عن العائلة وأزماتها في أفلام "مهرجان الجونة السينمائي" 2025

الدورة الثامنة تحت شعار "سينما من أجل الإنسانية"

https://elgounafilmfestival.com/
https://elgounafilmfestival.com/

عن العائلة وأزماتها في أفلام "مهرجان الجونة السينمائي" 2025

في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم النروجي "قيمة عاطفية" Affeksjonsverdi الذي يمتد لقرابة ساعتين ونصف الساعة، نرى ارتباك البطلة قبيل انتحارها عندما تشاهد ابنها مرة أخيرة. هذا الانتحار أساسا سببه المؤسس هو عدم التواصل الجاد مع والدها. وسريعا ما نفهم أنها تقدم مشهدا من فيلمها هي. نحن هنا في فيلم داخل فيلم. قصة مخرج فقد اتصاله بابنته نتيجة عمله في السينما، وبعدما صنع معها فيلما قبل ربع قرن، يعود مرة أخرى بعد فقدان التواصل الحقيقي، ليخلق إيقاعا عائليا في عمل يتلاشى فيه الفارق بين الحقيقي والمتخيل.

يمكن أن يكون هذا الفيلم بداية مثالية لتحليل خطاب عدد من أفلام الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي 2025 الذي أقيم من 16 إلى 24 أكتوبر/ تشرين الأول. التي تبدو غالبيتها سردا عن الأب مرتكزا والابن/ ـة وما يمكن أن يمثله ذلك لتفسير العالم الواسع، ثم لتفسير الشعار الذي اختارته الدورة الحالية "سينما من أجل الإنسانية".

أكثر من 70 فيلما من مختلف دول العالم، تشمل أفلاما روائية طويلة، وأخرى وثائقية وقصيرة. 12 فيلما تسجيليا طويلا، 13 فيلما في المسابقة الروائية الطويلة، 24 فيلما روائيا طويلا خارج المسابقة، وعدد كبير من الأفلام القصيرة. سعت "المجلة" للمشاهدة والاختيار وتحليل خطاب عدد منها.

"عيد ميلاد سعيد"... تعاطف فاقد البوصلة

بدأ الحديث الحقيقي عن استثنائية الدورة من كونها أحيت ذكرى مئوية ولادة المخرج المصري يوسف شاهين. لكن على مستوى الأعمال الجديدة، كانت من خلال فيلم الافتتاح المصري "عيد ميلاد سعيد". وهو الفيلم الأول لمخرجته سارة جوهر. الفيلم أحدث نقاشا حول ترشيحات الأوسكار ودان الطبقية في مصر. وقبل أي حديث عنه، كان ذلك هو الفيلم الذي رشحته مصر للأوسكار هذا العام. وقد صاحبت هذا الترشيح جدالات واسعة حول أحقيته وعدم استيفاء الشروط الإدارية، وكذا مع الأفلام المرشحة الأخرى قبيل المهرجان.

يمثل "عيد ميلاد سعيد" قضية نبيلة، لكنه لا يغوص فيها تماما. تعاطف يرضي الضمير، دون التعمق في قصة الفتاة الفقيرة التي تبدو كل كلماتها ذكية ونبيهة وتستحق الدعم

أغلب الظنون تميل الى أنه لم يكن من المستحق حصول الفيلم على ذلك الترشيح، إذ مرر الاستثناء بشكل متعجل نوعا ما، ولم يأخذ حقه حتى في النقاش الجاد، لا حول مدى جودة الأفلام المصرية في السنوات الأخيرة بشكل عام، ولا تقديم أفلام عن أخرى في لحظة كانت تنافسه فيها أفلام استوفت الشروط، في مقدمها فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" الذي حصد أعلى الأصوات قبل أن يخسر في النهاية. كلاهما متواضع ومصنوع للخارج، أي أنه ذكي بدرجة كافية ليلتقط ما يعجب به "الرجل الأبيض". لديهما بعض نقاط القوة بالطبع، لكنها لا تكفي لصناعة فيلم كبير، لا على مستوى الصنعة ولا الخطاب.  

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "عيد ميلاد سعيد"

عموما يبدأ "عيد ميلاد سعيد" من حكاية بسيطة تماما عن طفلة تنتمي إلى الطبقة فوق الوسطى، إلى جانبها طفلة مثلها تماما تعمل خادمة في البيت. نفهم لاحقا أن العمل يدور إجمالا على محاولة لإقامة عيد ميلاد للطفلة، التي لم تدرك بعد تغير وضعها بسبب انفصال الوالدين.  

