الفرصة الأخيرة في السودان... قبل الانهيار

لا تزال الانتهاكات ضد الأبرياء متواصلة، فيما تتفاقم الكارثة الإنسانية يوما بعد يوم

رويترز
رويترز
طفل سوداني لاجئ من الفاشر في مخيم تينه، في شرق تشاد، 21 نوفمبر الثاني 2025

الفرصة الأخيرة في السودان... قبل الانهيار

ضمن سلسلة الاتفاقيات التي أعلن عنها الرئيس دونالد ترمب خلال الزيارة التاريخية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى البيت الأبيض، برز التزامه بالبدء في معالجة أزمة السودان كإحدى أكثر الخطوات المفاجئة.

ووفق ما ذكره ترمب، أكد الأمير محمد بن سلمان أن إحراز تقدم في الملف السوداني سيكون "أفضل ما يمكنه تحقيقه". ولاحقا، كتب ترمب على منصة "تروث سوشيال": "سنعمل مع المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومصر، وشركاء آخرين في الشرق الأوسط لإنهاء هذه الفظائع، وفي الوقت ذاته تحقيق الاستقرار في السودان".

تلك الاستراتيجية سليمة من حيث المبدأ، لكن إقناع الأطراف الخارجية بالتوقف عن تأجيج الصراع سيبقى تحديا بالغ الصعوبة، حتى بالنسبة لترمب.

غير أن على ترمب مواكبة الواقع القائم على الأرض، فالميليشيات المنشقة المعروفة باسم "قوات الدعم السريع" استولت بالقوة خلال أكتوبر/تشرين الأول على مدينة الفاشر. ولا تزال الانتهاكات ضد الأبرياء متواصلة، فيما تتفاقم الكارثة الإنسانية يوما بعد يوم.

كما تتقدم "قوات الدعم السريع" نحو مدينة الأبيض، التي تُعد عقدة محورية تربط بين خطوط الإمداد والاتصال الممتدة من غرب السودان إلى العاصمة الخرطوم. وإذا تمكنت هذه القوات من السيطرة على الأبيض، فإن ذلك سيؤدي إلى عزل شرق السودان عن غربه، ما يعني فعليا تقسيم البلاد الشاسعة إلى نطاقين شبه مستقلين، في تطور خطير يضع الدولة السودانية على طريق التفكك.

استمرار تدفق السلاح هو الوقود الذي يبقي آلة الحرب مشتعلة، والقوى الخارجية متورطة بعمق في هذه المأساة

في ظل هذا المشهد، يوشك الوقت على النفاد. ولكن لا يزال بإمكان المجتمع الدولي التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، يسرّع إيصال المساعدات الإنسانية إلى السكان الذين يعانون من الجوع، ويمهّد الطريق لحوار سياسي بشأن مستقبل البلاد، إذا غيّر الفاعلون الخارجيون الذين غذّوا الصراع نهجهم. فالمطلوب منهم تبنّي دور بنّاء بدل الاستمرار في التدخلات التخريبية. وهذا هو التحدي الرئيس الذي يواجه ترمب.

شبكة مصالح متشابكة

تستمر الحرب نتيجة تشابك المصالح الداخلية والإقليمية والدولية. فعلى الصعيد الداخلي، يقف السودان بين رؤيتين متعارضتين لمستقبله؛ إذ تسعى "قوات الدعم السريع" إلى تحويل مكاسبها العسكرية إلى شرعية سياسية ونفوذ دائم، بينما ترى القوات المسلحة السودانية أن أي تنازل للمتمردين يمثّل بداية لانهيار الدولة والجيش معا. ويعتقد كل طرف أنه قادر على حسم الحرب نهائيا لصالحه.

أ.ف.ب
صورة من مقطع فيديو نشرته قوات "الدعم السريع" في 23 أبريل 2023، يُظهر مقاتلا يلوح ببندقية الى جانب مركبة معطلة في منطقة شرق النيل بالخرطوم

أما على المستوى الإقليمي، فقد تحوّل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة بكل ما للكلمة من معنى. إذ تقدم دول دعما منظما وماديا لـ"قوات الدعم السريع"، وقد حصل المتمردون على أسلحة متطورة، من بينها طائرات مسيّرة صينية الصنع، تُنقل عبر شبكة تهريب معقّدة تمر عبر دول ثالثة. تمتلك بعض الدول مصالح اقتصادية واستراتيجية في استغلال مناجم الذهب بشرق السودان، وتعزيز الممرات التجارية عبر البحر الأحمر، إضافة إلى إضعاف التيارات الإسلامية داخل الجيش السوداني.

