عطل "أمازون" الذي حرم العالم من الإنترنت

هشاشة تكنولوجية...

REUTERS
REUTERS
يمر الناس أمام شعار شركة "أمازون ويب سيرفيسز" (AWS) في جناح معرضها في مؤتمر الهند للهواتف المحمولة 2025

عطل "أمازون" الذي حرم العالم من الإنترنت

في صباح يوم الاثنين 20 أكتوبر/تشرين الأول، بينما كانت العواصم تستيقظ على روتينها المعتاد، وقعت الحادثة التي بدت في لحظتها عابرة، لكنها ستصبح خلال ساعات مادة لنشرات الأخبار ومراكز الأبحاث وشركات التأمين وشاشات التداول المالي.

ففي السادسة والنصف صباحا بتوقيت واشنطن، بدأت مؤشرات الخطأ في لوحات مراقبة شركة "أمازون ويب سيرفيسز" بالارتفاع. خطوط حمراء أخذت تتكاثف في منحنيات الأداء داخل غرفة التحكم الزجاجية بمركز بيانات ضخم في فيرجينيا الشرقية. وفي غضون دقائق، انتقلت موجات الخلل عبر شبكات الألياف البصرية، من خادم إلى آخر، من عقدة إلى عقدة، حتى وصلت إلى العصب الأساس لنظام أسماء النطاقات، المعروف اختصارا بـ DNS، ذلك النظام الذي يحفظ للإنترنت ذاكرته ومكانه.

في المقاهي التي يعمل فيها المبرمجون المستقلون، وفي مكاتب الشركات الكبرى، وحتى في البيوت التي تعتمد على الأجهزة الذكية، بدأت الشكوى نفسها، فالتطبيق لا يعمل. أصبحت الشاشة سوداء، ودائرة تحميل تدور ولا تنتهي. البعض ظنها مشكلة في الإنترنت المحلي، آخرون أعادوا تشغيل أجهزتهم، ثم بدأت الحقيقة تتضح على منصات المراقبة مثل "داون ديتكتور" التي قالت إن هناك خللا عالميا مصدره "أمازون ويب سيرفيسز"، وإن الشركة التي تقدم بنية الإنترنت لمئات الآلاف من التطبيقات، من البنوك إلى الألعاب، توقفت فجأة عن العمل.

"أمازون ويب سيرفيسز" ليست مجرد شركة تقنية. فهى البنية التحتية غير المرئية التي يعتمد عليها كل ما نفعله تقريبا في العالم الرقمي. عندما تفتح تطبيقا لحجز رحلة، أو ترسل رسالة، أو تطلب وجبة عبر تطبيق توصيل، هناك احتمال كبير أن الطلب يمر عبر خوادم تلك الشركة، فهي الطبقة التي تدير الطبقات الأخرى، والأرض الصلبة تحت الغيوم التي نسميها "السحابة". لذلك، عندما تتعطل، لا يتأثر موقع واحد، بل يتأثر جزء من العالم نفسه.

بعد ساعة من بدء العطل، كانت التقارير تتدفق" خرج "سناب شات" من الخدمة، وأصبح موقع "ريديت" لا يستجيب، وتوقف موقع "فينمو"، وزووم بطيء، وحتى خدمات "أمازون" نفسها – من "برايم فيديو" إلى "أليكسا" – بدأت تتجمد. في مطارات الولايات المتحدة، تعذرت عملية تسجيل المسافرين على رحلات "دلتا ويونايتد" وشكا الركاب من اختفاء حجوزاتهم. كما لم تعد بعض أنظمة الدفع قادرة على التحقق من العمليات. في لحظة واحدة، امتد أثر العطل من غرف المراهقين الذين لا يستطيعون تشغيل ألعابهم المفضلة إلى مكاتب الطيارين الذين ينتظرون إشارة التشغيل من نظام الحجز المركزي.

لم يأت العطل من فراغ. فبحسب التحقيقات الأولية التي أجرتها "أمازون"، بدأ الخلل في خدمة مراقبة صحة الشبكة داخل منظومة EC2 – التي تعد القلب التشغيلي لخدمات "أمازون"، إذ أنها مسؤولة عن توزيع الحمل بين آلاف الخوادم بحيث لا يتكدس الضغط على مكان واحد.

