في يوم واحد، يُمكن سماع أخبار من مثل "انسحاب مقاتلي (حزب العمال الكردستاني) من داخل الأراضي التركية"، و"مجلس الأمن يصدر قرارا بنزع أسلحة حركة حماس"، و"الحكومة اللبنانية تنتظر خطة الجيش لنزع سلاح حزب الله"، ومثلها أخبار وتقارير عن "الحشد الشعبي" في العراق والفصائل السورية واليمنية والليبية وغيرها من الفصائل. فمنذ سنوات وعقود كثيرة، أصبحت هذه التنظيمات المقاتلة وأفرادها وسلوكياتها هي الخبر الأبرز وغالبا الأوحد في منطقتنا، حتى صار المراقبون الخارجيون لا يتخيلون فضاءنا السياسي والاجتماعي والثقافي العام إلا كبؤرة لمجموعة هائلة من الفصائل ومقاتليها.
لا تشغل هذه التنظيمات مكانة "الفعل المسلح" فحسب، بل هي ذات أدوار وفاعلية وإنتاجية سياسية، تستحوذ على مكانة اعتبارية وقيمة رمزية لدى قطاعات واسعة من المجتمعات التي تعيش ضمنها. مقاتلوها محاطون بهالة من القدسية، بالنسبة لقطاع مجتمعي ما على الأقل.
منذ أوائل السبعينات، نبتت هذه الفصائل نتيجة وقائع وسياقات سياسية غير عادية في منطقتنا. فالمسألتان الفلسطينية والكردية كانتا ضربا من "التعاطي الصفري" من قِبل الكثير من الدول مع مجتمعات مؤلفة من ملايين البشر، ذات شعور بالمظلومية وعدم القدرة على التوصل إلى توافقات بالحد الأدنى عبر الفعل والنضال السياسيين فحسب. وهزيمة الناصرية في حرب عام 1967 أفقدت الدولة والجيوش النظامية ما كانت تمتلكه من سطوة ودور. النظام الإيراني أضاف البعد والشحنة الطائفية إلى هذين الأساسين، مستخدما استراتيجية بعيدة المدى، تعتمد على الفصائلية كعضد لسياساتها الخارجية. لكن مختلف تلك الظروف والأدوات ما كان لها أن تكون فاعلة، لولا الفشل الذريع الذي أصاب البنى الاقتصادية والسياسية والأمنية والدستورية والتعليمية والصحية في الدول التي تفشت فيها الفصائل، فصارت تعرض نفسها كُمنقذ وأداة لحماية الكل الوطني، نيابة عن الدولة.
خلال مرحلة امتدت لأكثر من نصف قرن، تمكن أعضاء وقادة هذه التنظيمات، وبفعل "الهيمنة الرمزية" التي كانوا يملكونها ضمن بعض قطاعات واسعة من مجتمعاتنا، تمكنوا من فرض ترسانة من القيم والخطابات والأدوات المعيارية على الفضاء العام، أشياء من مثل "العنف هو جوهر التغيير وأداته الوحيدة"، و"القائد الرمز ضرورة تاريخية"، و"الظرف الراهن يُملي حالة طوارئ مفتوحة الزمن"، و"الصعود والمكانة الاجتماعية مرتبطة بمدى الولاء والتبعية لهذه التنظيمات"، و"أعضاء هذه الطبقة خارج أي انتقاد، أما الشهداء فلهم مكانة القديسين"، و"لا معنى لأشياء مثل الثروة والتعليم والأفعال المرهفة والإنتاج الذهني والعمل الإبداعي، طالما أنها أشياء غير تابعة لهذه التنظيمات"، وأشياء أخرى كثيرة من مثل تلك، كانت تخلق رُهابا دائما في الفضاء العام، وتخلق شعورا دفينا بأن ما نعيشه في الحاضر أنما هو "استثناء خاص". وكل ذلك ضمن ربط مُحكم بين مستقبل وأمان المجتمعات واستمرار التنظيمات "طبقة المحاربين" هذه.
