قصص الحب وأسرار أخرى في "كائنات المرايا الجميلة" لأمين صالح

تأملات في الحب والأحلام

أمين صالح وروايته "كائنات المرايا الجميلة، طاب مساؤك"

قصص الحب وأسرار أخرى في "كائنات المرايا الجميلة" لأمين صالح

لا يزال الكاتب البحريني أمين صالح مخلصا لنهجه السردي الذي عرف به منذ بداياته في منتصف سبعينات القرن الماضي، وتعزز أكثر مع روايتيه "أغنية ألف صاد الأولى" (1982) و"ندماء المرفأ، ندماء الريح" (1987).

ففي روايته الأخيرة "كائنات المرايا الجميلة، طاب مساؤك" الصادرة عن "دار كلمات" في الشارقة، يواصل صالح اللغة الشعرية والرمزية التي ظهرت في كتاباته السابقة إلى جانب كتابات الكثيرين من كتاب الخليج، سواء من جيله أو من الجيل الذي يليه[sa1]، مثل محمد حسن الحربي "الخروج على وشم القبيلة" (قصص، 1981)، وعبد الحميد أحمد "السباحة في عيني خليج يتوحش" (قصص، 1982)، وجار الله الحميد "وجوه كثيرة أولها مريم" (قصص، 1984)، وسعد الدوسري "انطفاءات الولد العاصي" (قصص، 1987) ويوسف المحيميد "ظهيرة لا مشاة لها" (قصص، 1989)، إلى جانب أعمال رجاء عالم الروائية.

ربما يجد دارسو الأدب أسبابا وراء توغل مجموعة من الكتاب في الكتابة الرمزية/الشعرية في نصوص سردية، عادة لا تجد مثيلا لها سوى في الكتابات التجريبية التي لا تلقى انتشارا واسعا في أوساط القراء.

قصة حي شعبي

يقسم أمين صالح روايته الجديدة ثلاثة فصول، تجمع بينها سبع حكايات في الفصل الأول وحكاية في الفصل الثاني، مع خاتمة في الفصل الثالث تابعة للفصل الثاني. تدور الحكايات في معظمها على مجتمع غير مسمى، من خلال مكان يرمز إليه الكاتب بصفة "الجزيرة".

تفتتح الرواية بسرد يتداخل فيه الأسطوري بالملحمي، عن نشوء الأرض وتطورها وتكاثر الإنسان فيها، حيث بدأت الخطيئة الأولى، و"بعد الخطيئة، توافدت الخطايا. وباتت الشعوب تمجد العنف وتزهو بالقتل. واستفاقت الفتن من سباتها، فاندلع التناحر بين القبائل والطوائف والطبقات. وعم الفتك والسفك". هكذا، هي "أرض شاخت قبل الأوان"، انطفأ "رونقها آن خذلتها الشعوب وراحت تتناحر في ما بينها، آن أمست فريسة لولاة قساة يتنافسون على الهيمنة وتمزيق أوصال الأقاليم، ولأسياد احتلوا الحقول والمزارع، وقسموا الناس إلى طبقات".

يلتفت السارد إلى أولئك الذين جاؤوا إلى الجزيرة، وكان أبوه واحدا من الذين نزحوا إليها واشتغل في مختلف المهن قبل أن يتزوج أمه ولم يزر بلاده قط، "تجانسوا مع النسيج المختلط من بشر ينتسبون إلى جنسيات شتى. طوقوا الحاضر بشكيمة العضل، وتمازجوا مع الأمكنة الغريبة بأبجدياتهم الغريبة ولكناتهم المضحكة. اكتسبوا اللغة والطباع والعادات. تصادقوا مع الآخرين، تآخوا بعضهم مع بعض، تشاركوا في الرزق، وتزوجوا. وفي الغبشة، عندما يستبد بهم الحنين إلى قراهم وبلداتهم، تهدهد قطرات من الدمع ذاكرتهم لعلها تهدأ وتنام".

اللافت في رواية أمين صالح ليست هذه القصص، التي تعد تبعا لتقاليد المكان ضربا من الأسرار، وإنما الأسلوب الذي كتبت به

سنكتشف تباعا من خلال المقدمة أن السارد/ الراوي هو نفسه أمين صاح، فالسارد ولد مثل أمين عام 1950. فيقول إن فصول الرواية لا تحتوي على قصته أو قصة أبيه، وإنما "قصة حي شعبي في سنوات الخمسينات من قرن مضى"، وفي عتبات أخرى سنجد إشارات إلى أن الأهالي انتخبوا من بينهم "الأكثر فصاحة، الأكثر بلاغة، والأكثر أمانة" كي يسرد ما حدث ويحدث في الحي.

سبع حكايات

يمكن تلخيص قصص الرواية، أو قصة الحي الشعبي، بسطور قليلة، إلا أن اللافت في رواية أمين صالح ليست هذه القصص، التي تعد تبعا لتقاليد المكان ضربا من الأسرار، وإنما الأسلوب الذي كتبت به، وهو الأسلوب الشعري/ الرمزي المكثف الذي أشرنا إليه.

