المسرح وجمهور الأقلية

المسرح وجمهور الأقلية

استمع إلى المقال دقيقة

من الضروري رد الاعتبار إلى الأقلية، التي تحفظ نعمة المسرح، وتحافظ على هذه الأنواع، وتحميه من الانخراط في الظواهر الوظيفية والاستهلاكية، وتسعى، برسولية وهاجس إبداعي، إلى تطويره وممارسة فعل تجريبي طليعي عليه. هذه الأقلية هي أصلا جزء من الناس، وما نسميه الجمهور. هذه الأقلية هي جمهور ما، وليست الجمهور، تتعاطى مع مسرح ما (تجربة أو تجارب عدة ما)، وليس مع المسرح المعمم النموذجي.

بهذا المعنى، يمكن أن يكون مسرح الأقلية مسرحا "جماهيريا" نسبيا بالطبع. فالجماهيرية لا تحدد بأعداد مؤلفة، أو بملايين الجماهير. في مسرح الأقلية، تلتقي كي تكتسب هذه الصفة، بأناس تربطهم علاقة نوعية بالمسرح كنوع مختلف ومستقل، ولا يتداخل مع أنواع أخرى، ولا تطغى عليه أدوات أنواع أخرى، ولا هموم وهواجس أنواع أخرى، ولا يتخلى عن نوعيته، أو ينتقصها لحساب عوامل خارجية.

ونود أن نشير، في هذا المجال، إلى أن المسرح ذاته، وحتى المسرح التجاري، الذي يستقطب على مدى سنوات مثلا مئات الألوف من المتفرجين، يبقى، رغم ذلك، من الأقلية نسبيا، إذا ما قورن بالفنون الأخرى وخصوصا التلفزيون. فما يستقطبه التلفزيون في دقائق لا يستطيع أي مسرح، أيا كانت نجاحاته الشعبية، أن يستقطبه في أشهر وسنوات. يكفي أن يظهر ممثل على الشاشة التلفزيونية دقائق معدودات، حتى يراه عشرات الملايين وأحيانا مئات الملايين.

إذن، المسرح، قياسا إلى التلفزيون (وحتى السينما)، هو فن أقلية. أقلية محدودة. على هذا الأساس، يبدو ذلك سببا للتخلي عن أسطورة "جماهيرية" المسارح الشعبية والشعبوية والتجارية. وتاليا التخلي عن فعل سياسي أو دور أيديولوجي أو وظيفة اجتماعية معممة وفاعلة وقصيرة. وهذا ما يردنا إلى المسرح الطليعي الذي يتوجه بإرهافاته الجديدة إلى أقلية، تحاول أن تصغي إليه بانتباه وشفافية (ونرجسية)، والذي لا يسعى إلى فعل سياسي أو وظيفة اجتماعية أو دور سياسي، لا لأنه مسرح خال من الأفكار، وحتى من الأيديولوجيا، ولكن لأنه عاجز (وإن أراد) عن أن يكون فاعلا ومؤثرا في محيطه الواسع، تماما كالمسرح الشعبي (اصطلاحا).

فالمسرح الشعبي، ومسرح الأقلية، يشتركان في أنهما، وبنسب متفاوتة، مسرح أقلية، ومسرح هوامش، ومسرح بؤر اجتماعية أو ثقافية. لكن الفارق أن الأول يتخلى عن "أصله" لأوهام جماهيرية، والآخر ينضم إلى ذاته (نوعه) لـنـفـضه هذه الأوهام. أقليتان إذن: واحدة تفقد لغتها، وأخرى تتمسك بها. لهذا فالأقلية التي يتوجه إليها المسرح الطليعي أو "الجدي"، إنما تعني أقلية الأقلية، أو أقلية داخل أقلية. لكنها أقلية تعي وتتفتح وتتحول وتتطور وتتعامل مع النص والإخراج والأدوات المسرحية، من منطق العرض، ومن كثافاته وتميزاته ومفارقاته، أي تتعامل معه كفن خاص، انطلاقا من أنها أقلية خاصة.