كما تحظى "قوات الدعم السريع" بدعم من تشاد وإثيوبيا، انطلاقا من علاقات تاريخية وقبلية متجذّرة مع إقليم دارفور. وقد ساهم الانتصار الحاسم الذي حققته هذه القوات في مدينة الفاشر في تعزيز مصداقيتها، وقد يشجع ذلك داعميها الإقليميين على تقديم المزيد من المساعدات العسكرية واللوجستية.

في المقابل، تدعم مصر الجيش السوداني المحاصر، إذ تخشى القاهرة من أن يؤدي استمرار الحرب إلى تصاعد نشاط الميليشيات المسلحة على حدودها الجنوبية الطويلة، وتدفّق المزيد من اللاجئين، وازدياد الضغط على مصالحها المائية الحيوية، فضلا عن تعقيد إدارة ملف سد النهضة. وفي الوقت ذاته، تعاونت تركيا مع مصر في تزويد الجيش السوداني بطائرات بيرقدار المسيّرة المتطورة.

وعلى المستوى الدولي، تتحول الحرب في السودان إلى ساحة تنافس مفتوحة بين قوى خارجية تتسابق للسيطرة على منطقة غنية بالموارد الطبيعية وتشغل موقعا جغرافيا استراتيجيا يربط بين القرن الأفريقي والشرق الأوسط.

ورغم فرض الأمم المتحدة حظرا صارما على الأسلحة الموجهة إلى دارفور منذ عام 2004، فإن تدفق السلاح لم يتوقف قط. ففي تحقيق أجرته منظمة العفو الدولية في مارس/آذار 2025، تَبيَّن أن "قوات الدعم السريع" تستخدم قنابل موجهة من طراز "جي بي 50 إيه" صينية الصنع، وهي أول حالة موثقة عالميا لاستخدام هذا النوع من الذخائر. وتصل الأسلحة إلى "قوات الدعم السريع" عبر شبكات إمداد منظمة، من خلال رحلات شحن منتظمة إلى شرق تشاد، إضافة إلى مسارات تهريب تمتد عبر ليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى.

أما روسيا، التي تُعد من أبرز مورّدي السلاح للجيش السوداني، فقد استخدمت حق النقض في مجلس الأمن الدولي لتعطيل قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

إن استمرار تدفق السلاح هو الوقود الذي يبقي آلة الحرب مشتعلة، والقوى الخارجية متورطة بعمق في هذه المأساة.

ينبغي توسيع "مجموعة الرباعية" من أجل تعزيز التوافق الدولي حول وقف إطلاق نار مستدام. ويعني ذلك إشراك الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد)

ووسط كل ذلك، يدفع الشعب السوداني ثمنا باهظا. فخلال السنوات الثلاث الماضية، أودت هذه الحرب المدمرة بحياة عشرات الآلاف، وتسببت في نزوح داخلي يناهز تسعة ملايين شخص، فضلا عن تهجير نحو ثلاثة ملايين لاجئ خارج البلاد. وأصبحت سيادة السودان مرتهنة لأطراف خارجية، فيما تتجه البلاد في وضعها الراهن نحو نقطة اللا عودة.

إلا أن العالم بدأ يولِي اهتماما متزايدا بالحرب الأهلية السودانية التي طالما جرى تجاهلها، وذلك في أعقاب المجازر التي ارتكبتها "قوات الدعم السريع" في مدينة الفاشر. وقد يُشكّل هذا التحوّل فرصة أخيرة للتوصل إلى هدنة. من المحتمل أن يكون الفاعلون الخارجيون الذين يؤجّجون الصراع مستعدين لكبح جماح وكلائهم، إذا واجهوا أخيرا قدرا من الضغط الدولي كانوا قد تجنّبوه إلى حد كبير حتى الآن. فعلى سبيل المثال، أشار أنور قرقاش، المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني إلى أن الدعم الخارجي للجنرالات السودانيين الذين أطاحوا بالحكومة المدنية "خطأ جسيم"، وهو الصراع الذي أدّى لاحقا إلى تمزيق البلاد.

كما تواجه الدول الداعمة لـ"قوات الدعم السريع" ضغوطا إعلامية متزايدة. ويمكن لتحوّل في الموقف الداعم لهذه "القوات" أن يشكّل نقطة ضغط حاسمة لدفع جهود الوساطة الدولية بين الأطراف الخارجية المنخرطة في الحرب.

