تخيل حياة بلا هواتف محمولة، ولا إنترنت، ولا طيران. كل هذه التقنيات التي يقوم عليها عالمنا الحديث يمكن أن تتوقف فجأة وتبقى معطلة لأشهر، إذا اندلع صراع حقيقي في الفضاء. فالمجال الفضائي، الذي كان رمزا للتعاون العلمي واستكشاف المجهول، يتحول اليوم إلى ساحة معركة جديدة، بعدما وجهت اتهامات الى روسيا بتهديد الأقمار الاصطناعية، الألمانية والبريطانية.
ووفقا لتقرير حديث لشبكة "سي إن إن"، حذرت كل من ألمانيا والمملكة المتحدة من الخطر المتنامي الذي تمثله الأقمار الروسية والصينية، بعدما رصدت وهي تقترب بانتظام من مواقع أوروبية مخصصة لأغراض عسكرية وسلمية.
وتخشى العواصم الأوروبية أن يتحول هذا النشاط إلى مواجهة مفتوحة في المدار، تتعطل فيها الاتصالات، وتنهار شبكات الملاحة، ويتأثر كل ما يعتمد على الأقمار الاصطناعية من خدمات مدنية وعسكرية، لتنتقل الحرب من الأرض إلى الفضاء في أكثر صورها هشاشة وخطرا.
في عام 2018، اتهمت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي موسكو بمحاولة التجسس على قمر صناعي فرنسي-إيطالي مخصص للاتصالات العسكرية في عام 2017، مشيرة إلى أن القمر الصناعي الروسي "لوتش-أولمب" اقترب بشكل كبير من القمر الصناعي الفرنسي-الإيطالي "أثينا-فيدوس" أثناء دورانه حول الأرض عام 2017. وأوضحت بارلي أن الاقتراب كان شديدا الى درجة توحي بمحاولة اعتراض الاتصالات، مؤكدة أن هذه المحاولة لا تُعد مجرد تصرف غير ودي، بل تُصنّف أيضا كعملية تجسس.
إلا أن البداية الحقيقة كانت في سبتمبر/أيلول الماضي، حين خرج وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس محذرا بلهجة حادة وبشكل علني من خطر غير مألوف لا يأتي من الشرق الجغرافي هذه المرة، بل من أعالي الفضاء، وأعلن أن قمرين صناعيين روسيين من طراز "لوتش-أولمب" يتتبعان أقمار "إنتلسات" التي تستخدمها القوات المسلحة الألمانية، في ما وصفه بأنه "تجسس مداري" يهدف إلى اعتراض البيانات والاتصالات العسكرية الحساسة.
جرس إنذار
هذا التحذير، الذي دوى في أروقة الناتو كجرس إنذار جديد، أعاد إلى الواجهة النقاش حول عسكرة الفضاء وصراع القوى الكبرى في المدار الثابت حول الأرض. وبعد أسابيع من تصريحاته، كشفت شركة "كايهان سبيس" الأميركية، المتخصصة في مراقبة الأقمار الصناعية وتحليل حركتها، أن القمر الروسي "لوتش-أولمب" بدأ بالفعل سلسلة من المناورات غير المعتادة رفعت مداره أكثر من 260 ميلا عن موقعه السابق، في خطوة تشير إلى انتقاله نحو ما يعرف بـ"مدار نهاية الخدمة"، وهو المدار الذي ترحل إليه الأقمار عند انتهاء مهامها.
ووفقا لمدير الشركة سياماك حسار، فإن هذه التحركات تدل على أن القمر الروسي "يقترب من نهاية عمره التشغيلي"، مضيفا أن "قدرات روسيا الفضائية قد تراجعت مؤقتا، على الأقل في الوقت الراهن".

لكن خلف هذا التراجع الظاهري تختبئ قصة أعقد من مجرد قمر يشيخ أو مدار يتبدل، فالقمر "لوتش-أولمب" الذي أطلق عام 2014، لم يكن قمرا عاديا منذ ظهوره الأول، بل ظل طوال عقد كامل موضع رصد وقلق لدى الغرب بسبب مناوراته القريبة من أقمار تجارية وعسكرية عدة، منها "إنتلسات 7" و"سكاي نت 4C" و"أسترا 1G" و"توركسات 4". إذ كان يقترب منها بشكل متكرر ومتعمد، في عمليات وصفت بأنها "تظليل فضائي"، هدفه جمع معلومات استخباراتية عن قدرات الاتصالات الغربية. وقد أثارت هذه السلوكيات انتقادات حادة من فرنسا وشركات الاتصالات الدولية، التي اعتبرتها انتهاكا لمعايير الأمان في المدار الجغرافي الثابت، وتهديدا للبنية التحتية الحيوية للاتصال العالمي.

