حبيب عبد الرب سروري لـ"المجلة": حتمية التقدم لا تختلف عن الحتميات الدينية

الرواية لعبت دورا في تقدم الغرب

حبيب عبد الرب سروري لـ"المجلة": حتمية التقدم لا تختلف عن الحتميات الدينية

اتجه الروائي اليمني المقيم في فرنسا حبيب عبد الرب سروري في رواياته الأخيرة نحو كتابة رواية "التخييل التأملي" التي تكاد تكون نادرة في الأدب العربي.

في هذه المقابلة مع "المجلة" يتحدث البروفسور في علوم الكومبيوتر عن رواياته الثلاث التي كتبها في هذا المنحى، وواقع رواية التخييل التأملي والعلم واللغة في العالم العربي، وإلى أي مدى يمكن الاستفادة من تراث ابن طفيل والمعري.

في رواياتك الثلاث الأخيرة، "حفيد سندباد" و"جزيرة المطففين" و"نزوح"، اتجهت نحو مزج الإشكاليات الاجتماعية بالتخييل العلمي، أو ما صار يسمى بـ"التخييل التأملي"، والذي عادة ما نجده في الكتابات الأوروبية والأميركية، يخوض في مسائل فلسفية وعلمية تتعلق بمستقبل الكون والإنسان. لماذا تأخر هذا الاتجاه في الأدب العربي كثيرا، إذا استثنينا بعض التجارب القليلة التي هي أقرب إلى الخيال العلمي؟

السبب الرئيس لهذا التأخر، في تقديري، ضعف الثقافة العلمية خاصة، والأمية الثقافية عموما، في واقعنا العربي. لا ننسى أن العلم في الغرب يلعب دور البوصلة في توجيه تفكير المجتمع، بعد أن كانت الراية بيد الدين، قبل قرن الأنوار. فحضوره كلي اليوم، ليس في المدارس فحسب، لكن في المتاحف والمنابر الإعلامية، والفعاليات الدائمة مثل "أسبوع الدماغ"، أو التي تدوم عاما كاملا أحيانا، كعام 2009، الذي لم أر في حياتي فعاليات مثله في كل مكان، لمناسبة قرنين على ولادة داروين وقرن ونصف القرن على كتابه "أصل الأنواع".

ليس غريبا أن يكون أهم حدث ينال رأي الغالبية في الاستفتاءات السكانية، في هذا العام أو ذاك، حدثا علميا مثل وصول الروبوتات إلى المريخ، أو اكتشاف جسيم "بوزون دو هيجز" قبل سنوات في مختبرات "المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية". في ظل ذلك، ليس غريبا حضور العلم بغزارة، بأشكال شتى، في الأعمال الروائية الغربية. مثل معظم روايات ميشال هولبيك التي تقع ضمن "التخييل التأملي"، وهو نفسه كان مهندسا ومبرمجا قبل دخوله عالم الرواية.

نحتاج إلى عين تنظر إلى الماضي بروح نقدية، وعين تنظر إلى المستقبل لمحاولة استشرافه والتنبه إلى أخطاره

اكتسح العلم اللغة أيضا في الغرب. فعلى ذكر "الـمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية" (تضم 3500 باحث، يعملون في "كاتدرائية" علمية: أنابيب عملاقة لـ"مسارعات جسيمات أولية" طولها 27 كيلومترا تحت الأرض، بين سويسرا وإيطاليا وفرنسا، تمكن الإنسان بفضلها من برهنة "النموذج الأساس" للفيزياء، الذي يشرح تشكل الجسيمات الأولية بعد الانفجار الكوني العظيم وولادة الكون)، بإمكانك أن تقول بالفرنسية الأدبية لإنسان نشيط مضطرب جدا إنه مثل "مسارع جسيمات أولية".

من سيفهمك، أو سيجد لذة في سماعك، إذا أطلقت مثل ذلك في لغتنا العربية؟

 هل يمكن القول إنك أنجزت رواياتك الثلاث من خلال محددات مسبقة تراها مهمة، في إطار "التخييل التأملي"؟

لكل رواية منها قصة ولادة خاصة. لم تكن هناك محددات مسبقة إطلاقا بالطبع، لكن كانت هناك شرارات، أسئلة تفجرت في لحظة ما، وشغف عارم بخوض تجارب سردية جديدة مرتبطة بها، وبحث عن صقل متعة التخييل في عوالم عذراء.

