أزمة الدواء في مصر... أرباح للشركات ومعاناة للمواطن

57 مليون مواطن من الخاضعين لمظلة التأمين الصحي يشكون من نقص الأدوية في المستشفيات

علياء أبو خضور
علياء أبو خضور

أزمة الدواء في مصر... أرباح للشركات ومعاناة للمواطن

في ظل موجة غلاء غير مسبوقة وتقلبات اقتصادية متسارعة، تعيش سوق الدواء المصرية واحدة من أكثر مراحلها حساسية. فبين ارتفاع أسعار الأدوية، وتزايد أرباح الشركات، وعجز منظومة التأمين الصحي، يقف المريض المصري أمام معادلة صعبة: دواء مستورد مرتفع السعر ودواء محلي أقل فاعلية. ومع تضارب المصالح بين الشركات وهيئة الشراء الموحد، ومخاوف المرضى من آثار الأدوية المحلية، تتعمق الأزمة في واحد من أهم القطاعات الحيوية في البلاد.

تستمر أزمة نقص بعض الأدوية في السوق المصرية في ظل موجة الغلاء التي تضربها، ونقص بعضها في مستشفيات التأمين الصحي. ويواجه قطاع عريض من المرضى مشاكل بسبب الأعراض الجانبية للأدوية المصنعة محليا، على الرغم من استيراد المواد الخام من الخارج، لكنها ليست بفاعلية مثيلاتها المستوردة، وخصوصا أدوية السرطان والعلاجات المناعية والبيولوجية.

تشهد السوق المصرية توترا بين شركات الأدوية وهيئة الشراء الموحد، حيث تطالب الشركات بزيادة الأسعار أو الانسحاب بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، بينما ترفض الهيئة أي زيادات جديدة، علما أن شركات الأدوية حققت أرباحا كبيرة عقب رفع الأسعار بأكثر من 50 في المئة، وبعد رفع الحكومة أسعار مئات الأصناف ما بين 20 و45 في المئة، مما انعكس إيجابيا على أداء أسهمها في البورصة المصرية.

يمثل النقص في كميات الدواء عبئا هائلا على كثير من المرضى، وخصوصا الذين يعانون من الأمراض المزمنة والأورام السرطانية

وعلى الرغم من تراجع سعر الدولار خلال الأشهر الستة المنصرمة من 51 جنيها حتى استقراره عند 47.60 جنيها، بقي المواطن يكابد حقه في العلاج والحصول على دواء بتكلفة عادلة. وقد اضطر بعض المرضى إلى التخلي عن شراء بعض أدويتهم. وتحاول الدولة حماية حقوق المرضى في الحصول على الخدمات الطبية بتكلفة منخفضة، وخصوصا ما يتعلق ببعض الأنواع الحيوية التي تسعّرها الحكومة إجباريا، لكن تكاليف الإنتاج مستمرة في الارتفاع.

ما قصة النزاع على أسعار الأدوية وفعاليتها؟

علمت "المجلة" من عاملين في القطاع أن شركات متعددة الجنسيات تعمل داخل مصر وتستفيد من الطلب الكبير في السوق المحلية ومن التصدير إلى الدول المجاورة، كما استفادت من لجنة تسعير الدواء التي سمحت برفع الأسعار، ولا سيما في ظل الحاجة الملحة إلى تلك العلاجات البديلة للأدوية المستوردة المرتفعة التكلفة. لذلك تحاول الدولة موازنة الأمور بتحقيق مصلحة للمستثمرين في هذا القطاع الحيوي.

يمثل النقص في كميات الدواء عبئا هائلا على كثير من المرضى، وخصوصا الذين يعانون من الأمراض المزمنة والأورام السرطانية. وهم يتخوفون من ارتفاع تكاليف إنتاج الأدوية بسبب زيادة أسعار المحروقات التي أُقرت في أكتوبر/تشرين الأول 2025، إذ يعاني هؤلاء فعليا من اضطرارهم لشراء الأدوية المستوردة ذات الفاعلية العالية بأسعار باهظة. وفي حين بدأت شركات متعددة الجنسيات إنتاج بعض أنواع أدوية السرطان محليا، إلا أن آثارها الجانبية أشد، مقارنة بتلك المستوردة.

