3 فنانين ارتبطت أسماؤهم بمدن أقاموا بها إقامات عابرة

فان غوغ وغوغان وماتيس

ABDELHAK SENNA / AFP
ABDELHAK SENNA / AFP
منظر لمدينة طنجة يوم إعلان ترشيحها رسميا لاستضافة معرض إكسبو الدولي لعام 2012

3 فنانين ارتبطت أسماؤهم بمدن أقاموا بها إقامات عابرة

قُدّر لمدن، مر بها غرباء مصادفة، أن ترتبط بأسماء أولئك الغرباء، ومعظمهم كتاب وفنانون ومبدعون في المجمل. وهذا حال فضاءات داخل هذه المدن نفسها، لم تكن شهيرة في ما مضى، ولكن بمجرد أن ارتادها هؤلاء، أمست علامات راسخة، فانعطف تاريخها ليغدو شيئا لامعا، مستقطبا، مغويا، جاذبا، لا لشيء، سوى أن قامة فنية عبرت المكان مثلما يعبر طائر نحام سطح بحيرة، تاركا أثر دوامة على صفحة المياه، مؤبدة التدوير، دون أن يتقصد الزائر الغريب إحداث ذلك. وبذا تحتفظ ذاكرة هذه الأمكنة بأطيافهم، الى درجة يتلازم اسمها بالحضور البديهي لوجوههم، وكأنما أضحى للمكان وجهان، وجهه الأصلي، ووجه الزائر الدامغ، في ما يشبه وجهين لعملة أو أيقونة واحدة.

لا يتعلق الأمر هنا بالإشارة إلى مبدعين أقاموا طويلا في بلدان غير بلدانهم حد الممات، وفق اختياراتهم الوجودية، ولا بحسب إكراهات العيش، سواء امتثلوا لضرورة عمل يستوجب هجرة كهذه، أو لاذوا قسريا بسبب حرب ضارية، ملاحقة سياسية موصولة بمشنقة، هدر دم بسبب كتلة دينية أو عقائدية متطرفة، أو انسياقا وراء مهمة رسمية، تعليمية أو قضائية أو سياسية، بما فيها الجاسوسية على سبيل المثل... بل يتعلق الأمر، فعلا، بمبدعين سافروا إلى هذه البلدان لفترة وجيزة، إما عبر مصادفة محضة، أو وفق دعوة فنية، ثقافية، ربما تكون دعوة صداقة لا غير أو من خلال تخطيط ذاتي، إشباعا لفضول شخصي، لرغبة في الاكتشاف، أو سعيا وراء متعة، صيدا أو قنصا كان، أو غيره من المآرب.

ليس انحيازا كلية للفن التشكيلي أن نحصر الحالات الإبداعية في أمكنة كهذه بنماذج أو منتخبات منه، ولكن على سبيل المثل على نحو أوضح، وليس محاباة.

فان غوغ وأصفر بلدة آرل

ما يهمنا هو المقام العابر، لأسماء ذات جاذبية، لم يستغرق عبورها إلا أياما أو شهورا على أبعد تقدير، مثلما تحقق لفان غوغ في مدينة آرل الفرنسية ابتداء من فبراير/ شباط 1888 إلى مايو/ أيار 1889، وكانت من أبدع لحظات منجزه الفني، أنجز فيها أكثر من 300 لوحة، ألمعها "ليلة النجوم فوق نهر الرون" و"غرفة النوم في آرل" و"دوار الشمس" و"الغربان في حقل القمح". وفي الآن ذاته كانت منعطفا حادا في سيرته الذهانية، وتوتره العصبي، الموشوم بانهيار آل به إلى أن يكون نزيلا في مستشفى البلدة الذي سيغدو في ما بعد حاملا لاسمه.

آرل هي المعادل الموضوعي للون الأصفر في تجربة فان غوغ الوجودية والجمالية، والأصفر ليس مصدر ابتهاج دائما، بل يضمر سواد النهايات المأسوية

آرل هي المعادل الموضوعي للون الأصفر في تجربة فان غوغ الوجودية والجمالية، والأصفر ليس مصدر ابتهاج دائما، بل يضمر سواد النهايات المأسوية، وغرابة أطواره ستجعل من الرسام المقلق مصدر إزعاج لسكان البلدة، الذين تواطأوا في نبذه عنهم.

Wikimedia Commons
مدينة آرل

من كان يتوقع أن تطبق شهرة المدينة الآفاق بعدما حل فيها فنان من طراز فان غوغ، وأن تغدو ذات صلة وثيقة به، إن ذكر اسمها عنّ في البال اسمه هو الآخر، في ما يشبه متلازمة طارئة، لكن دائمة، وعلى نحو خاص، غرفته الصفراء المفردة في معمار متاهة آرل الجنوبية.

REUTERS/Stephane Mahe
زائر يلتقط صورة للوحة "غرفة فان غوخ في آرل" (1888) في متحف أورسيه بباريس

اكتسبت بلدة آرل هوية مضاعفة من خلال كيمياء اللون، نعم، الأصفر الفانغوغي بالذات، ارتقت بها بصريا إلى أيقونة يغدو معها الضوء شيئا سحريا، رمزيا على نحو جمالي وفلسفي في آن، حد أن فان غوغ شحذ المسألة في مقولات لاسعة من قبيل: "شيئان يحركان روحي، التحديق في الشمس والموت".