في محاولة تستحق احترام مجهودها فقط، يحكي "عيد ميلاد سعيد" قصة الفتاة الفقيرة التي يبدو التعاطف معها كبيرا لمجرد حضور عيد الميلاد، بعد ان تفكر الجدة في استبعادها خشية أن يراها أطفال حفيدتها في المدرسة. يمثل الفيلم قضية نبيلة، لكنه لا يغوص فيها تماما. تعاطف يرضي الضمير، دون التعمق في قصة الفتاة الفقيرة التي تبدو كل كلماتها ذكية ونبيهة وتستحق الدعم. لذلك، يصدر الأمر على اعتبار الأزمة في حضورها عيد الميلاد، لا أبعد من ذلك. دراما سنتمنتالية باردة نسبيا لكنها تحمل إيقاعا ذكيا وبسيطا للحكي غير الممل.

"عيد ميلاد سعيد" فيلم من خارج المسابقة الرسمية. إلى جانبه، كانت لدينا أفلام أخرى في مقدمها الفيلم الإيراني الذي يتوقع نصيبه من الأوسكار هذا العام أيضا، ترشيح حقيقي يستحق الجائزة، لا مجرد الفرحة في الانوجاد فقط، نقصد فيلم المخرج جعفر بناهي "حادث بسيط".

 Dominik Bindl / Getty Images via AFP
المخرج الإيراني جعفر بناهي خلال عرض فيلمه «It Was Just an Accident» في مهرجان نيويورك السينمائي الـ63، في مركز لينكولن، 8 أكتوبر 2025

"صراط" يسقط كل من حوله

لا يملك فيلم "حادث بسيط" قصة بعيدة عن غالبية القصص التي يختارها المبرمجون لتأطير إيران سياسيا وثقافيا كدولة تعادي فنانيها حتى الموت. هنا خطاب المخرج ليس جديدا لكنه لا يزال طازجا وجسورا. يحكي الفيلم قصة رجل بسيط يسعى بتهور لافت دون هوادة لقتل رجل آخر. سرعان ما يفهم المشاهد أنه يشك في كونه الضابط الذي كان يعذبه لسنوات.

يحكم هذا الحادث قبضته على كل وقائع الفيلم، إذ تتوقف كل الأحداث الأخرى. كل شيء كان يعتقد أنه يستمر في الحركة، يتوقف مع الحديث عن هذا الضابط الذي بدا أنه قد دمر كل هؤلاء. يحكي بناهي بكل جوارحه، يضع ممثليه في مشاهد طويلة وكاميرا ثابتة لا تتحرك كثيرا للتركيز على انفعالات تظهر فيها ذكرى تعذيب لم تذهب أبدا. لا نرى العذاب، لكن أثره في الأنحاء. فيلم خطابه قاس، وصادق تماما، وت تصعب صناعته خارج إيران.  

كذلك عرض فيلم "فرانكنشتاين" لمخرجه غليرمو ديل تورو، الذي تشارك فيه منصة "نتفليكس" للعرض على شاشة سينما. فيلم يمتد على مدار ساعتين ونصف الساعة، ليروي قصة قديمة بإيقاع حيوي بكر، متماسك تماما في نصفه الثاني. لا تزال رغبة البشر في العيش الى الأبد، لم ييأس منها البعض، وهو ما يحركهم يوميا رغم إثبات استحالة الفكرة. الكل يتماهى داخل الفيلم، الصانع والمشاهد في تخيل ما يمكن عمله لو عاش الإنسان الى الأبد.

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "فرنكشتاين"

ربما كان الفيلم الأكثر فنية في تلك المسابقة هو الفرنسي "صراط" للمخرج أوليفر لاشيه. وبينما يحاول أكثر الصناع التراضي مع الجمهور بكسب الود بالحسنى، يقف المخرج هنا في الحد الأقصى من كل ذلك. يسحق التوقعات، يقسو على كل أبطاله، ليس للمساءلة تماما، بل لتأمل سؤال الحياة الحقيقي. يبحث أب عن ابنته، لا نعرف تماما سبب إقدامها على الهروب، أو ربما فقط ضلت طريقها كفتاة مراهقة. بسبب حبها للحفلات الصاخبة في الصحراء، حيث يذهب الأب بصحبة ولده الصغير إلى المغرب في محاولة الوصول إليها.

يستمد "صراط" قوته الملحمية من محاولة التناص بين المعنى الذي يحاول تقديمه وبين حكي يساعد في تحقيق هذا المعنى نفسه

يستمد "صراط" قوته الملحمية من محاولة التناص بين المعنى الذي يحاول تقديمه وبين حكي يساعد في تحقيق هذا المعنى نفسه. يحكي ببساطة عن معنى فكرة الصراط المستقيم دينيا، الذي يعني العبور إلى الجنة من طريق خط دقيق، ولا يمر الإنسان منه سوى بعمله الذاتي.