اندلعت "جزيرة المطففين" مثلا عندما وجدت نفسي، في رأس عام كوفيد 2020، في مدينة كاليه الفرنسية (في أقصى شمال فرنسا حيث تنطلق زوارق النازحين سرا إلى بريطانيا)، لكتابة مقال أدبي عنهم لكتاب ألماني. وانطلقت "نزوح" بعد سؤال فني مثير جذبني جدا، وفي لحظة ضحك، مع صديق باحث، حول إمكان الإنجاب بعيدا من الجاذبية الأرضية.

غلاف رواية "جزيرة المطففين"

المستقبل غامض

ألا تخشى من وجود "حتمية علمية" في هذا التناول السردي، ترى أن مصائر الكون والإنسان بالضرورة تمر عبر هذا الطريق الذي تسوده التكنولوجيا الحديثة؟

هناك تقدم علمي وتكنولوجي مستمر في حياة البشرية اليوم، لا يمكن إنكاره. أما حتمية التقدم، كفكرة ماركسية، فاعتبرت "سمة العصر"، وهي لا تختلف عن الحتميات الدينية التي لا محل لها من الإعراب. وكم دخلت شخصيا في جدال مضاد، منذ زمن، مع زملاء كانوا يؤمنون بهذه الحتمية الطوباوية.

ليس ثمة حتمية طبعا. يكفي لذلك ملاحظة أن الجيل الغربي المعاصر، في كل استطلاعات الرأي، هو أول جيل يشعر أنه يحيا أسوأ من حياة آبائه. آه، ماذا سنقول عن جيل شباب العرب؟ دون نسيان ما قادته الحداثة الصناعية (بسبب سياسات الإنسان الأنانية التي لا تحترم البيئة، وتنكر سيناريوهات العلم عن مستقبل المناخ)، إلى مصير تراجيدي ينتظر بشرية حاضر كوكبنا الحبيب ومستقبله.

المستقبل غامض جدا، وهذا ما أحاول التنبيه له. نحتاج إلى عين تنظر إلى الماضي بروح نقدية (تاريخنا كتبه المنتصرون على نحو ملفق)، وعين تنظر إلى المستقبل لمحاولة استشرافه والتنبه إلى أخطاره التي لم أتوقف عن سردها روائيا.

الذكاء الاصطناعي مصيره بيد شباب "وادي السيليكون" الطائش المغامر ذي الثروات التي تفوق الدول، وهذا مخيف

لا تخلو الروايات الثلاث من تحذير متصاعد من الكوارث التي تنتظرنا. في "حفيد سندباد" (2017) كانت النهاية أقل ديستوبية: إمكان عناق التكنولوجيا والميثولوجيا بدت خجولة في نهاية الرواية. أما "جزيرة المطففين" (2022) فلها نهاية ديستوبية خالصة، وإن لم تخل من أبطال عنودين وأمل هارب. وفي "نزوح" استفحل الأمر، وصلت الكارثة البيئية درجة جعلت التفكير البشري جادا لدراسة النزوح خارج كوكبنا. لكن ماذا عن الإنجاب حينها خارج الجاذبية الأرضية؟

عدا هذه المسارح العامة التي نمت فيها الروايات الثلاث، تهمني أساسا حيوات شخصيات كل رواية، وتطور علاقاتها. أنطلق عند بنائها من خيوط أولى، ثم تتشكل على نحو شبه مستقل اختيارات الشخصيات لحياتهم الخاصة: حيوات أبطال "نزوح" الخمسة نموذج على ذلك. فلم أكن أتوقع أنها ستصل إلى ما وصلت إليه إطلاقا عند بدء كتابة الرواية.

قبل نحو مائتي سنة تقريبا اخترعت ماري شيلي في روايتها "فرانكنشتاين" إنسانا ركّب من أعضاء بشرية عدة. هذا الإنسان يرفض في الأخير حاله التي صنع فيها ويقتل عددا من الناس. ألا تخشى من مستقبل كارثي للإنسان، وهو يمضي نحو تفعيل دور كبير للإنسان الآلي "الروبوت"، أو للآلة عموما، أو لإمكان وجود إنسان معمول من "الخلايا الجذعية"؟

عندك كل الحق. التطور التكنولوجي سيف ذو حدين، بالتأكيد. ما أحلم به هو تطور متناغم للذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني، بوصلته مصلحة الإنسان، لا مصلحة قوى المال. الذكاء الاصطناعي (الذي لا يقل أهمية وخطورة عن الطاقة النووية التي تديرها الدول)، مصيره بيد شباب "وادي السيليكون" الطائش المغامر ذي الثروات التي تفوق الدول، وهذا مخيف.

