ثلاث كونفدراليات سياسية مغلقة... تؤسس المشهد العراقي

المحاصصة على أساس أهلي كانت فاعلاً تأسيسياً في النظام السياسي الذي شيدته الولايات المتحدة في العراق بعد عام 2003

أ.ف.ب
أ.ف.ب
احتجاج قرب المنطقة الخضراء في بغداد في 27 فبراير 2023

ثلاث كونفدراليات سياسية مغلقة... تؤسس المشهد العراقي

بعد الانتخابات البرلمانية العامة التي جرت أخيرا، انفرزت القوائم الفائزة إلى ثلاث تكتلات سياسية "كبرى"، تُصنف وتُعرِّف كل واحدة منها نفسها كممثل مفوض عن واحدة من الجماعات الأهلية الثلاث الكبرى ضمن العراق، الشيعة والسُنة والأكراد. وتتطلع إلى إعادة ترتيب مراكز الحُكم ومؤسسات السلطة بين هذه الجماعات الأهلية عبر ممثليها السياسيين، ما يوحي بأن النظام السياسي في العراق يتجه لمزيد من وقائع وأسس تكريس "الكونفدرالية السياسية/الأهلية" بين الجماعات والمكونات الأهلية.

حلقات مغلقة

بعد ظهور نتائج الانتخابات مباشرة، أعلن "الإطار التنسيقي"، وهو تحالف سياسي يضم كل قوى الإسلام السياسي "الشيعية" في العراق، عن تمكنه من تشكيل "الكتلة البرلمانية الأكبر"، وتالياً التأكيد على "حقه" في تشكيل الحكومة الجديدة. لكن مسارعة "الإطار" كانت لقطع الطريق أمام إمكانية سعي رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني لتشكيل كتلة برلمانية "وطنية عابرة للانقسامات الأهلية". فالسوداني الذي حصلت قائمته "الإعمار والتنمية" على المركز الأول في الانتخابات الأخيرة، لن يستطيع فعل ذلك دون جذب جزء من قوى "الإطار"، وهو ما ظهرت صعوبته، ما دفعه للانضواء ضمن هذا التكتل السياسي/الطائفي.

عقب حدوث ذلك، أعلنت "القوى السُنية" الفائزة بالانتخابات عن تشكيل "المجلس السياسي الوطني"، ليكون مظلة تضم القوائم الانتخابية "السُنية" الأربع الفائزة في الانتخابات: "حزب تقدم" بزعامة رئيس البرلمان الأسبق محمد الحلبوسي، وتحالف "عزم" برئاسة السياسي الصاعد مثنى السامرائي، وتحالف "الحسم" التابع لوزير الدفاع الحالي ثابت العباسي، وتحالف "السيادة" الذي يترأسه خميس الخنجر. البيان المشترك الصادر عن إعلان المجلس قال حرفياً: "إن القادة المجتمعين ناقشوا مختلف التطورات السياسية، ووقفوا على طبيعة التحديات التي تواجه البلاد بشكل عام ومحافظاتهم على وجه الخصوص، مؤكدين أهمية توحيد الجهود والعمل برؤية مشتركة للحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، وضمان الحقوق الدستورية، وتعزيز التمثيل في مؤسسات الدولة".

إلى جانب ذلك، كثف الحزبان الكرديان الرئيسان في العراق، "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" مساعيهما لإعادة إحياء "الاتفاق الاستراتيجي"، الذي كان قائماً طوال الأعوام (2005-2017). ففشل الطرفان في تشكيل الحكومة المحلية في إقليم كردستان، بعد عام من إجراء الانتخابات المحلية في كردستان، وإيحاء بعض الشخصيات السياسية السُنية بإمكانية سحب منصب رئيس الجمهورية من القوى الكردية مقابل منحهم منصب رئيس البرلمان، والضغوط الشعبية عليهما، خصوصاً بعد التراجع المُلاحظ لمقاعد أحزاب المعارضة الكردية، وبروز مؤشرات على مساعي قوى الإطار التنسيقي لجذب طرف كردي دون آخر، كانت كلها عوامل دفعت الحزبين للسعي لإعادة إحياء مبادرة التحالف الثنائي بينهما، لتشكيل جبهة سياسية كردية موحدة.

