مثَّل تحرير سوريا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول عام 2024 الفرصة البنيوية الأهم للفاعلين السوريين جميعا من حركات عسكرية وسياسية واجتماعية للانتقال إلى فضاء الدولة وعملها السياسي المنظم بعد عقود من الاستبداد والسلطوية وتفسخ الدولة والعمل المعارض المحلي والانقسامات الفرعية المختلفة.
لم يخرج مسار الانتقال في سوريا عن التوقعات لجهة التداعيات التي واجهته أو قد تواجهه لكنه خالف هذه التوقعات في سرعة تبلوره مؤسساتيا واستقراره وترسيخ اعترافه دوليا بوصفه الطريق الأمثل لتجاوز الصراع السوري وارتداداته المختلفة على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.
وكما هو معروف في دراسات الانتقال السياسي للدول التي مرَّت بتغيير جذري بعد تمردات اجتماعية كبرى تختلف القوى الحزبية في مقاربتها للفرص السياسية بين الاستفادة منها وتوسيعها ضمن معادلة رابحة للجميع أو محاولة استغلالها لمصالحها الخاصة والفئوية بطريقة مغلقة لا تقارب المشهد الوطني بعموميته وتحولاته الجامعة.
ولم تكن سوريا بعد سقوط الأسد استثناء عن التجارب السابقة حيث نزعت غالبية القوى السياسية والعسكرية بمختلف مشاربها الأيديولوجية والفكرية إلى كلمة سواء بالإجماع على الدولة، فكرا ومفهوما وممارسة، كبديل لا فكاك عنه عن استمرار الفصائلية المنهكة والخطيرة. لكن بعض القوى الأخرى، لاسيما التي نشأت أو أسست لتحاكي خصوصية هوياتية معينة تضخمت في سياقات الحرب السورية وتشعباتها، اختارت نهجا بديلا بالإعراض ومعارضة كل الطروحات التوافقية والإندماجية ورهنت استمراريتها وفاعليتها بالمشهد بفرضية جامدة بشقين: أولهما أن الحكومة السورية الجديدة لن تستطيع أن تثبت شرعيتها خارجيا وتتجاوز التحديات والعوائق التي كانت سابقة ابتداء من التصنيف ووصولا إلى العقوبات. أما الشق الثاني والمرتبط بالأول، فطرحت نفسها، وبصراحة هذه المرة، بوصفها قوة تخدم بالوكالة دولا لا تتوافق توجهاتها مع سوريا موحدة ومستقرة.
ويمكن تلمس ذلك صراحة في السلوك السياسي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) وبعض الفصائل من السويداء التي راهنت على هذا الموقف من البداية وقبل تبلور أي أحداث أو قضايا جانبية معقدة، الأمر الذي حال دون مشاركتها، ورغم كل الطروحات والعروض في عملية بناء الدولة.
لكن السؤال الذي يطرح حاليا لاسيما بعد تلاشي الفرضية السابقة نظريا وإجرائيا لاسيما بعد الانفتاح والاحتضان الدولي والإقليمي الكبير لسوريا الجديدة عن الخيارات التي تملكها في المستقبل المنظور بما فيها صوابية الاستمرار على الخارج وحصول الفوضى أو التقسيم.
الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق أمام جميع الفاعلين، في الداخل والخارج على حدّ سواء، إذ غدت سوريا الجديدة خيارا معترفا به دوليا لتحقيق الاستقرار
ضمن هذا السياق، شكّلت زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الولايات المتحدة محطة سياسية وتاريخية فارقة توجت مسار سوريا الجديدة وحراكها الدبلوماسي المتوازن، ثم جاءت زيارة واشنطن ولقاء الرئيس دونالد ترمب حيث أعلن الجانب الأميركي بشكل واضح دعمه وحدةَ الأراضي السورية وشرعية الحكومة الجديدة، وعدَّ الدولة السورية الجديدة شريكا أساسيا في ضمان الاستقرار الإقليمي، وإدارة التحولات الخطيرة في فترة ما بعد الحرب.
هذا الاعتراف الدولي الواسع أعاد ترتيب الأوراق أمام جميع الفاعلين، في الداخل والخارج على حدّ سواء، إذ غدت سوريا الجديدة خيارا معترفا به دوليا لتحقيق الاستقرار، بدلا من أن تكون ساحة لتجارب المشاريع الجزئية أو الانفصالية. وبذلك، تلقّت الأوهام التي رُوِّج لها حول إمكانية الحماية الدولية لكيانات موازية للدولة ضربة قاسية.