اختيار ميتافيزيقي ملهم للحكي، يمرر الرجل حكايته عنه من خلال الابنة وعالمها الذي تمثله في حفلات صحراوية برقصات تشبه تأملية صوفية. أب لا يعرف الكثير عن العالم عموما، طفولي ومستسلم، يعيد اكتشاف ذاته. هنا ليس فقط سؤال الأبوة: الأب المسؤول الذي يبحث عن ابنته، بل سؤال السلطة كلها، التي تحتاج إلى التفكير فيها، في عالم لا يبدو معدا للعب أو للصخب والعدمية. هنا كل اختيار سيحاسب عليه صاحبه من سلطة متجاوزة. القسوة تشمل الجميع لأن الناجين قلة، وفق الرؤية الدينية لذلك، ووفق الفيلم نفسه.

بينما يحشر البطل الأب ومجموعة من الشباب الذين يمشي معهم للذهاب إلى حفلة قد تكون فيها ابنته، يفاجأ الجميع بانوجادهم في حقل ألغام يبدو الخروج منه معجزة متجاوزة للفهم. في أحد مشاهد الفيلم، تأتي الشرطة لفض التجمع الكبير في الحفل، يخبرهم أحد الشباب أنهم لا يفعلون شيئا، "نحن فقط نرقص". هنا لا يبدو الحكم أخلاقيا على الرقص بل أعمق من ذلك. فقط مجرد الانوجاد هنا يتحمل الإنسان مسؤوليته، بكل قسوة ممكنة. المخرج لا يدين، لكنه يذكر أن الأشياء لا تحدث دون نتيجة، رغم أنها قد توجد دون سبب، ظاهريا على الأقل. يتجاوز المخرج معناه الضيق ببحث الأب عن ابنته، أو ضياع الابنة نفسها، للسؤال عما يعنيه العالم عموما لكليهما.

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "ضع روحك على يدك وامش"

حضرت الحرب في "الجونة" من خلال عدد من الأفلام، منها الفيلم الأكثر تواضعا، "الحيوانات في الحرب" الذي يحكي عن تأثير الحرب على الحيوانات في أوكرانيا. عمل مفتعل يتوسل تعاطفا أوروبيا دون فهم كبير. وكذلك فيلم "ضع روحك على يدك وامش"، وفيلم "أغمضي عينيك يا هند"، وكلاهما عن حرب غزة. هذه الأفلام التي تناولت حربي أوكرانيا وغزة متواضعة فنيا جدا رغم صدق موضوعها ووضوحه، وربما من القسوة الكبيرة اعتبار أنها تستغل الحدث، أو أنه من المهم وجودها للحديث عن حرب لم تتوقف، بالرغم من وعود واتفاقيات ادعت توقفها. لكنها لم تتحرك أكثر من الاعتماد الخبري التقريري على ما قدمته. استمدت من السياسة موضوعها ولم تطوره لتجعل منه حدثا فنيا يتماس اجتماعيا وثقافيا ويصبح مرغوبا فيه بعد ان يمر الزمن.

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "أغمضي عينيك يا هند"

"المستعمرة" و"كولونيا"... الأب يحكم كل شيء

في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لدينا عربيا فيلما "المستعمرة" و"كولونيا". كلاهما جاء من الخارج عالميا إلى هنا. حضر "المستعمرة" في عرضه الأول داخل أروقة مهرجان برلين السينمائي بالرغم من كونه الأول روائيا للمخرج والكاتب محمد رشاد. "كولونيا" هو ايضا الروائي الأول للمخرج والكاتب محمد صيام، بمشاركة كتابية وإنتاجية من أحمد عامر، وقد جاء من مهرجان وارسو السينمائي الدولي.

"المستعمرة" فيلم ملحمي. ليس لأنه عن الأبوة فقط. أو لأنه مختلف عن خطابات الأفلام العربية المضمونة التمويل، المعتاد خروجها الى المهرجانات كتصدير ملائم للصورة الذهنية عن العرب وأفلامهم. وليس لأن مجازه السياسي واللغوي صالح للمنطقة العربية ولا ينفصل عن تسميته، أو لأن التفسير الأبوي هذه المرة دون سابقتها جاء من الخارج: أي أنه من الآلة/ العمل/ الشارع الذي يعيد تصور الأب، مثلما فعل آخرون قبله أو هو نفسه في فيلمه الأول "النسور الصغيرة"، عندما كان المخرج غرا يريد التحليق بإدانة الأب السهلة.