بناء على تركيبة "الكتل السياسية/الأهلية المغلقة" الحالية، فإن الأطراف الثلاثة ستتفاوض على رئاسة الجمهورية والوزراء والبرلمان، بحيث تُقدم كل مجموعة مرشحا، فتوافق عليه الكتل الأخرى مباشرة

في حديث مع "المجلة"، يشرح المسؤول في "الاتحاد الوطني الكردستاني" محمود خوشناو أسباب عدم قدرة القوى الكردية مماثلة نظيرتها الشيعية والسُنية في هذا المنحى حتى الآن، قائلاً: "المشكلة تكمن في الخلاف الرئيس بين الحزبين الكرديين حول مسألتي العلاقات السياسية الإقليمية والملف الأمني الإقليمي، اللذين يقفان مانعاً أمام تشكل (الجبهة الكردية) بسهولة، وهي التي كانت موجودة منذ ثمانينات القرن المنصرم، بفعل الإجماع المطلق حول المسألة الكردية. فالقوى السُنية على سبيل المثال، وإن كانت متزاحمة وحتى متصارعة في بعض الملفات الداخلية فيما بينها، الاقتصادية والخدمية والجهوية، فإنها متوافقة تماماً في رؤيتها للمشهد الإقليمي، سياسياً وأمنياً، وترى في الأمر مصلحة عليا للجماعة السُنية في البلاد. وهو أمر تلاقيه بعض القوى الإقليمية صاحبة الرؤية نفسها، فتضغط وتراعي التوافقية السُنية، لأن هذه القوى الإقليمية ترى في ذلك مصلحة عليا لنفسها، وهو منطق يصح على القوى الشيعية، ولا يُمكن أن يُطبق في الحيز الكردي لسببين رئيسين: فالقوى الإقليمية ممثلة بإيران وتركيا متصارعة من طرف على الأحزاب الكردية، حيث تسعى كل واحدة منها على جذب حزب كردي رئيس دون آخر. وهي أيضاً قوى إقليمية مناهضة للأكراد سياسياً، ولا ترى لنفسها مصلحة في توحيد البيت السياسي الكردي. في هذا الظرف، من المفترض أن يكون لرئيس إقليم كردستان دور قادر على تغطية الفراغ الناجم عن ذلك، بحكم مسؤولياته وصلاحياته القانونية المتأتية من منصبه، وطبعاً لنوعية شخصية الرئيس نيجرفان بارزاني، القادر على التصرف كشخص جامع للبيت الكردي، وليس كقيادي في حزب بذاته، وهو أمر لم يتبلور حتى الآن، لكنه الأداة الوحيدة لإمكانية اجتراح إطار أو مجلس كردي".

أ.ف.ب
زير الخارجية العراقي فؤاد حسين، والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ورئيس مجلس النواب محمود المشهداني، ورئيس "تيار الحكمة" عمار الحكيم في القصر الحكومي ببغداد في 13 ديسمبر 2025

