"أعيدوهم"... اليمين الشعبوي في أوروبا يعيد تغليف أفكار قديمة

تجد، ولدهشة الليبراليين، آذانا صاغية

غريغوري سافيدرا
غريغوري سافيدرا

"أعيدوهم"... اليمين الشعبوي في أوروبا يعيد تغليف أفكار قديمة

أعلن نايجل فاراج، زعيم حزب "الإصلاح" البريطاني الشعبوي، في أواخر أغسطس/آب، أنه إذا فاز في الانتخابات المقبلة في المملكة المتحدة فسيسعى إلى ترحيل ما يصل إلى 600 ألف مهاجر غير شرعي وطالب لجوء خلال خمس سنوات.

تعكس هذه السياسة بوضوح الوعد الانتخابي الذي أطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والذي يبدو أنه بدأ بتنفيذه، والمتمثل في إطلاق "أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة". وتتقاطع هذه الخطط مع ما طرحه حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) خلال الانتخابات الفيدرالية عام 2025، حين دعا إلى تنفيذ "عمليات ترحيل واسعة النطاق" تستهدف المهاجرين غير الألمان.

وهكذا، يبدو أن الترحيل قد تحول إلى ركيزة أساسية في سياسات الغرب. غير أن هذه الفكرة ليست جديدة، فقد طالبت بها الجماعات اليمينية المتطرفة في أوروبا لعقود تحت شعار "إعادة المهاجرين". أما اليوم، فقد أعادت أحزاب اليمين الشعبوي صياغة هذه الطروحات وتقديمها على أنها حلول للمشاكل الداخلية، لتجد، ولدهشة الليبراليين، آذانا صاغية لدى قطاعات واسعة من الرأي العام.

يحظى فاراج وحزبه بزخم لافت في استطلاعات الرأي. فبحسب أحدث استطلاع أجرته "سكاي/يوغوف"، قال 28 في المئة من الناخبين إنهم سيصوتون لصالحه إذا أجريت الانتخابات غدا، مقابل 20 في المئة لحزب "العمال" الحاكم، و17 في المئة فقط لحزب "المحافظين"، الحزب اليميني التقليدي. ومع أن هذه الأرقام لا تعني بالضرورة أن فاراج في طريقه إلى رئاسة الحكومة، فالنظام الانتخابي البريطاني يجعل من الصعب على الأحزاب الجديدة تحقيق اختراق واسع، إلا أن احتمال صعوده لم يعد أمرا مستبعدا تماما. والوضع مشابه في ألمانيا، حيث تمكن حزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) من الانتقال من الهامش السياسي إلى موقع مؤثر، محققا 20.8 في المئة من الأصوات في انتخابات فبراير/شباط 2025 ليحل في المركز الثاني. وبذلك، قد يغدو الترحيل الجماعي على الطريقة الترمبية جزءا من المشهد السياسي الأوروبي في المستقبل القريب.

دعت "الجبهة الوطنية" (NF) البريطانية (وهي حزب نازي جديد) في برنامجها الانتخابي لعام 1974، إلى الترحيل الإجباري لجميع المهاجرين غير البيض وأحفادهم ضمن خطة تستمر عشر سنوات

سوابق اليمين المتطرف

كيف وصلنا إلى الوضع الذي نحن فيه؟ إن ترحيل طالبي اللجوء المرفوضين أو المجرمين الأجانب ليس ظاهرة جديدة. فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، دأبت على إجبار من لا يملكون حقا قانونيا في البقاء على مغادرة البلاد، إذ تراوحت أعداد "حالات الترحيل القسري" بين 2500 و15 ألف حالة سنويا خلال الفترة ما بين 2010 و2025. لكن هذه الأرقام تبقى متواضعة للغاية مقارنة بمئات الآلاف الذين يتحدث عنهم فاراج وحزب "البديل من أجل ألمانيا" (AfD) وغيرهما. وعلى الرغم من نفيهم المستمر، فإن خططهم أقرب بكثير إلى شعارات اليمين المتطرف في سبعينات وثمانينات القرن الماضي منها إلى الممارسات التقليدية التي اقتصرت على ترحيل أعداد محدودة.