القصص تتناول حياة مجتمع الحي، وأبرزها المنحى الجنوني في العشق والتوله بالمحبوب. بعضها بقيت أصداؤه تتردد إلى حد الأسطورة. فهناك حكاية الفتاة التي قتلت بسبب الحب، إذ اعترض طريقها ذات مساء شخص أراد امتلاكها، فيما كانت قد وهبت حبها لآخر. فحاولت المقاومة إلا أن قاطع طريقها استل سكينه وصرخ "لن تكوني لغيري". وهناك حكاية عاشق لفتاة من الحي، لم تكن تعرفه ولم تتبادل معه أي كلمة، وكان يبقى ليالي وأياما ينظر إلى الوجهة التي تسكن فيها المعشوقة رغم العنف الذي تلقاه من أهلها، إلى أن اختفى فجأة، لتنبثق شجرة  في موضعه الدائم.

غلاف رواية "كائنات المرايا الجميلة طاب مساؤك"

وهناك قصة الرجل الذي صار مهووسا بالسفر، ينزل من قطار ليصعد الى آخر. وقصة الجندي الذي مات في الحرب وصار شبحا "كل ليلة، يذهب الجندي إلى الحرب، ويعود ميتا.. لكنه لا يعلم أنه ميت". إلى جانب قصة عن الوباء المنتشر وقصة عن الموهوب الذي ينتظر الموت وأخرى عن وجع الذاكرة عند رجل كبير السن.

سر زليخة

أما القصة التي تحتل الحيز الأكبر في الكتاب، فهي قصة مشاجرة وقعت بين طفل من أهالي الحي وخادم من سكان البيت الكبير. يفتتحها السارد كالعادة بصوت انشادي غنائي "تعال يا سيد البيت. ابسط سجادة الثقة والطمأنينة، وتبادل معنا الابتسام والأحاديث الودية. نشرح لك صدرك وتشرح لنا صدورنا. نتبادل الهدايا والعطايا رغم فقرنا وضيق اليد. ومثل أصدقاء قدامى، نفشي لك سرا وتفشي لنا سرا، نذيع لك خبرا وتذيع لنا خبرا، نبوح لك بما يدور في خلدنا وتبوح لنا بما يدور في خلدكم. وتتشابك أيدينا في مصافحة ودية وحميمة، وتتعالق أفئدتنا بأواصر محبة دائمة، لا تشوبها شائبة". يصف السارد كيف أن هذا البيت يجاور بطريقة فاضحة بيوت فقراء وأنه دائما مغلق، وأن سيده يتجاهل رغبات الأهالي الطيبة ونياتهم، "لم يبتسم لنا. لم يصافحنا. لم يتبادل معنا الحديث كأصدقاء".

وفي التفاصيل يذكر أن حميد، أحد أطفال الأهالي، ذا العشر سنوات، كان مسرعا في دراجته حين صدم خادما من البيت الكبير، فاشتط هذا الأخير غضبا وضرب حميد وكسر دراجته. ليقوم حمزة بعدها بالانتقام لأخيه من الخادم. فيتصاعد الحدث دون احتوائه مثل بقية الأحداث. ولم يتنازل البيت الكبير لوفد من الأهالي وترك الأمر للقانون، خاصة بعد تشدد من ولدي سيد البيت، لتبقى "الكراهية المتبادلة قائمة طوال الوقت".

في ما يكتبه أمين صالح حكمة وتأمل، عن الحب والأحلام، فـ"من لا يحب، يمشي على حافة العالم وحيدا وخائفا وجائعا. بلا ظل، ومن خلفه تسير الهاوية فاغرة شدقيها"

وهنا تنقسم الجموع ما بين المعتدلين الذين يرون أهمية الاحتكام إلى العقل "غير مجد أن نرجمهم بالعداوة فيرشقوننا بالرصاص. العنف يولد العنف"، وأولئك "القلة الطائشة" التي "تحتكم إلى العضل" وترى أن القوم يهابونك ويحترمونك "إن استعرضت القوة واستعرضت البأس وبطشت بالخصم". ويسرد بعض التصرفات "المتطرفة" للفئة الثانية. كما يمضي السارد بعدها في أسئلة وجودية وإنسانية عن حياة الخدم، ووقوفهم مع سادتهم، رغم أنهم يعانون مثل الجميع من ظروف العيش والاستغلال.

من أعمال أمين صالح

لكن هذه القصة لا تنتهي دون أن تتخللها قصص أخرى لبعض سكان الحي، ومنها قصة عشق بين فتاة فاتنة الجمال من البيت الكبير تدعى زليخة، وشاب مراهق من الحي يدعى زكريا، فيما كان معظم شباب الحي قد وقعوا بحبها منذ اللمحة الأولى، ولم تخل قصتهما من الفجيعة.

في ما يكتبه أمين صالح حكمة وتأمل، عن الحب والأحلام، فـ"من لا يحب، يمشي على حافة العالم وحيدا وخائفا وجائعا. بلا ظل، ومن خلفه تسير الهاوية فاغرة شدقيها". و"كل حلم يتبع مسراه الخاص، منطقه الخاص". وفي قراءة اجتماعية يرى أن بعض شباب الحي لا تمر تظاهرة جماهيرية إلا ويشارك فيها "سواء أكان يعرف شيئا عن القضية أو لا يعرف". ويفصح أن الجيل الغر ختم القرآن "في بيت ملا علي" وكان دائم الحديث عن المستقبل.

ولا ينسى، بصوت السارد، القول "ثمة أسرار كثيرة مخبوءة، ليست للإفشاء، ليست للبوح. وأسرار أخرى تتهيأ للإباحة مع كل هبوب لرياح مغرمة بالنميمة وإثارة الفتن".

font change

مقالات ذات صلة