائرات المسيّرة روسية، ليزيد ثقة الكرملين بخطواته المقبلة.

ما تختبره روسيا اليوم ليس القدرة العسكرية الأوروبية فحسب، بل تماسك أوروبا نفسها على المبادئ التي قامت عليها. فإضافة إلى المساواة والحريات وحقوق الإنسان، بنت أوروبا اتحادها على مبدأ الاعتماد المتبادل، لتكتشف اليوم أنها تعتمد على الآخرين بلا طائل، على الغاز الروسي لتدفأ وعلى التكنولوجيا الصينية لصناعتها وعلى المظلة الأميركية لحمايتها. وفي كل نقاش حول "حائط للدرونز" في السماء يتبين أن السماء ليست وحدها المهددة، بل مفهوم السيادة ذاته.

والأمر الأكثر إرباكا أن أخطر الهجمات بالمسيرات لم تأت بالضرورة من خارج الحدود، وعملية "شبكة العنكبوت" الأوكرانية في العمق الروسي في منتصف هذا العام من أبرز الأمثلة على أن الجدار يصبح وهما عندما تأتي الضربات من الداخل.

على السجادة الأميركية حظي الرئيس الروسي بالفرصة الذهبية ليذكر العالم بأنه يعيد تشكيل موازين القوى وليكرر قناعته أنه دخل هذه الحرب لفرض توازن أمني عادل في أوروبا

المدرّس الأميركي و"التلاميذ" الأوروبيون

الصورة الثانية تأتي من اجتماع قادة أوروبا مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب في أغسطس/آب 2025، في المكتب البيضاوي. المكتب نفسه الذي جلسوا فيه لعقود بقناعة أن واشنطن دوما الضمانة الأمنية والدرع الذي لا يتردد في الدعم. لكن الصورة هذه قلبت الطاولة.

وفي لحظة إدراك تكشفت أمام قادة أوروبا أن كل الزيادات في الإنفاق الدفاعي الذي بات يشكل أضخم برنامج لإعادة التسلح منذ انتهاء الحرب الباردة، وكل مساهماتهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لم تشتر لهم قرارهم الاستراتيجي، وأن تحالفهم قد يكون أقرب إلى عقد تجاري منه إلى مظلة حماية أمنية.

ألمانيا التي هدمت "جدار برلين" وجعلت من الاتحاد رمز وحدتها، باتت تحت وطأة جدار آخر.. جدار الإنفاق العسكري، لتصبح الرابعة عالميا بقرابة 89 مليار دولار. ومع ذلك يخرج ترمب ليذّكرها، كما يذّكر الجميع، بأن المظلة الأميركية ليست مجانية وأن الحماية سلعة يمكن التفاوض على سعرها. كلام ترمب مسنود بأرقام هائلة في الإنفاق الدفاعي الأميركي الذي يشكل 66 في المئة من إنفاق الحلف، وهي الأولى عالميا بـ997 مليار دولار.

أمام كل ذلك تعيش أوروبا تغيراَ أساسيا: انقلاب الثقة في واشنطن، وتحولها من الحليف الأوثق الذي يملك مفاتيح أمنها إلى الحليف الأقسى الذي يبدل شروطه ويغير تحالفاته بين اجتماع واتصال وقمة. ومن هذا الانقلاب نجحت موسكو في شيء لم تحققه حتى "الحرب الباردة"، شك أوروبا بذاتها وبحلفائها قبل أن تشك بخصومها.

"القيصر" ومشهد جديد

أما الصورة الثالثة فهي بتوقيت آلاسكا. هناك حيث منح ترمب بوتين لحظة تاريخية لا تتكرر فيما تقف أوروبا مرتبكة ومتوجسة.

على السجادة الأميركية حظي الرئيس الروسي بالفرصة الذهبية ليذكر العالم بأنه يعيد تشكيل موازين القوى وليكرر قناعته أنه دخل هذه الحرب لفرض توازن أمني عادل في أوروبا بحسب رؤيته؛ توازن يترجم، في نظره بضم أراض أوكرانية ودفع القوات الغربية بعيدا عن حدود إمبراطوريته.

الخيارات أمام أوروبا قليلة، وتواجه اليوم امتحانا ثلاثي الأضلاع: بوتين أمامها وعلى أرضها وفي أجوائها، وترمب يساومها على حمايتها، والصين- شريكها الاقتصادي الأول- تراقب وتنتظر السعر المناسب للدخول

هذه اللحظة لم تكن مجرد استعراض، بوتين بدا كتلميذ مجتهد يدرس الأخطاء ويطوّر التكتيكات ويتعلم من السنوات الأولى للحرب، ويجرب تقنيات جديدة من المسيّرات إلى استراتيجيات الضغط النفسي.

لكن تلك اللحظة "الآلاسكية" كانت أعقد من كل ذلك. أين هو ترمب؟ وكيف يرضى باللاشيء الذي يقدمه بوتين. وأي بوتين سيواجه أصلا؟ بوتين الذي يحاول دوما فتح حوار مع "الصديق القديم" وأشاد بالسياسات الترمبية أكثر من 6 مرات في خطابه الأخير في "فالداي"؟ أم بوتين الذي التفت شرقا ووقف في الصفوف الأمامية في احتفالات الصين بالانتصار على اليابان وسط المخاوف من بروز تحالف ثلاثي نووي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإعادة تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب؟

النتيجة بالنسبة لأوروبا كانت أن القارة لم تعد محور الأحداث، بل متفرجة على تجدد الدور الروسي وعدم الحسم الأميركي والتردد الأوروبي.

صدوع أوروبية

ما تغيّر في أوروبا كثير. الاقتصاد الذي كان مفخرتها آخذ في التصدع والصناعات التي شكلت صورتها الحديثة، من السيارات إلى الذكاء الاصطناعي ومرورا بالدفاع، باتت رهينة المنافسة الصينية والشروط الأميركية. ابتكاراتها وإنتاجها الثقافي والإبداعي يكاد يدخل المتاحف بدل أن يتصدر العالم ويحاكي الأجيال.. حتى الأزياء، أحد رموز هويتها الناعمة، تراجعت أمام الزحف الصيني الذي غزا أسواقها ومخيلتها معا.

وخارج حدود القارة يتجلى التراجع أكثر: حضورها السياسي والثقافي يتضاءل في الشرق الأوسط، ونفوذها الاستثماري يتراجع في أفريقيا والأسواق التي كانت تنتظر إنجازاتها تقابلها ببرود غير مسبوق.

أ.ف.ب
القادة الأوروبيون ورؤساء الدول في صورة عائلية للقمة السابعة للمجتمع السياسي الأوروبي (EPC) في مركز بيلا في كوبنهاغن في 2 أكتوبر 2025

الخيارات أمام القارة قليلة، وتواجه اليوم امتحانا ثلاثي الأضلاع: بوتين أمامها وعلى أرضها وفي أجوائها، وترمب يساومها على حمايتها، والصين- شريكها الاقتصادي الأول- تراقب وتنتظر السعر المناسب للدخول.

قد يكون بوتين غيّر أوروبا وصدمها يوم اجتاحت دباباته أوكرانيا، لكنه يتحرك دوما وفق استراتيجيته المعلنة منذ توليه السلطة وهي استراتيجية الفأر المهدد وقاعدته بسيطة: قاوم، تحمّل وهاجم عندما تضيق الزاوية.

أما المجهول، فهو استراتيجية أوروبا: هل تستطيع أن تتحمّل، أن تهاجم، أن تفرّق بين الحليف الذي من المفترض أنه يشاركها المصير، والشريك الذي يساومها على بقائها؟

font change

مقالات ذات صلة