دعت "الجبهة الوطنية" (NF) البريطانية (وهي حزب نازي جديد) في برنامجها الانتخابي لعام 1974، إلى الترحيل الإجباري لجميع المهاجرين غير البيض وأحفادهم ضمن خطة تستمر عشر سنوات. غير أن هذه الأفكار قوبلت برفض واسع، إذ لم يتمكن الحزب من الحصول على أكثر من 0.6 في المئة من الأصوات في أي انتخابات عامة. وفي التسعينات، أعاد "الحزب الوطني البريطاني" (BNP)، المنبثق عن "الجبهة الوطنية" (NF)، طرح الفكرة ذاتها تحت شعار "إعادة" غير البيض، لكن بصيغة "طوعية" هذه المرة. ورغم هذه الصياغة المخففة، لم يتجاوز الحزب 1.9 في المئة من الأصوات في انتخابات 2010 العامة، وإن حقق حضورا أوضح في الانتخابات الأوروبية التي تشهد عادة إقبالا أقل من الناخبين.

غريغوري سافيدرا

غير أن حزب "استقلال المملكة المتحدة" (UKIP)، الذي تولى فاراج قيادته لاحقا، سرعان ما تفوق على "الحزب الوطني البريطاني" (BNP)، باعتباره حزبا شعبويا يمينيا لا "يمينا متطرفا". فقد جذب شريحة من الناخبين الأكثر اعتدالا ممن كانوا يميلون إلى "الحزب الوطني البريطاني" (BNP)، كما استقطب دعما ملحوظا من ناخبي المحافظين والعمال. وعلى عكس "الجبهة الوطنية"  (NF)و"الحزب الوطني البريطاني" (BNP)، نبذ حزب "استقلال المملكة المتحدة" (UKIP) العنصرية، واستهدف الهجرة عموما والاتحاد الأوروبي خصوصا. وينطبق الأمر نفسه على حزب "إصلاح المملكة المتحدة" (الذي كان يعرف سابقا باسم حزب بريكست)، الذي أسسه فاراج بعد مغادرته حزب "استقلال المملكة المتحدة"، والذي تلاشى دون زعيمه البارز. وللتأكيد على صورته غير العنصرية، سعى الحزب إلى إبراز تنوعه عبر تقديم شخصيات مثل ضياء يوسف، السياسي البريطاني المسلم والرئيس السابق للحزب، الذي ظهر إلى جانب فاراج خلال الإعلان عن خطة الترحيل. ومن اللافت أن سياسة الترحيل لم تكن يوما محورا رئيسا في أجندة فاراج، إذ كان تركيزه ينصب على منع تدفق المهاجرين أكثر من ترحيل من وصلوا بالفعل. لكن ذلك تغير حاليا.

أثر ترمب

لماذا إذن تلجأ حركة "ريفورم" (إصلاح) وأمثالها إلى أدوات اليمين المتطرف لفرض سياسة الترحيل، حتى وإن بدت دوافعها أقل عنصرية صراحة من تلك التي طرحتها "الجبهة الوطنية" (NF) أو "الحزب الوطني البريطاني" (BNP)؟ ولماذا تكتسب هذه الأفكار، التي رفضها الناخبون في السابق، زخما متزايدا في الوقت الراهن؟

في المملكة المتحدة، اتهم حزب "المحافظين" المأزوم، الذي أصبح أكثر تشددا في ملف الهجرة، فاراج بـ"نسخ سياساتنا" بعد إعلانه الأخير

أحد العوامل المهمة– في المملكة المتحدة على الأقل– يتمثل في الزيادة الهائلة في أعداد المهاجرين غير الشرعيين. فبينما كانت الأرقام في السابق لا تتجاوز بضع مئات، تغير الوضع جذريا منذ عام 2021، إذ أصبح يعبر القنال الإنكليزية ما لا يقل عن 28 ألف شخص سنويا في قوارب صغيرة، ووصل العدد إلى 45 ألفا في عام 2022. واللافت أن هذه الزيادة جاءت بشكل مفارق كنتيجة مباشرة لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وهو القرار الذي دافع عنه نايجل فاراج بشغف. فقد أدى "البريكست" إلى فقدان لندن عضويتها في "اتفاقية دبلن"، التي كانت تتيح للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي إعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى أول دولة عضو دخلوها.