 قياسا إلى التلفزيون، فإن المسرح هو فن أقلية محدودة. على هذا الأساس، يبدو ذلك سببا للتخلي عن أسطورة "جماهيرية" المسارح الشعبية والشعبوية والتجارية

على أن هذه الأقلية التي تتقدم إلى العرض من قوته الخاصة، ليست تجمعا أو جمعية أو حزبا أو طائفة (مسرحية)، تتمتع بمواصفات مشتركة، أو بردود فعل واحدة، وتكتب بقلم واحد، وتصرخ بصوت واحد، وتصمت صمتا واحدا. وهي ليست اتجاها نظريا، أو مدرسة تطبيقية، لها سماتها الموحدة، وتوجهاتها المبرمة سلفا، وتهيؤاتها الثابتة. إنها أقلية يجمعها أمر واحد هو الشغف في المسرح والتمسك به كنوع، والتفتح الواعي والشفاف، على العمل. على أن هذه السمة المشتركة، وكي تكون الأقلية دينامية وحرة، لا تلزم العمل مقاييسها المعروفة المكرسة، كي لا تقع في ما تقع فيه "الأقلية الكبرى" ذات الذوق السائد، أي ذات الذوق المؤسسي، أقصد الذوق المرتبط بمجمل المؤسسات السائدة.

لذا، فهي أقلية بلا هوية، بلا مؤسسة. تماما كالمسرح الذي، كي يبقى طليعيا، يجب أن لا يكون مؤسسة أو يكون مرتهنا، سواء كانت المؤسسة أدبية أم مسرحية أم لغوية. والمؤسسة نعني بها التأسيس الذي يتحول إلى بنية ثابتة، وحقيقة دامغة، ولغة راسخة. التأسيس الذي ينأسر في قوانين وأنماط... وعلاقات محسوبة وأحكام مبرمة، وإعجاب مؤطر.

هذه الأقلية غير المحددة، وغير الجامدة، ويمكن أن تكون من أناس متباعدي المناشئ والاهتمامات: يمكن أن تكون من الطلاب ومن المحترفين، ومن الكتاب، ومن المسرحيين، ومن الهواة... أي "من كل واد عصا" حسب التعبير المأثور.

والمهم في هذه الأقلية، أن قوتها من تعددها هذا. تعددها الثقافي والذوقي والاجتماعي. والأهم أن قوتها أيضا من تبعثرها. أقلية مجهولة لا تجتمع على شيء، ولا تجمع على شيء. أو فلنقل أقلية مقسومة ذاتية، كل واحد فيها يحتفظ بفرديته وبنرجسيته وبمسافته أيضا. أي أقلية لا تخضع لقراءة جماعية أو ردود فعل جماعية، ولا لقرارات جماعية.

فالمسرح الطليعي ومشتقاته، مسرح يقسم الناس، ولا يجمعهم. مسرح يشقهم في آراء وإرهافات وحالات متناقضة ومتباينة، وحتى متنافرة. لهذا فهذه الأقلية حرة، لأنها متحررة كذلك من البنى النقدية الجاهزة، والاتجاهات والمدارس النقدية الجاهزة: من بنيوية وألسنية وأيديولوجية واجتماعية وطائفية... لأنها في عمقها، ورغم ذاتيتها العملية، توصل إلى نتائج جماعية وإجماعية، وإن عبر الموافقة على منهج معين أو وظيفة معينة.

هذه الأقلية لا يمكن أن تكون "موجودة" بقوة ثباتها وبقوة تمسكها بنموذج مسرحي ما، وإنما بقوة تمسكها بالمسرح فقط

وهذا ما يجعل هذه الأقلية تتشكل باستمرار. تتشكل عبر نفيها ذاتها كإطار أو كتوجه تأسيسي. تتشكل عبر حركتها التناقضية مع ذاتها أولا، ومع الآخرين. أي إنها تتشكل في لا تشكلها. من هنا فإن هذه الأقلية لا يمكن أن تكون "موجودة" بقوة ثباتها وبقوة تمسكها بنموذج مسرحي ما، وإنما بقوة تمسكها بالمسرح فقط. المسرح كحدث منغلق على ذاته. فهي أقلية "زئبقية" غير سائدة، تنتمي إلى المستقبل باستمرار. أقلية تأتي من المستقبل، مستقبل الحدث المسرحي الخاص. أقصد الحدث المسرحي المتفرد. أقلية منفردة تتصل بالحدث المسرحي المتميز، أو باللازمني من المسرح، ذلك الذي لا يرتهن ارتهانا لصيقا بالظرف والموضوع، أو بالحادثة. فهي أقلية لا زمنية تتحرر باستمرار من الطغيان، ومن أي مسرح طاغ في زمنها، مركزة على أدوات الأعمال الجديدة، هاجسها الوصول إلى ما بعد المسرحية وما وراءها من نيات وأفكار ومواقف.

font change