تفكك الساموراي كان بمثابة إعلان نهاية اليابان القديمة، وانبعاث الدولة العصرية، المدنية والديمقراطية المؤمنة بشروط وقيم الحداثة الإنسانية
بمعنى ما، أخذ أعضاء هذه الطبقة أدوارا عامة وأشكالا من الهيمنة ومواقع سلطوية ومكانة رمزية شبيهة بما كانت لطبقة "الساموراي" اليابانية التقليدية التي بدأ أفرادها كجنود في "الحرس الإمبراطوري"، لكنهم بالتقادم، وبفعل ما قالوا إنها أدوارهم الاستثنائية في حفظ أمن المجتمع وسلامة السلطة الإمبراطورية أثناء مراحل الفوضى، تحولوا من "حماة القضية" إلى "القضية نفسها". فقد تغيرت مواقعهم من محاربين مفرغين لحماية النظام العام إلى قادة وملاك لإقطاعيات مالية وإدارية وتجارية ورمزية وثقافية، فارضين على المجتمعات المحلية أنواعا من التعامل الاستثنائي معهم، بحيث صاروا رمزا لكل فضيلة عامة.
بالضبط كالسيرة التاريخية للساموراي الياباني، ظهر هؤلاء المقاتلون وتنظيماتهم في منطقتنا من قضايا وظروف تاريخية شديدة التعقيد والاستثناء، وإن بدرجات مختلفة. لكنهم لم يترددوا في تحويل ذواتهم إلى "القضية نفسها". فمختلف هذه التنظيمات، ودائما بدرجات مختلفة، كان حريصا على البقاء في المكانة العسكرية والرمزية ذاتها من الهيمنة العامة، حتى لو تلاشى كل سبب لوجودها. فـ"حزب الله" اللبناني ما يزال مصرا على الاحتفاظ بسلاحه بعد رُبع قرن من خروج إسرائيل من كافة الأراضي اللبناني قبل أن تعيد احتلال بعضها. وحركة "حماس" الفلسطينية تعتبر سلاحها أمرا أقدس وضرورة وحتمية من بقاء واستمرار كل أشكال الحياة في الجغرافيا الوحيدة المحررة من أرض فلسطين، أي قطاع غزة.
لكن، ومع تثبيت كل تلك السمات السلطوية على طبقة المقاتلين وتنظيماتهم المسلحة في منطقتنا، والاعتراف البين بالأدوار النكوصية التي يمكن أن تلعبها في سياق عمليات التحديث الكلية ضمن مجتمعاتنا، يبقى السؤال الجوهري حيا، المتعلق بإمكانية تفكيك هذه التنظيمات والطبقة الاستثنائية وأدوارها وهيمنتها دون إحداث تحولات جذرية في بنية الظروف والمناخات والشروط التي انبلجت عنها. فحتى لو تفككت "حماس" الراهنة، هل من ضمانة لعدم بروز أخرى، باسم وشعارات وآليات أخرى، طالما لم يتمتع ملايين الفلسطينيين بدولة مستقلة، ولو بالحد الأدنى من شروط السلام الموضوعية. وهل أنتجت القضية الكردية في تركيا "حزب العمال الكردستاني" وكفاحه المسلح لأربعة عقود أم العكس. وتاليا، هل من ضمانة لأن يختفي "سمك الكفاح الكُردي" هناك، طالما أن "بحيرة المظلومية الكردية" حاضرة ونشطة.. وهكذا.
تفكك الساموراي كان بمثابة إعلان نهاية اليابان القديمة، وانبعاث الدولة العصرية، المدنية والديمقراطية المؤمنة بشروط وقيم الحداثة الإنسانية، لكن أولا اليابان المنتجة وغير القابلة لأن تغزو بلدان الجوار وتقتل ملايين الأبرياء من جديد، في سبيل ما تعتقد أنه "حقها"، اليابان التي صارت قابلة للكثير من الأشياء، وأولها القدرة على الاعتذار عما فعلته في الماضي.