محاصصة واضحة

بناء على تركيبة "الكتل السياسية/الأهلية المغلقة" الحالية، فإن الأطراف الثلاثة ستتفاوض على ثلاثة مستويات: مناصب الرئاسات السيادية الثلاثة، رئاسة الجمهورية والوزراء والبرلمان، بحيث تُقدم كل مجموعة مُرشحاً لذلك المنصب، فتوافق عليه الكتل الأخرى مباشرة. وهو أمر قد يُعكر ويُجمد الحياة السياسية في البلاد مطولاً، حسب رأي المراقبين. فقوى "الإطار التنسيقي" قد تضع ضوابط وشروطاً على مرشحي رئاسة الجمهورية والبرلمان، لأسباب تتعلق بحساسيتها من بعض الشخصيات الكُردية والسُنية المُعارضة لها جذرياً، واستجابة لما تراه وتشترطه إيران كـ"تشكيل مقبول" للمؤسسات السيادية الرئيسة في العراق. لكنها، أي قوى "الإطار التنسيقي"، لا تقبل أية معارضة كردية أو سُنية لمرشحها لمنصب رئاسة الوزراء، وهو ما قد يخلق إشكاليات داخل المحفلين السياسيين الكردي والسُني. الأمر نفسه يتعلق بباقي المناصب الرئيسة، فمختلف الوزارات والهيئات المستقلة والدرجات الخاصة والمناصب العليا يتم تحاصصها بين القوى السياسية الرئيسة في العراق تقليدياً، لكنها صارت راهناً مخصصة لواحدة من الجماعات الأهلية بالضرورة، بحكم نوعية هذه التكتلات.

بحكم التجربة العراقية الخاصة، فإن المحاصصة على أساس أهلي كانت فاعلاً تأسيسياً في النظام السياسي الذي شيدته الولايات المتحدة في العراق بعد عام 2003

المستوى الثاني يتعلق بالسياسات العامة للبلاد، تحديدا الأمنية والخارجية/الإقليمية. فـ"الإطار التنسيقي" سيؤكد على ثابتين رئيسين ضمن هذا السياق، باعتباره الكتلة السياسية الأكبر، المعبرة عن "الجماعة الأهلية الأكبر" في البلاد. الأول هو منع تفكيك فصائل "الحشد الشعبي" أو التقليل من مخصصاتها وتسلحها وأدوارها ضمن الحياة العامة بأي شكل. ففصائل "الحشد" بالنسبة لقوى "الإطار" هي أداة تثبيت هيمنتها السياسية والأهلية على الحياة العامة، وحائط صدٍ أمام أية إمكانية لتفكيك قوة وتعاضد تيارات "الإطار التنسيقي"، حسب رأيها. الثابت الآخر هو الحفاظ على علاقة سياسية وأمنية وآيديولوجية خاصة مع إيران، تحفظ لها دوراً ونفوذاً في الداخل العراقي. لا تملك القوى السُنية والكُردية إلا القبول بهذه الفروض، بحكم الوقائع السياسية والميدانية على أرض الواقع. فالأغلبية السياسية/الأهلية التي يمثلها "الإطار التنسيقي"، تجد لنفسها الأحقية في تحديد توجهات العراق، مع القبول بإخراج العراق من المواجهات الإقليمية التقليدية، مثلما كانت خلال السنوات الماضية.  

رويترز
قوات "الحشد الشعبي" في حفل تخرج بمعسكر في كربلاء، العراق، في 30 أغسطس 2019

تجربتان "فاشلتان" للمدنية السياسية

بحكم التجربة العراقية الخاصة، فإن المحاصصة على أساس أهلي كانت فاعلاً تأسيسياً في النظام السياسي الذي شيدته الولايات المتحدة في العراق بعد عام 2003، لكنها لم تكن بهذا المستوى من الوضوح والإغلاق المحكم في أي وقت. فالدستور العراقي اعترف بالتنوع داخل البيئة الأهلية العراقية، وأكد على ضرورة أن تكون التوافقية حاجزاً أمام أية إمكانية لتشكيل دكتاتورية شمولية مجدداً، فيما تحاصصت القوى النافذة وقتئذ المناصب السيادية الرئيسة الثلاثة في البلاد.

