من الصعب اليوم تخيل أن ثمرة صغيرة تنمو على سفوح الجبال الاستوائية يمكن أن تغير تاريخ الإنسانية بكل هذا العمق. فالقهوة ليست مجرد مشروب، بل ثقافة واقتصاد وفلسفة ونمط حياة. ملايين البشر يبدأون يومهم بها، وتجمعات سياسية واقتصادية كبرى نشأت في مقاهي القاهرة وإسطنبول وباريس ولندن، مشروبا يصنع الثورات الفكرية قبل أن يصنع اليقظة العصبية.
ومع ذلك، فإن الحكاية الأكثر غرابة داخل عالم القهوة لم تبدأ في مراكز المدن اللامعة، بل في البراري الرطبة والغابات المطيرة لجنوب شرق آسيا — حيث عاش حيوان صغير يدعى الزباد الآسيوي. هناك، دون وعي منه، كان الزباد يخلق منتجا لاحقا سيصبح رمزا للترف والنقاء الحسي: قهوة كوبي لواك.
كانت البداية أبعد ما تكون عن القصد. الزباد حيوان آكل للفواكه، ذو قدرة مذهلة على اختيار الثمرة الأكثر نضجا ورائحة. كانت مزارع القهوة في إندونيسيا والفيليبين وفيتنام تشاهد شيئا غريبا، الثمار الأكثر نضجا كانت تختفي. وعندما يتتبع العمال مصدر الاختفاء، كانوا يجدون بقايا الثمار — أو بالأحرى بذور القهوة — في براز الزباد. ومن هنا بدأت الأسطورة.
في البداية كان الأمر بدافع البقاء، إذ كانت القهوة سلعة استعمارية تحتكرها الشركات الهولندية، ولم يكن مسموحا للمزارعين الأصليين بتناول محصولهم. فبدأوا يجمعون البذور من فضلات الزباد، ينظفونها ويحمصونها. وعندما أعدوا القهوة منها للمرة الأولى، تفاجأوا بأن الطعم مختلف، نعومة غير مألوفة، وحدة أقل، وعطر أغنى.
المشروب الغريب
عند هذه المرحلة، كما يحدث في كل تاريخ المنتجات الفاخرة، تدخلت الرغبة الإنسانية العميقة في اقتناء النادر والاستثنائي. انتقلت الحكاية من أيدي المزارعين إلى تجار القهوة، ثم إلى كبار الأغنياء في زمن الطبقات الاستعمارية، قبل أن تصل إلى أوروبا حيث تحول هذا المشروب الغريب إلى رمز اجتماعي يدل على التميز والثراء. فجملة مثل ليس أي شخص يستطيع شرب قهوة، خرجت من بطن حيوان بري أصبحت جزءا من هوية المنتج، لا مجرد توصيف لطريقة إنتاجه.
ورغم طرافة القصة ظاهريا، فإن قيمتها الحقيقية تشكلت داخل المخيال الثقافي. لم تكن القيمة في الحبوب وحدها، بل في الرموز التي التصقت بها، فهذا مشروب تختاره الطبيعة وليس الإنسان، حبوب تخضع لهضم غامض في جسد حيوان بري، وقهوة تولد من قلب الغابة لا من المزرعة المنظمة. وهكذا تحولت "كوبي لواك" منذ بدايتها إلى منتج فلسفي قبل أن تكون سلعة تجارية، إذ لم يكن السؤال الذي أثار فضول الناس ما طعمها؟ بل السؤال الأكثر دهشة: كيف يمكن لشيء خرج من الفضلات أن يصبح أثمن من الذهب؟
بعد ذلك بقرون، سيبدأ العلماء في محاولة فهم الظاهرة علميا — لا من خلال التذوق أو الأسطورة، ولكن من خلال الكيمياء الحيوية. هل يتغير تركيب القهوة فعلا داخل الجهاز الهضمي للزباد؟ أم أن الأمر مجرد تأثير نفسي واجتماعي يعتمد على الندرة والسمعة وليس على المذاق؟