أ.ف.ب
أطفال عند نافذة مسيّجة في فصل دراسي آمن تديره منظمة "وار تشايلد هولندا" في مركز رينك للعبور في رينك، جنوب السودان، في 17 نوفمبر 2025

بإمكان الرئيس ترمب أن يعلن عن اتفاق لوقف إطلاق النار من خلال اتخاذ الخطوات التالية:

أولا، ينبغي على "مجموعة الرباعية" التي تضم الولايات المتحدة، والإمارات، ومصر، والمملكة العربية السعودية، أن تؤكد مجددا التزامها بالبيان المشترك الصادر في سبتمبر/أيلول، والذي دعا إلى وقف لإطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر، وشدّد على أن "إنهاء الدعم الخارجي يُعد شرطا أساسيا لإنهاء النزاع".

إذ رغم هذا البيان، واصل اللاعبون الخارجيون تقديم الدعم للأطراف المتحاربة. وقد أقرّ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بهذه التناقضات، قائلا: "لن نسمح بأن تصبح العملية الرباعية التي أنشأناها درعا لحماية بعض الأطراف". وبدلا من تجاهل التزاماتهم، ينبغي على هذه الدول تحمّل المسؤولية، والإصرار على شركائهم السودانيين بأنهم سيتحملون العواقب في حال خُرقت الهدنة.

ثانيا، ينبغي توسيع "مجموعة الرباعية" من أجل تعزيز التوافق الدولي حول وقف إطلاق نار مستدام. ويعني ذلك إشراك الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد)، بما يمنح القارة الأفريقية دورا أكبر في العملية، خاصة إذا طُلب من المؤسستين لاحقا إرسال مراقبين لمتابعة الالتزام بالهدنة. كما يمكن إشراك تركيا وقطر، اللتين تملكان نفوذا على القوات المسلحة السودانية، ضمن صيغة موسّعة لـ"الرباعية".

عاد السودان أخيرا إلى واجهة الاهتمام العالمي، غير أن تحويل هذا الزخم الإعلامي إلى هدنة ملموسة يتطلب ضغطا دبلوماسيا متواصلا على الأطراف المتحاربة

وينبغي أن تُعقد جلسات الوساطة في مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، تأكيدا للاتفاق الذي أُبرم عام 2023 والداعي إلى وقف إنساني لإطلاق النار. وستشجع استضافة المملكة لهذه المحادثات السعوديين على توظيف نفوذهم الإقليمي لتسهيل الوصول إلى وقف إطلاق النار، كما يمكن الإفادة من سعي ترمب في هذا الملف. وسيكون إقناع الأطراف بالموافقة على هدنة صعبا، غير أن إنشاء آلية فعالة لمراقبة وقف إطلاق النار يمثّل تحديا مماثلا. في المرحلة الأولى، ينبغي تحميل الأطراف مسؤولية سحب الأسلحة الثقيلة من خطوط التماس، ووقف استخدام الطائرات المسيّرة. وعلى الولايات المتحدة أن تنسّق نظاما للتحقق والمراقبة باستخدام الوسائل الجوية والأقمار الصناعية، فيما يستعد الاتحاد الأفريقي لنشر مراقبين ميدانيين.

ويجب أن توضّح "الرباعية" الموسّعة أن أي خروقات ستُقابل بعقوبات تدريجية تفرض على الطرفين، بما في ذلك التشهير العلني، وتجميد الأصول المالية، ومنع السفر الدولي. كما اقترح عدد من القادة من الحزبين في الكونغرس إدراج "قوات الدعم السريع" ضمن قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية.

لقد فشلت المحادثات السابقة التي جرت في واشنطن في الحؤول دون كارثة الفاشر. وهذه المرة، ينبغي لإدارة ترمب أن تركز على تنظيم حملة ضغط مشتركة بين الداعمين الخارجيين للصراع بهدف كبح وكلائهم. وقد تكون لدى الولايات المتحدة أولويات ثنائية أكثر إلحاحا، غير أن التزام ترمب، واهتمامه المعروف بحل النزاعات، قد يفتحان الباب أمام توافق دولي على هدنة. وإذا كان يسعى إلى تحقيق تقدم حقيقي يتعين عليه شخصيا إقناع قادة الإمارات ومصر بدعم هدنة جادة ومستدامة.

لقد عاد السودان أخيرا إلى واجهة الاهتمام العالمي، غير أن تحويل هذا الزخم الإعلامي إلى هدنة ملموسة يتطلب ضغطا دبلوماسيا متواصلا على الأطراف المتحاربة. نادرا ما كانت المفاضلة بين الأمل والقبول باستمرار المجازر بهذا القدر من الوضوح.

font change