نعم أخشى ما قلته. عبرت عن خوفي في محاضراتي، مثل آخرها الشهر الماضي في ندوة "سرديات المستقبل" ببيروت. أتمنى أن تكون الروبوتات القادمة مثل روبوت روايتي "حفيد سندباد": بهلول، الذي تطور وحده (غير اسمه بنفسه لاحقا إلى: حيدر، لأنه لا يحب اسم بهلول)، واستقل عن مولاه الراوي، لكنه ظل رفيقا حميما له، بعكس علاقة المخلوق في رواية "فرانكنشتاين بخالقه تماما. منذ الروائي الكبير إسحاق عظيموف صارت علاقتنا بالروبوتات المدنية أكثر حضارية.

وفي المقابل، أنا ضد روبوتات "جزيرة المطففين" العسكرية القاتلة المستقلة. نبهت كثيرا إلى خطورة هذا النوع من الذكاء الاصطناعي الذي تحول، للكارثة، إلى حقيقة.

هناك الأبحاث التي تعتبر الموت مرضا (بشكل أو بآخر) وتحاول مقاومته، أو إطالة الحياة على الأقل، بتقنية الخلايا الجذعية، عبر ما يسمى مجازا بـ"كوكتيل ياماناكا": هناك ما أنا معه، وما أنا ضده.

غلاف رواية "نزوح"

لقد اندلعت في الواقع وتفتقت مشاريع حقيقية، قبيل وبعد نيل العالم الياباني شينيا ياماناكا جائزة نوبل، في 2006، بفضل اكتشافه كيف يمكن "إعادة برمجة" الخلايا المتقدمة في السن، لتصبح شبابية، أكثر مرونة، وذلك برفدها بأربعة "عوامل جينية" ذات تأثير جماعي متكامل سحري: تفعل معا داخل الخلية البالغة، فتستعيد هذه زمن الصبا.

مدرسة الحياة في قاموسي أكبر من المدارس والجامعات التعليمية، وأكثر تجريبية: نندمج عبرها بتجارب الآخرين، ونستلهم من معاناتهم ونتوحد معهم

جرب هذا الاكتشاف حينها على الفئران التي لم تصبح أطول عمرا بنسبة 30٪ فقط، بل أكثر نشاطا وأفضل صحة وألمعية. وجرب مخبريا أيضا على جلد شيخ استعاد بشرته الشابة، بعد تناول هذا الكوكتيل.

أتمنى أن تتقدم هذه الأبحاث سريعا ونحظى يوما ما بالكوكتيل. لكني لن أقبل لشخصي مشاريع "ما بعد الإنسانيين" (الترانسهيومانيين) التي ترنو لدمج قطع اصطناعية بديلة أو تحسينية بالجسد البشري. لن أوافق شخصيا على فتح جمجمتي، معاذ الله، لوضع قطع إلكترونية مهما كان مفعولها السحري وفعاليتها. هذا دون الحديث عن أحلام مشاريع "رقمنة الروح" الإنسانية.

تنمية منهج الشك

يلاحظ في الكثير من رواياتك أنك تعطي أهمية للمسألة الفكرية، أو لنقل للمنطلق الأيديولوجي الذي تقدم عبره شخوص الرواية، وكأنك تمارس مهمة تنويرية تصبح فيها الرواية "مدرسة الحياة"، حسب عنوان كتاب لك. كيف تنظر إلى هذا المنحى من الاشتغال السردي؟

أرى فعلا أن "الرواية مدرسة الحياة"، من منطلق مفهوم المدرسة في قاموسي: ليست مكانا للتلقين، بل لتفجير التساؤلات، لتنمية منهج الشك. لذلك فالرواية، في طبيعة الحال، أبعد ما تكون عن الأيديولوجيا الدينية أو السياسية. و "مدرسة الحياة" في قاموسي أكبر من المدارس والجامعات التعليمية، وأكثر تجريبية: نندمج عبرها بتجارب الآخرين، ونستلهم من معاناتهم ونتوحد معهم، نكتشف الطبيعة الإنسانية أكثر مما تقدمه لنا علوم الجامعات. لذلك لعبت الرواية في العصر الحديث دورا مهما في "الثورة الإنسانية" التي قادت إلى أخلاق عصر حقوق الإنسان.