بالتقادم، ومع زيادة مستويات المواجهات الطائفية بعد عام 2007، والتي تكرست كواقع سياسي صلب، أصبحت الطائفية الفاعل الأكثر حيوية ضمن المشهد السياسي العراقي

بالتقادم، ومع زيادة مستويات المواجهات الطائفية بعد عام 2007، والتي تكرست كواقع سياسي صلب بعد سيطرة التنظيمات المتطرفة على مناطق واسعة من العراق، سواء على شكل مجموعات إرهابية أو فصائل تابعة لتيارات سياسية بعينها، أصبحت الطائفية الفاعل الأكثر حيوية ضمن المشهد السياسي العراقي. تلاقى ذلك مع خلافات شديدة بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية العراقية، تحديدا حول ملفات شديدة الحساسية، مثل كركوك والمناطق المتنازع عليها وحق إقليم كردستان في استخراج وتصدير النفط من مناطقه، ما مزج الصراع الطائفي بنظيره القومي. كان ذلك دافعاً لدعوات إلى تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق كونفدرالية، شيعية وسُنية وكردية، تدير كل واحدة منها شؤونها الداخلية بشكل شبه مطلق، ولا تجمع العاصمة بغداد بينها إلا بشكل رمزي، كما طرح نائب الرئيس الأميركي وقتئذ جو بايدن. لكن الطرح جوبه برفض إقليمي وداخلي شديد.

رويترز
إياد علاوي رئيس وزراء العراق الأسبق يتحدث خلال مقابلة مع وكالة رويترز في بغداد، العراق، 17 أبريل 2017

خلال هذا المسار العراقي المرير، حدثت تجربتان مخالفتان للسياق الكلي، جهدت إيران لدحضهما. ففي عام 2010 تمكن رئيس الوزراء السابق إياد علاوي من الحصول على أكبر عدد من الأصوات والمقاعد (91 مقعداً من أصل 325 مقعدا برلمانيا)، وعبر قائمة عابرة للحساسية الأهلية والقومية والمناطقية "القائمة العراقية". لكن ضغوطا إيرانية هائلة منعته من تشكيل الحكومة الجديدة، عبر تفسير خاص وغريب قدمته المحكمة الاتحادية وقتئذ، ثبتت فيه تفسير "الكتلة البرلمانية الأكبر" على أنها الكتلة التي تثبت وجودها في أول جلسة برلمانية، وليس الكتلة الفائزة بأكبر عدد من المقاعد، ما أعاد تثبيت الطائفية كفاعل سياسي أول.

التجربة الأخرى كانت عقب انتخابات عام 2018، حين شكل التيار الصدري مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"حزب تقدم" ما عرف بـ"التحالف الثلاثي"، الذي كان يضم أكثر من نصف مقاعد البرلمان وقتئذ، والعابر للحساسيات الأهلية والقومية. لكن ضغوطا إيرانية واضحة عبر فصائل "الحشد الشعبي"، أوصلت التوتر إلى ذروته، وهددت بالدخول في مواجهة ساخنة مع أنصار التيار الصدري في مختلف مدن البلاد، مع عمليات قصف متكررة لإقليم كردستان ومقار "حزب تقدم"، فكك ذلك التحالف لصالح التكتلات الطائفية.

في حديث مع "المجلة" بشأن هذا التموضع الجديد، يقول الباحث محمد كلش: "حسب التركيبة الجديدة لعالم السياسة العراقية فإنه لا أهمية لأية انتخابات عامة في العراق، طالما أن الكتلة السياسية المغلقة هي التي تحدد شكل السلطة ومؤسسات الدولة وأجهزة الحُكم، أياً كانت نتائج الانتخابات. ففعلياً ليس في العراق برلمان يحدد السياسات العامة وشكل الحكم وإقرار القوانين، بل تجمعات سياسية تناقش وتقرر ذلك، بينما يعمل البرلمان كواجهة قانونية لاستخراج ذلك إلى العلن. الأمر الآخر هو حلول الأغلبية الأهلية مكان الأغلبية السياسية في المشهد السياسي وأدوات الحكم. وهي بذلك تفرض نوعاً من الهيمنة الطائفية والقومية على باقي مكونات البلاد، في الوقت الذي تُشكل فيه الأغلبية السياسية، ذلك الفاعل في الأنظمة الديمقراطية، وفقط ضمن وقت وصلاحيات محددة بالدستور والقوانين المدنية".

font change