PATRICK BAZ / El Gouna Film Festival / AFP
منصة السجادة الحمراء في مهرجان الجونة السينمائي 2021

الأب هنا سؤال مركزي للحياة. يصلب الابن دونها في الفيلم. معضلة المسيح ملهمة لأنها متعلقة بالبرزخ في فكرة الإله البشري/ الابن الوالد. تماما مثل الأب في المستعمرة الذي لا نرى وجهه رغم مركزية كل حركة بناء عليه. فيلم يفتقر للإيقاع والقطعات المونتاجية الصاخبة. مهموم بالأبوة الحميمة في عالم حاد معولم. لديه قسوة ذكية غاضبة لا تبكي. فيلم مصري عالمي ينتزع صناعته بالقوة في لحظة سينمائية تتجنب كل تلك الأسئلة المملة وعوائدها غير المربحة في الشباك. وربما لكل ذلك، هو أفضل فيلم أول لمخرج مصري في السنوات الأخيرة.

الأفلام التي تناولت حربي أوكرانيا وغزة متواضعة فنيا جدا رغم صدق موضوعها ووضوحه، وربما من القسوة الكبيرة اعتبار أنها تستغل الحدث

في مقابله، يأتي المخرج محمد صيام الذي يبدو قريبا في مسار رحلة محمد رشاد، كلاهما كانا الدفعة الأولى التي درست سينما في مدرسة "الجيزويت" المصرية. وكلاهما لجأ الى التسجيلي ثم الى الروائي للمرة الأولى الآن. اختار صيام فكرة أكثر صعوبة على المجتمع بتقديم أب مثلي الجنس، يخجل من ماضيه. وبينما يسعى الابن الى الهروب من تلك الحقيقة، يتورط أكثر في معرفة أن والدته كانت تشاركه تلك الجلسات.

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "كولونيا"

رؤية الفيلم هذه هي تأويلية محضة عن عمل يقدم نفسه ظاهريا على اعتباره محاولة ابن للتأقلم مع عنف والده له منذ الصغر، بينما تمرر كل الإشارات والمجازات بشكل صعب الفهم، فيسقط المخرج في فخ تكرار وفي ثقل لم يكن يحتاجه العمل أساسا.

"كولونيا" رائحة خفيفة لن تزول أبدا، وتسمية ملهمة تماما عن التصاقنا بآبائنا دون رغبةمنا. هنا "كولونيا" لن يذهب أثرها مهما خفت، لكن المخرج رشها في المكان الخاطئ ولم تمر أمام أنف مشاهده ليشمها كذلك. ربما كان يحتاج الى المزيد من العمل إخراجيا وكتابيا في عمل تحرك الأبوة كل شيء فيه.

"50 مترا" من الجري في المكان

في مسابقة الأفلام التسجيلية، عربيا نجد فيلم "الحياة بعد سهام" للمخرج نمير عبد المسيح، الذي أفردنا له مقالة منفصلة، يواصل فيه عموما البحث داخل أسرار أسرته، الوالد والوالدة الذي يجد العالم من خلالهما. ومعه فيلم "50 مترا" للمخرجة يمنى خطاب، وهو فيلمها الأول الذي تحكي فيه رحلة ذاتية مع والدها.

https://elgounafilmfestival.com/ar/film-selection-ar/
مشهد من فيلم "الحياة بعد سهام"

50 مترا، هي المساحة التي يتدرب فيها والدها على السباحة، والتي تذهب إليها المخرجة لإنجاز الفيلم وسط أصدقائه. هكذا يأتي الفيلم من الخارج، يبدو مساحة لبذل مجهود كبير لوصول الصانعة إلى والدها الذي يبدو في نظرها بعيدا نسبيا عنها، أحلامها وطموحها وأمومتها هي ذاتها التي اختارت تأجيلها.

لا يتحرك "50 مترا" كثيرا من المشهد الذي يبدأ به، الى الدرجة التي لا تجعلنا ندرك موقفها من والدها. لا نعرف موقفها الشعوري من والدها وسط ذلك، ولا نفهم المساحات الكبيرة التي فتحتها في المشاهد الأولى ولم تتمكن من إغلاقها. فيلم يبدأ حميميا مسليا وخفيفا أشبه بليالي التلفزيون، لكنه قد يكون موطئ قدم لمخرجته تاليا. حمل على كتفه سؤال الأبوة، تماما مثلما حملته أكثر تلك الأفلام في دورة يبدو أنها كانت تبحث عن الأسر المشتتة لتعيد إليها ترابطها المفقود.

font change

مقالات ذات صلة