جوائز مثيرة

جوائز مثيرة

استمع إلى المقال دقيقة

لا نكاد نخرج من جدل حول جائزة أدبية ما حتى يظهر صخب حول جائزة أخرى. وهذا ما حدث مع جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية التي تمنحها الجامعة الأميركية في القاهرة، بسبب وجود شخص في لجنة التحكيم يُدعى "كوهين"، وهي المشكلة نفسها التي واجهها الكاتب الفلسطيني/الأردني إبراهيم نصر الله حين أُعلن عن فوزه بجائزة "نيستاد" الأميركية.

رفائيل كوهين، كما هو واضح من اسمه يحمل اسما يهوديا، ربما يكون معتنقا ديانة عائلته اليهودية أو لا، مثل كثيرين ممن يحملون أسماء يهودية أو مسيحية أو مسلمة، ولم يعودوا ينتمون إلى معتقدات آبائهم. وما عُرف عن كوهين أنه بريطاني الجنسية، يعيش في القاهرة منذ عقدين، وترجم بعض الكتب العربية إلى الإنكليزية وله نشاط سياسي مع حركات السلام العالمية الداعمة للفلسطينيين. لكن هذه التعريفات لم تمنع انتشار تهمة التجسس ضده، وهي تهمة سبق وأن تداولها صحافيون منذ سنوات. مما أدى بالجامعة الأميركية ولجنة تحكيم الجائزة إلى إصدار بيانين استنكرا فيهما هذه التهمة، مستغربين مساءلة أي شخص بسبب اسمه أو ديانته. ولم ينسيا القول إنهما يتفهمان حساسية هذه المواقف التي جاءت بسبب الأحداث الراهنة.

بالنسبة إلى الروائي إبراهيم نصرالله، فآخر ما يتوقعه القارئ لكتبه أن يكون هذا الكاتب في محل اتهام، خاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، التي هي روحه وهواه. روح معظم رواياته، إن لم تكن جلها. ولا يفترض بأي شخص، مهما كانت أسبابه، أن يكيل التهم جزافا لهذا الروائي الذي أوصل صوت فلسطين إلى عشرات اللغات التي تُرجمت رواياته إليها. وكان واضحا في انحيازه لقضية شعبه وحقه في التحرر والعيش بسلام.

فماذا يعني أن تكون هناك يهودية، أو تحمل اسما يهوديا، في لجنة تحكيم الجائزة الرفيعة التي حصل عليها، أخيرا، أو أن عائلة يهودية ترعى الجائزة؟

ما يبدو لي، أن هذا الفوز يمثل انتصارا لأدب إبراهيم نصر الله، كما مثل صعود رواية "سِفر الاختفاء" لابتسام عازم إلى القائمة الطويلة لجائزة "بوكر" الدولية وصولا آخر للصوت الفلسطيني. وقبلهما فوز رواية "قناع بلون السماء" للأسير المحرر أخيرا باسم خندقجي بالجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة بالبوكر العربية، في وقت بدأ قادة الهلاك زحفهم ضد كل ما هو حي.

لستُ هنا في محل تأكيد أهمية تقيد الكتاب بخطوط ومسارات أدبية ملتزمة، فهذا ليس من الأدب بشيء، فالتقيد موت لكل قضية، ولو كانت عادلة، خاصة إذا احتوت عبارات النصوص وفقراتها على صخب المواقف المستهلكة التي لا تأخذنا إلى اجتراح الممكن وتخيل المستحيل.

لقد أراد الكاتب المصري صنع الله إبراهيم (1937-2025)، حين رفض جائزة بلده، أن يقول إن للأديب رأيا، وأنه يرفض أن يكون أداة لبهرجة إعلامية مقابل مبلغ مالي وتكريم شكلي يعزز دعاية السلطة عبر مؤسسات تابعة لها لم تراعِ كرامة وحرية الكاتب طوال حياته، والتي هي جزء من حرية وكرامة الناس، إلا أن هذا الموقف لا يكون دائما في محله، وقد يندرج أحيانا في باب الادعاء أو التضليل الذي من شأنه تتويه الرأي العام تحت تسميات وشعارات لا جدوى منها، خاصة إذا كانت هذه التوجهات تتبع أجندات أخرى مختلفة، تستخدم بدورها الأديب كمروج دعائي لسياساتها.

التقيد موت لكل قضية، ولو كانت عادلة، خاصة إذا احتوت عبارات النصوص وفقراتها على صخب المواقف المستهلكة التي لا تأخذنا إلى اجتراح الممكن وتخيل المستحيل

ومع هذا، فليست كل النقاشات حول الجوائز تقتصر على البعد السياسي، فهناك جدالات أخرى تتعلق بماهية الجوائز نفسها وتوجهاتها، ففي اليمن، مثلا، استُقبل فوز الكاتب الشاب حميد الرقيمي بجائزة كتارا للرواية عن روايته "عمى الذاكرة" بحفاوة يستحقها، حيث دأب على تقديم نفسه بكل ثقة. إلا أن هناك من اعتبر أنه فاز لأسلوبه الفني المميز وابتعاده عن القضايا التي عادة تهم الكتاب اليمنيين، لكن هذا الرأي لم يصمد مع القراءات المتحققة للرواية التي رأت أن الموضوع حاضر فيها بشكل لافت، وعزز المؤلف هذه القراءات بقوله إن القضايا تحتل المكانة الرئيسة في اهتمامه، وأن "الرواية مرافعة في وجه الظلم"، وأنه "من خلالها يخاطب الآخرين ويعبر عن مشاعرهم وتحدياتهم والظروف التي مروا بها في مختلف المجالات".

وبعيدا عن عمل الرقيمي الذي رأى كثيرون أنه يستحق الجائزة، نجد أن الادعاء باهتمام إدارة الجائزة بالجانب الفني في الروايات غير متحقق مع فوز كاتبين فلسطينيين بالجائزة نفسها، الأول محمد جبعيتي عن روايته "الطاهي الذي التهم قلبه"، والثانية رولا خالد غانم عن روايتها "تنهيدة حرية" المزينة غلافها بالعلم الفلسطيني. إذ تناولا في روايتيهما الموضوع الفلسطيني بشكل مباشر وآني، مما يدل على تفضيل إدارة الجائزة للمنحى الموضوعي السياسي أكثر من المنحى الفني. خاصة وأن هناك روايات مميزة صعدت إلى القائمتين الطويلة والقصيرة ولم يتم الالتفات إليها، كروايتي "بيت من زخرف، عشيقة ابن رشد" لإبراهيم فرغلي، و"سنوات النمش" لوحيد الطويلة، وروايات سفيان رجب وعبدالوهاب الحمادي ومحمد بركة وغيرهم، وهذا يعزز ما يتردد في الأوساط الأدبية عن المنحى المحافظ لهذه الجائزة، التي تراجعت قيمتها المالية، وبالتالي مصروفاتها على لجنة التحكيم ومهرجانها السنوي، على الرغم من اعتماد المهرجان من قبل اليونسكو وتسميته "المهرجان العالمي للرواية".

على كل حال، من المهم أن تستمر الجوائز وتتسع أكثر، سواء كانت محلية ومتخصصة بأدب ما، بما في ذلك الأدب المحافظ، أو الإسلامي، إذا كان هناك من يفضل هذا التوصيف، أو جوائز تعلي قيمة حرية الكاتب في أن يكتب ما يريد، فيكافأ على حريته في الكتابة، لا على التزامه بالقيم المجتمعية المحافظة والمحددة لفكره وخياله.

font change