تفاقم الأمر عندما بدأ نظام DNS – الذي يترجم أسماء المواقع إلى عناوين رقمية – في الفشل التدريجي. ومعه فقد الإنترنت ذاكرته القصيرة الأمد

لكن النظام الذي يفترض أن يراقب التوازن أصيب بعطب في نفسه، مما تسبب في إرسال إشارات خاطئة. فانحرفت حركة البيانات، وتعطلت مساراتها، ولم تعد الطلبات تعرف إلى أي خادم تتجه. ثم تفاقم الأمر عندما بدأ نظام DNS – الذي يترجم أسماء المواقع إلى عناوين رقمية – في الفشل التدريجي. ومعه فقد الإنترنت ذاكرته القصيرة الأمد.

تشبه هذه الأعطال أحيانا بانقطاع التيار الكهربائي، لكنها أكثر غموضا. فالكهرباء عندما تنقطع، تنطفئ الأنوار فورا. أما الإنترنت عندما يتعطل، فإن الظلام ينتشر ببطء وبشكل غير متساو. بعض المواقع يسقط فورا، بعضها يظل يعمل لبضع دقائق ثم ينهار، وبعضها ينهار جزئيا فقط. لذلك يبدو المشهد في البداية ضبابيا.

طبقات من الأعطال

حتى المهندسون داخل "أمازون" أنفسهم احتاجوا إلى ساعات لفهم السبب الحقيقي. كان الخلل مركبا، فجزء من المشكلة في نظام DNS، وجزء في قاعدة بيانات DynamoDB، وجزء ثالث في مراقب الشبكة الداخلي، فطبقات من الأعطال تداخلت بشدة، مما فاقم الأمر.

في مقر "أمازون" بولاية واشنطن، كان المسؤولون يدركون أن العطل لا يمكن التستر عليه. فكل دقيقة تمر تكلف الشركات عملاءها وأموالها وثقتها. خلال الساعات الأولى، خسر بعض مزودي الخدمات ملايين الدولارات بسبب توقف المعاملات الإلكترونية. بالنسبة الى البنوك وشركات الطيران، يعني ذلك فوضى تشغيلية. وبالنسبة الى الأفراد، كان الأمر يثير إحساسا عميقا بالضعف، فالعالم الذي اعتادوا اعتباره دائم الاتصال يمكن أن يتعطل بسبب خطأ غير مقصود في سطر من كود برمجي.

REUTERS
يظهر شعار AWS وكابل "إيثرنت" مكسور في هذا الرسم التوضيحي الملتقط في أكتوبر

لكن الحكاية لا تتوقف عند الجانب التقني. لأن ما كشفه العطل كان أعمق، من هشاشة البنية الرقمية التي نعتمد عليها، والمركزية الشديدة في الإنترنت الحديث. فبينما صمم الإنترنت في بدايته ليكون نظاما لامركزيا مقاوما للأعطال، أصبح اليوم يقوم فعليا على حفنة من الشركات العملاقة التي تملك مراكز البيانات ومفاتيح المرور الرقمي. فعندما يتعطل مركز بيانات واحد في فيرجينيا، تتوقف تطبيقات في آسيا وأوروبا وأفريقيا. الأمر أشبه بانقطاع طريق واحد يؤدي إلى توقف حركة قارات بأكملها.

في تلك اللحظة، بدأت وسائل الإعلام التقنية والاقتصادية تتحدث عن مفهوم "السيادة الرقمية". الفكرة ليست جديدة، لكنها اكتسبت معنى ملموسا فجأة. تعني السيادة الرقمية قدرة الدول على إدارة بياناتها ومراكزها الحيوية داخل حدودها دون الاعتماد الكامل على مزودي خدمات خارجيين. ومع كل عطل عالمي، تتأكد الدول أن ما يحدث في مركز بيانات أميركي يمكن أن يشل وزاراتها ومطاراتها ومصارفها. وقد بدأت أوروبا منذ سنوات بناء مراكز بيانات وطنية، وتمتلك الصين شبكتها السحابية الخاصة، وتسعى الهند إلى استقلال رقمي تدريجي. لكن معظم العالم النامي لا يزال يعيش داخل النظام الأميركي حرفيا.