عدا ذلك، بعض رواياتي يتجرأ فعلا على الانتماء إلى ثيمات "الحروب الروحية" (كروايتي "وحي" و"عرق الآلهة") التي لا تخلو من صراع الأفكار أحيانا. هكذا فعلت الرواية الغربية منذ قرن فولتير الفيلسوف والروائي، ولعب ذلك دورا في تقدم الغرب الحضاري. لا تزال الرواية العربية خجولة في خوض ذلك، بسبب عنف القوى الظلامية، وبسبب سقف الحرية المنخفض، فيما نحتاج كعرب كثيرا إلى ذلك اليوم.

غلاف رواية "الملكة المغدورة" لحبيب سروري بالفرنسية

لكن، عندما تدخل رواياتي في هذه الأصقاع السردية الشائكة، تترك الرؤى المختلفة تتصارع، كما هو حال روايتي "وحي". أو تجعلها تتكامل في بحثها الفكري، في سياق سردي كله عشق ينسي وطأة الأفكار وجفاف الفلسفة، مثل السياق الناعم الذي عاشه بطل "عرق الآلهة" في عشقه الثنائي الملتهب للشاعرة فردوس، والباحثة في علوم الدماغ حنايا.

ابن طفيل والمعري

هل لهذا استدعيت، من هذا المنطلق، شخصيات من التراث العربي في كتاباتك كأبي العلاء المعري؟

شخصية المعري روائية بامتياز. "رواية الغفران" التي كتبها ضمن "رسالة الغفران" كنز روائي نحتاج عربيا إلى الشغل عليه، من زوايا عدة، كما فعل الغرب مع دانتي ربما. ثم هو أكثر أدبائنا الكلاسيكيين حداثة وعمقا. هو بطل روايتي "تقرير الهدهد". التخييل الروائي فيها يتجاوز بكثير سيرته الحقيقية وفكره. ففي الرواية له عشق سري مع طالبته هند، وابنة سرية لا مثيل لها، وله حفيده الأخير، رقم 33، الراوي الذي يعيش في زماننا.

هل يمكن إدراج قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل و"رسالة الغفران" للمعري ضمن سرديات التخييل التأملي؟

المعنى الحديث للتخييل التأملي Speculative Fiction يرتبط بنوع من التخييل الاستباقي، يتنقل غالبا بين الحاضر والمستقبل القريب، له هموم مرتبطة برسم سيناريو ما لهذا القادم انطلاقا من الحاضر (هو في ذلك، بالطبع، بعيد جدا عن الخيال العلمي التقليدي، المهتم بالتفاصيل التكنولوجية، أو بالعوالم الكوسمولوجية التخييلية الخالصة). إذ نحن هنا في إطار الرواية الحديثة، ذات الهموم الدنيوية البحتة، منذ دون كيشوت لسرفانتيس.

"رواية الغفران" التي كتبها المعري ضمن "رسالة الغفران" كنز روائي نحتاج عربيا إلى الشغل عليه، من زوايا عدة، كما فعل الغرب مع دانتي 

لكن لو أخذنا كلمتي "التخييل" و"التأمل"، بعيدا من أرضية الرواية الحديثة ومن هذا التعريف، ففي قصة ابن طفيل و"رواية الغفران" معا كميات ثرية من التخييل ومن التأمل، وإن كانت إشكالياتهما الروائية مختلفة تماما.

في تأمل المعري هنا شيء أود لفت الأنظار إليه، لا يخلو من كثير من الحداثة، فيما اعتبره بعض النقاد العرب أحيانا متاهات وتناقضات فكرية. أقصد هنا تعدد المعنى عند المعري لدى الخوض في القضايا الميتافيزيقية، لا سيما في "رواية الغفران".

هذه القضايا "غير قابلة للقرار"، فرضياتها دينية بحتة، وليست علمية. ولا يوجد أغنى وأجمل من مقاربتها بقراءات متعددة المعنى عند الخوض فيها، وليس باتخاذ موقف حاسم يحسب على التدين أو عدم التدين. لذلك نجد في هذه القراءات الضيقة من يقول إن المعري كان زنديقا ملحدا، ومنهم من يقول إنه كان مسلما على غاية من الدين.

غلاف رواية "حفيد سندباد"

كتابة نص متعدد المعاني polysémique ملكة راقية، يجيدها الكبار من الأدباء، لا سيما المعاصرون، عندما يخوضون في أمور الغيبيات روائيا (جون دورميسون، أنموذجا)، أو فنيا كلوحة "رعاة أركاديا" لنيكولا بوسان. ثمة، حتى يومنا، تأويلات بديعة بلا عد، لهذه اللوحة الشهيرة.