رسّخت الزيارة تحولا ملموسا في الموقف الأميركي تجاه الملف الأمني الإقليمي، مع انحياز متزايد لخيار اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل يقوم على تبني المقاربة السورية بضرورة انسحاب الأخيرة من المناطق التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر. ويُبطل هذا التطور بالتقادم السريع مشروع بعض الفصائل في السويداء، المبني على رهانات تستند إلى الخطاب الإسرائيلي فقط، دون أن تقدم أطرا لمشروع سياسي.
وجدت "قسد" نفسها أمام وقائع سياسية وأمنية جديدة. لسنوات، حاولت "قسد" أن تُصوّر نفسها كشريك لا غنى عنه للولايات المتحدة في محاربة "داعش" مقابل تساهل سياسي ووجود أميركي ممتد
ما ينطبق على السويداء ينسحب بدرجات مختلفة على "قسد". فبعد زيارة الشرع إلى واشنطن، وجدت "قسد" نفسها أمام وقائع سياسية وأمنية جديدة. لسنوات، حاولت "قسد" أن تُصوّر نفسها كشريك لا غنى عنه للولايات المتحدة في محاربة "داعش" مقابل تساهل سياسي ووجود أميركي ممتد. في المقابل، تأرجحت واشنطن بين خطط الانسحاب المعلنة والبقاء المتردد، مُقيّدة بغياب شريك سوري شرعي قادر على ضمان هزيمة دائمة لـ"داعش" ومنع حدوث فراغ أمني، وهو ما توفر الآن بعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي، لتصبح دمشق الشريك الشرعي في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار في المنطقة.
الآن وبعد أشهر من المماطلة، تضيق خيارات "قسد" فيما إذا كانت تريد تجنب مواجهة غير مرغوبة تتحمل تبعاتها كاملة، وتنحصر في مسار الاندماج الوطني بوصفه الخيار الوحيد الآمن والعودة إلى المبادرة السورية التي اقترحت دمج "قسد" ضمن حل وطني شامل، بوصفها حلا وسطا واقعيا يحفظ وحدة البلاد ويضمن حقوق جميع المكوّنات في إطار مؤسسات الدولة، وهو طرح حظي حينها بمباركة واشنطن، وترافق مع خريطة طريق واضحة، باتفاق مارس/آذار الذي رسم مسارات عملية لإعادة هيكلة الانتشار العسكري والأمني والإداري في الجزيرة السورية.
أصبح الانتقال إلى مرحلة البناء الداخلي وإعادة الوحدة الوطنية أمرا حتميا لا ترفا سياسيا، ويغدو الخيار الوطني الجامع الطريق الوحيد نحو سوريا واحدة مستقرة
اقتصاديا، تدخل سوريا للمرة الأولى منذ عام 1979 مرحلة خروج تدريجي من دائرة العقوبات الدولية. ومن المتوقع أن تشكّل سنة 2026 محطة فارقة في مسار استعادة الحضور الاقتصادي السوري في النظام الدولي، مع إزالة أغلب العوائق التي كبّلت الاقتصاد لعقود. هذا الانفتاح المرتقب حثَّ عددا من الشركات الأميركية الكبرى للعودة إلى السوق السورية، لا سيما في مجالات الطاقة واستثمار الحقول النفطية والبنى التحتية الحيوية.
أثبتت الدولة السورية في المرحلة الأخيرة قدرة لافتة على إدارة التوازنات الدقيقة بين القوى الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، ومن الاتحاد الأوروبي إلى الصين، بالتوازي مع إعادة بناء شبكة علاقاتها العربية والإقليمية. ونجحت في تجاوز القوالب التقليدية التي حكمت سياسات المنطقة عقودا، لتظهر لاعبا أساسيا في رسم ملامح التوازنات الجديدة في الشرق الأوسط.
في ضوء هذه التحولات، يصبح الانتقال إلى مرحلة البناء الداخلي وإعادة الوحدة الوطنية أمرا حتميا لا ترفا سياسيا، ويغدو الخيار الوطني الجامع الطريق الوحيد نحو سوريا واحدة مستقرة، تتجاوز انقسامات الماضي، وتفتح الباب أمام جميع مكوّناتها للمشاركة الفاعلة في صناعة مستقبل مزدهر يليق بتضحيات السوريين وتطلعاتهم.