توفر "أمازون" أدوات حماية ونسخ احتياطي، لكن الشركات التي تفضل تقليل التكاليف تتجاهل هذه الخطوات، وحين تقع الكارثة تلوم المزود

البروفسور كين بيرمان من جامعة كورنيل

الأزمة لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة. ففي عام 2021 ثم عام 2020، شهدت المنطقة نفسها في فيرجينيا أعطالا مشابهة. وكأنها نقطة ضعف مزمنة في جسد "أمازون". ومع أن الشركة تقول إن لديها ثماني وثلاثين منطقة تشغيل حول العالم، إلا أن غالبية العملاء يختارون هذه المنطقة تحديدا لأنها الأرخص والأسرع، والأكثر دعما للخدمات المتقدمة. النتيجة أن فيرجينيا أصبحت بمثابة القلب المركزي، فإذا توقف، اهتز الجسد كله.

حذر الخبراء الذين تحدثوا بعد الحادثة، من مشكلة سلوك المستخدمين والشركات نفسها، لا من "أمازون" وحدها. فكما قال البروفسور كين بيرمان من جامعة كورنيل، فإن "أمازون توفر أدوات حماية ونسخ احتياطي، لكن الشركات التي تفضل تقليل التكاليف تتجاهل هذه الخطوات، وحين تقع الكارثة تلوم المزود". فجزء من الأزمة هو في الثقافة التقنية العالمية التي تضع الكفاءة الاقتصادية قبل الأمان البنيوي، فالسحابة تباع على أنها حل نهائي، لكنها في الواقع منظومة معقدة تحتاج إلى إدارة ذكية وتوزيع للأخطار.

في موازاة ذلك، كان الجانب الاقتصادي للأزمة يتكشف ببطء. بعض البورصات شهد تأخيرات في المعاملات الآلية، شركات التداول فقدت دقائق ثمينة من العمل. ومع ذلك، لم تهتز أسواق الأسهم كثيرا. سهم "أمازون" نفسه ارتفع قليلا، وكأن المستثمرين قرروا أن هذه العواصف أصبحت جزءا طبيعيا من مناخ التكنولوجيا الحديث. هذه المفارقة تكشف كيف أصبح العطب مقبولا بوصفه ضريبة الابتكار.

هشاشة مدهشة

ومع امتداد اليوم، بدأت الأنظمة تعود تدريجيا إلى العمل. عند الثالثة مساء بتوقيت المحيط الهادئ، أعلنت "أمازون" أن "جميع خدمات AWS عادت إلى الوضع الطبيعي". لكن المهندسين حذروا من أن بعض الخدمات لا تزال تعاني من تراكم الطلبات غير المعالجة، وأن الأمر سيستغرق ساعات لتصفية الرسائل المعلقة. لم يكن العطل قصيرا فحسب، بل ترك وراءه ذيولا من التأخير. في العالم الرقمي، الوقت لا يُقاس بالدقائق بل بالاعتمادات المتراكمة والطلبات غير المكتملة التي يمكن أن تمتد آثارها لأيام.

الصحافيون الذين غطوا الحادثة، شبهوها بعاصفة في بحر يبدو هادئا. السحابة، التي تقدم دائما كرمز للحداثة، كشفت عن وجهها الآخر: هشاشة مدهشة.

فكل هذا العالم الذي نراه في واجهة الهاتف، يعتمد على كابلات ومراكز بيانات وأجهزة مادية ضخمة في أماكن محددة جدا من العالم. الإنترنت ليس "سحابة" بالمعنى المجازي، بل هو منظومة من الحديد والكهرباء والبرمجيات. عندما تتعطل هذه العناصر، تتعرى الحقيقة، فلا يوجد شيء اسمه "اللامادية" في التكنولوجيا.

REUTERS
منظر جوي لمركز بيانات خدمات الويب من "أمازون" المعروف باسم US East 1 في أشبورن، فيرجينيا، الولايات المتحدة الأميركية

في الأيام التالية، بدأ النقاش يأخذ بعدا أعمق. تساءل السياسيون والخبراء في أوروبا وآسيا عن مدى معقولية الاعتماد على مزود أميركي واحد لتشغيل أنظمتهم الحساسة. ودعا بعضهم إلى تشريعات تلزم المؤسسات الحكومية تخزين بياناتها في مراكز محلية. في ألمانيا، تحدث مسؤول في وزارة الاقتصاد عن الحاجة إلى "بنية سحابية أوروبية مستقلة". وفي فرنسا، تم استدعاء لجنة طوارئ لمراجعة العقود التقنية الموقعة مع "أمازون" و"مايكروسوفت".