نجح في هذا الفن الميتافيزيقي مبكرا جدا، شاعرنا المعري الذي قال: "أما الإله فأمر لست مدركه"، أيما نجاح. عبر مسارح نص روايته بقناع بديع، وفتح لنا بها ميادين التأويل المتعددة.

عموما، ثمة ثراء يحلو ابتكاره سرديا عند توجيه الرسائل المرتبطة بالفرضيات المتباينة، لا سيما الدينية. جميل أن يكون الأديب "راعي معان"، كما يقال، أن يترك مكانا لتعدد المعنى. ويلزمنا كقراء أن نقبل تعدد التأويلات في المواضيع الغيبية. لعل المعري برهن في نص بيته الشهير:

اثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا                 

دين، وآخر دين لا عقل له

مع ملاحظة أن معيار هذا الفصل بين الاثنين ليس الإيمان أو الإلحاد، وإنما اليقين المتجمد من ناحية، أو التساؤل والشك والتفنيد من ناحية أخرى.

وجه المعري "رواية الغفران" للاثنين معا، لتأويله بطرقهما المختلفة. عدا ذلك، لشاعرنا الذي قال "لا إمام سوى العقل" آراء عقلية محددة صريحة، تنسجم مع فكر الحداثة، وفي كل أمورنا التي نعيشها: الطوائف، الرسل، الطقوس والعبادات، الطبيعة الإنسانية، الأخلاق.

لا أعرف شخصيا، حتى يومنا هذا، من تجرأ عربيا قول مثلها بكل جلاء وشجاعة. بيد أنها قضايا دنيوية ملموسة، لا علاقة لها بالميثولوجيا الدينية والغيبيات.

غياب مشروع لغوي

 عادة ما نقرأ لك انتقادات للغة العربية واستخدامها المعجمي المعاصر، فيما عدت شخصيا إلى الكتابة بهذه اللغة، بعد أن كنت قد بدأت الكتابة الروائية بالفرنسية بروايتك "الملكة المغدورة" (1998)...

العربية عشق لا مناص منه، ولا حل له. وضع بنيتها التحتية الرقمية الراهن في هذا العصر الرقمي، في رأيي، جزء من هزيمتنا القومية والحضارية العربية التي يحاول إنكارها الكثيرون.

مؤلم وضع لغة نعشقها، لا تستخدم لتدريس المواد العلمية والتكنولوجية في الجامعات، وفي المدارس العربية غالبا. يعتبر  البعض اللغة العربية "لغة دين" فحسب، لا تصلح للعلوم والتكنولوجيا، فيما كانت لغة العلم الأولى في العصور الوسطى. وهناك من يقول إنها لا تصلح للرواية أيضا.

يعتبر البعض اللغة العربية "لغة دين" فحسب، لا تصلح للعلوم والتكنولوجيا، فيما كانت لغة العلم الأولى في العصور الوسطى

لغة مدونتها فقيرة جدا، ونجاح "الذكاء الاصطناعي التوليدي" مرتبط كلية بثراء المدونات ونوعية التدرب الذكي عليها، كما يعرف الجميع. لغة لا يمكن أن توجد فيها حاليا صيغ عربية لبرمجيات جوهرية، مثل Ngram Google، ضرورية للباحثين في اللغة والتاريخ والعلوم الاجتماعية، وغير ذلك من النواقص المعيقة كثير. هذا بعض من انتقاداتي حول غياب مشروع قومي لإنقاذ لغة الضاد، والاكتفاء، بدلا من ذلك، بالبهرجات الشكلية.

حبيب عبد الرب سروري

عدت إلى الكتابة الأدبية بالعربية لحاجتي العضوية الحادة للتفاعل الروائي مع قرائنا العرب، والتفاعل الثقافي عموما عبر كتب أدبية وفكرية وعلمية موازية، مثل كتابي الأخير: "كوميديا الغفران: من المعري إلى دانتي"، الذي يحاول إدخال "رواية الغفران" إلى مناهج مدارسنا العربية.

أعشق الفرنسية بالطبع أيضا. وإن أكتب بها أدبيا أقل من العربية. لكني أكتب بها علميا دوما. وأقرأ بها، كل يوم، أدبيا أكثر من العربية بكثير، وعلميا طبعا. ولي كتب علمية بها.

font change