غريغوري سافيدرا

ومن العوامل الأخرى البارزة صعود الشعبوية في مختلف أنحاء أوروبا، وتزايد الميل إلى السياسات اليمينية لدى شرائح متنامية من الناخبين. فقد أسهم فقدان الثقة في الأحزاب الحاكمة التقليدية، والرفض الواضح للتعددية الثقافية، إلى جانب حالة الركود الاقتصادي، في تعزيز استعداد الأوروبيين للإصغاء إلى حلول اليمين لمشكلاتهم، بما في ذلك، على ما يبدو، تكثيف عمليات الترحيل. يمكن القول إن المحفز الأكبر لسياسة فاراج الجديدة هو على الأرجح دونالد ترمب. فالأحزاب الشعبوية في أوروبا ليست ظاهرة مستجدة، بل كانت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين جزءا أساسيا من المشهد السياسي. وعلى الرغم من أن جميع هذه الأحزاب عارضت الهجرة منذ البداية، فإن التركيز على الترحيل والإعادة إلى الوطن لم يكتسب زخما ملحوظا إلا خلال العام الأخير.

مع ضرب المثال الأميركي بقيادة ترمب، يبدو أن عمليات الترحيل الجماعي قد تشق طريقها قريبا إلى أوروبا أيضا

وليس من قبيل المصادفة أن يتزامن ذلك مع وعد ترمب بترحيل أكثر من عشرة ملايين مهاجر غير شرعي يقيمون في الولايات المتحدة. ووفقا لشبكة "إن بي سي"، رحلت "إدارة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك" (ICE) نحو 70 ألف مهاجر بين فبراير/شباط ويونيو/حزيران، مع استمرار ارتفاع الأعداد على نحو واضح. هذه السياسات تسهم في تطبيع الترحيل كخيار سياسي عملي، وهو ما يمنح الشعبويين الأوروبيين، الذين يعبر كثير منهم علنا عن إعجابهم بالرئيس الأميركي، غطاء لتبني نهج مشابه في بلدانهم.

نحو التيار العام

في الوقت الذي يواصل فيه الليبراليون معارضة الترحيل الجماعي، مجادلين بأن فاراج وحزب "البديل من أجل ألمانيا"  (AfD)  يلقون باللوم على المهاجرين في مشاكل المجتمع، تواصل الفكرة اكتساب زخم يتجاوز حدود الأحزاب الشعبوية. ففي المملكة المتحدة، اتهم حزب "المحافظين" المأزوم، الذي أصبح أكثر تشددا في ملف الهجرة، فاراج بـ"نسخ سياساتنا" بعد إعلانه الأخير. وفي المقابل، دعا وزير الداخلية العمالي السابق جاك سترو بلاده إلى "الانفصال" عن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان– وهو المطلب الذي يتبناه فاراج– لتمكين لندن من ترحيل المزيد من المهاجرين. وحتى رئيس الوزراء كير ستارمر التزم صمتا لافتا بشأن القضية، في حين سعت حكومته إلى إبراز أعداد المهاجرين غير الشرعيين الذين رُحلوا منذ توليها السلطة. وفي الأثناء، يواصل الشعبويون في أوروبا الترويج بشكل متزايد لفكرة "إعادة الهجرة"، سواء في ألمانيا أو النمسا أو هولندا أو إسبانيا أو البرتغال، رغم أن مارين لوبان، زعيمة اليمين الشعبوي الفرنسي، رفضت هذه الفكرة صراحة. ومع ضرب المثال الأميركي بقيادة ترمب، يبدو أن عمليات الترحيل الجماعي قد تشق طريقها قريبا إلى أوروبا أيضا.

font change