في المقابل، يرى بعض المحللين الأميركيين أن هذه المخاوف مبالغ فيها. فهم يعتبرون أن الحوادث التقنية أمر طبيعي في أنظمة بهذا الحجم، وأن "أمازون"، رغم كل شيء، تمتلك واحدة من أكثر البنى استقرارا في التاريخ الحديث. لكن ما لا يمكن تجاهله هو رمزية الحادثة، فالإنترنت الذي صمم ليكون شبكة قادرة على الصمود أمام حرب نووية، أصبح اليوم عرضة للانهيار بسبب خطأ في تحديث روتيني داخل مركز بيانات واحد.

الحقيقة التي لا يريد أحد الاعتراف بها بسهولة هي أن الكمال غير ممكن. في نظام بهذا الحجم تصبح الأعطال حتمية. المسألة ليست "هل ستحدث؟" بل "متى ستحدث"؟

في أروقة مراكز البحث التقني، عاد الحديث عن مفهوم "اللامركزية" وهي الفكرة الأصلية للإنترنت التي وُلدت في السبعينيات لتوزيع الأخطار وعدم الاعتماد على عقدة واحدة. التقنيات الحديثة مثل "البلوكتشين" أو "الحوسبة الطرفية" تقدم اليوم كإجابات محتملة على هذه الهشاشة. لكنها لا تزال في مراحلها الأولى، وتعاني من تكاليف ضخمة وصعوبات في التوسع. لذلك يظل العالم عالقا بين طموح اللامركزية وواقع المركزية الاقتصادية الذي تفرضه الشركات الكبرى.

من زاوية أخرى، بدا المشهد تكرارا لتاريخ أوسع. ففي يوليو/تموز 2024، تسبب خطأ في تحديث أمني لشركة "كلاود سترايك" في انهيار ملايين الأجهزة العاملة بنظام "ويندوز" حول العالم. تعطلت مطارات ومستشفيات وشركات مالية في دقائق. لم يكن هجوما إلكترونيا، بل خطأ بشريا بسيطا، لكنه كشف الوجه ذاته وهو الهشاشة. فنحن لا نحتاج لكارثة رقمية أو قنبلة إلكترونية، يكفي خطأ في سطر من كود. وهذا هو الخطر الأكبر في عصر يعتمد فيه كل شيء على البرمجيات.

اليوم، بعد مرور أيام على الحادثة، لا تزال النقاشات مستمرة داخل أروقة التكنولوجيا. وقد وعدت "أمازون" بمراجعة إجراءاتها وتحسين أنظمة المراقبة الداخلية، وتحدث بعض الخبراء عن ضرورة استخدام "الذكاء الاصطناعي" لتوقع الأعطال قبل حدوثها، عبر تحليل البيانات التشغيلية الضخمة. لكن الحقيقة التي لا يريد أحد الاعتراف بها بسهولة هي أن الكمال غير ممكن. في نظام بهذا الحجم تصبح الأعطال حتمية. المسألة ليست "هل ستحدث؟" بل "متى ستحدث"؟

ورغم ذلك، هناك ما هو مطمئن في هذه الهشاشة أيضا. فالعالم الرقمي يتعلم بسرعة. كل عطل يصبح درسا في المرونة، وكل انهيار يولد إصلاحا جديدا. لكن السؤال الذي يظل بلا إجابة هو: هل يمكن مجتمعا يعتمد بهذا الشكل الكلي على التكنولوجيا أن يظل مستقرا إذا انقطعت عنه فجأة؟ العطل الأخير لـ"أمازون" كان تجربة صغيرة لذلك المستقبل المحتمل، لحظة قصيرة من الصمت الرقمي كشفت كم نحن متشابكون، وكم نحن عرضة للانفصال.

عندما عادت الأنظمة إلى العمل، لم يشعر كثيرون بشيء. التطبيقات عادت، والمعاملات استؤنفت، والحياة الرقمية دبت فيها الحركة من جديد. لكن خلف الشاشات، في كواليس العالم الحديث، بقي السؤال مفتوحا" من يملك مفاتيح الإنترنت حقا؟ وهل نحن نعيش في عصر الحرية الرقمية أم في عصر الاعتماد المطلق على حفنة من الخوادم في أماكن لا نعرفها؟

font change