بول غوغان وأخضر تاهيتي

الشيء نفسه سيحدث لصديق فان غوغ في جغرافيا مغايرة، إذ سيمضي الفنان الفرنسي بول غوغان فترة صاخبة في تاهيتي ابتداء من 1891، سمقت فيها تجربته الفنية بمنجز لافت تأرجح بين الرسم والنحت، وقد اجترح هو الآخر لوحات خالدة كنساء تاهيتي في أوضاع مريحة، وروح الموتى تراقب، وثلاث نساء تاهيتيات ونساء تاهيتيات على الشاطئ.

Wikimedia Commons
لوحة "نساء تاهيتيات على الشاطئ"

دوّن بول غوغان يومياته في تاهيتي بين عامي 1891و1893، ولم يفتأ يعود إلى باريس حتى كرر السفر إلى أرخبيل تاهيتي من جديد، ابتداء من عام 1895، منحازا الى الجمال الوحشي، لهبات الحياة البدائية الطاعنة في الحلم، هروبا من صخب باريس الأجوف، كإدانة لزيف الحضارة الغربية الممعنة في ثقافة التلفيق والاصطناع.

تاهيتي هي الأخرى اكتسبت هوية مضاعفة من خلال كيمياء اللون الذي انزاح به غوغان صوب الأقاصي، بل اللانهائي

لا يمكن ذكر تاهيتي دون أن يبرق في الذاكرة اسم بول غوغان، وهذه صورة موشومة أخرى لسيرة المكان المتحول، إذ يندمغ بعلامة فنان، ويصعب الفصل فيما بين كيمياءيهما. فلا تاهيتي تستقيم دون الإشارة إلى بول غوغان، ولا بول غوغان يستقيم دون الإلماح إلى تاهيتي.

VALERY HACHE / AFP
صورة غير مؤرخة للرسام بول غوغان في بريتاني

تاهيتي هي الأخرى اكتسبت هوية مضاعفة من خلال كيمياء اللون الذي انزاح به غوغان صوب الأقاصي، بل اللانهائي. والأخضر هنا، لا يقف عند حدود طبيعة بدائية، بل يتحول إلى حالة وجودية، ذات نزوع روحي، ما أقربها إلى التماهي مع طبقات إنسانية غائرة الأثر، يسبغ معناها في طبقات المشهد الطبيعي المنذور للخصوبة. فبالقدر الذي ينحو فيه الأخضر في خلفية اللوحة إلى الهدوء المتناغم، يكتنز أيضا إشارات الإغواء الحالم والجارف في آن.

الأخضر ليس نباتيا محضا، ولا مائيا زمرديا صرفا، وإنما تركيب يقوض المسافة بين الشكل واللون، يستمزج الهدوء والرغبة، اشتراطات الحضارة الاستعمارية والتحرر من سطوتها، وكل هذا الزخم باتت تاهيتي تتألق به كلما رن معدن اسمها في سماء المشهد الفني والجمالي.

هنري ماتيس وأزرق طنجة

من الإقامات العابرة ذات الأثر الخالد، ما تحقق لهنري ماتيس في طنجة، من 1912، إلى 1913، وقد أنجز خلالها 23 لوحة أشهرها "باب القصبة" و"نافذة في طنجة" و"المقهى العربي" و"زهرة على سطح البيت". ومثلما عرف فان غوغ بالغرفة الصفراء في آرل، عرف ماتيس بالغرفة رقم 35، في فندق "فيلا دو فرانس"، وكان حلمه أن يتقصى نقاء بحثا عن توازن يلهمه الصفاء، سعيا وراء موضوع غير مزعج، هادئ، بعيد عن لوثة الإحباط، وهذا ما سيستوعبه الأزرق المتدرج في لوحاته الطنجية.

ظفر ماتيس بما كان يرومه من سفره مرتين إلى طنجة، خاصة في رحلته الثانية، وطفا في معترك اجتراحاته الأزرق الموحد لتشظيات العناصر في اللوحة.

يندلق الأزرق من لوحة "نافذة في طنجة" ليماهي بين الداخل والخارج، دونما فصل، مسبغا معنى جديدا على الذاكرة البصرية للمكان.

Pushkin State Museum of Fine Arts / AFP
خبير في متحف بوشكين للفنون الجميلة في موسكو يفحص لوحة "نافذة في طنجة" لهنري ماتيس

أسعفت طنجة ماتيس في أن ينزاح باللون إلى قراءة معمارية جديدة، إذ مكنه تشكيل الفضاءات من خلال الأزرق كأداة وكموضوعة وتقنية وشكل، من استغوار الطبقة تلو الأخرى وصولا إلى مراتع روح المدينة، قابضا على ضوئها المنفلت، وهاجسا بإيقاعها البصري.

يندلق الأزرق من لوحة "نافذة في طنجة" ليماهي بين الداخل والخارج، دونما فصل، مسبغا معنى جديدا على الذاكرة البصرية للمكان

في كتابه "كتابات وتأملات في الفن"، يفصح ماتيس: "ساعدتني رحلاتي إلى المغرب على تحقيق هذا التحول، وعلى إعادة التواصل مع الطبيعة بشكل أفضل مما سمح به تطبيق نظرية".

STAFF / AFP
هنري ماتيس

طنجة هي الأخرى، اكتسبت هوية مضاعفة، من خلال كيمياء أزرق ماتيس، والعكس صحيح، غير أن قائمة الأمكنة المعروفة استنادا إلى إقامات فنية غائرة الأثر، لا تقف عند حالات وتجارب كل من فان غوغ وبول غوغان وهنري ماتيس، ولكنها بصورة من الصور توجز بعمق جارح، مسألة الإقامات الفنية العابرة من حيث التقويم الزمني، غير أنها خالدة من حيث التقويم الجمالي.

font change