علياء أبو خضور

وتساءل مرضى التقت بهم "المجلة": لماذا لا يتم تقييم الآثار الجانبية لبعض الأصناف وفاعليتها، مقارنة بالمستوردة، خصوصا أن الشركات المتعددة الجنسيات التي تصنّعها في مصر تستورد المادة الفاعلة من الخارج؟ وهل تجري الدولة تقييما للأدوية التي تنتجها هذه الشركات لمتابعة الشكاوى الواردة حول بعض الأصناف؟ لا إجابات واضحة عن تلك التساؤلات.

الأسعار تحلّق... والتأمين الصحي يعجز

شهد قطاع الدواء في مصر العديد من التقلبات عام 2024 بسبب أزمة شح الدولار وأثرها في استيراد المواد الخام الفاعلة، وبسبب نقص كثير من الأصناف. لكن مع الانفراج الذي رافق زيادة الأسعار وفق قرار هيئة الشراء وموافقة الحكومة على تحريك أسعار الأدوية وضبط سوق الصرف وتوافر العملات الأجنبية، شهدت الأسواق تحسنا، وسارعت بعض الشركات إلى تحقيق نمو في أرباحها خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025، مستفيدة من قرارات رفع الأسعار منذ منتصف 2024. في المقابل، لا تزال بعض الأدوية المستوردة تواجه أزمة بسبب التسعير الإلزامي الذي لا يغطي التكلفة الحقيقية، مما تسبب في ظهور سوق سوداء بأسعار مرتفعة جدا.

سوق الدواء في مصر كبيرة لجهة حجم الاستثمارات التي تتخطى 6.33 مليارات دولار، في حين يضم القطاع نحو 180 مصنعا وألفي شركة تصنيع لدى الغير

رئيس شعبة الدواء في اتحاد الغرف التجارية في مصر، الدكتور علي عوف

يُقدَّر عدد المواطنين الخاضعين لمظلة التأمين الصحي، بنحو 57 مليون مصري، وهم يشكون من نقص الأدوية في المستشفيات التابعة للمنظومة، بسبب عجز وزارة المالية عن التمويل، مما يجبر بعضهم على شراء أدويتهم من السوق بأسعار مرتفعة على نفقتهم الخاصة، في وقت يضطر بعض المرضى إلى الاستغناء عن العلاج لعدم القدرة المالية.

في النتيجة، وبعد تحرير سعر الدولار، يحدد الوضع المادي للمواطن فرص العلاج، فالميسورون يعتمدون على الأدوية المستوردة أو العلاج في الخارج، بينما يعتمد أصحاب الدخل المتوسط على التأمين الصحي المحلي الذي كان قبل عام 2024 يعتمد على أدوية كيميائية مستوردة ذات فاعلية عالية وأعراض جانبية أقل.

تباين الآراء... وخطر الخصخصة الداهم

في حديث مع "المجلة"، أكد رئيس شعبة الدواء في اتحاد الغرف التجارية في مصر، الدكتور علي عوف، "أن سوق الدواء في مصر كبيرة لجهة حجم الاستثمارات التي تتخطى 300 مليار جنيه (6.33 مليارات دولار)، في حين يضم القطاع نحو 180 مصنعا وألفي شركة تصنيع لدى الغير". وقال: "تُعَد السوق المصرية من أكبر الأسواق في الشرق الأوسط وأفريقيا، إذ توفر المصانع المحلية نحو 92 في المئة من احتياجات السوق لجهة الكميات، و85 في المئة من حيث القيمة المالية، وهي من أعلى نسب التغطية عالميا".

رويترز
مصري يعمل في خط إنتاج حقن الأنسولين، في القاهرة 14 يونيو 2025

وأضاف "أن مصر تستورد نحو 15 في المئة من الأدوية المهمة التي لا تتوافر لها بدائل محلية أو تتطلب تقنيات تصنيع عالية مثل أدوية الأورام والهورمونات والأدوية البيولوجية والمناعية والأنسولين". وشدد على "أن نسبة النقص في الأدوية لا تتعدى واحدا في المئة، وهو رقم طبيعي عالميا، لكن هناك نقصا في بعض الأدوية المستوردة الخاصة بالأورام وضعف عضلات القلب والغدة، إذ تتاح بكميات محدودة لا تكفي السوق المحلية، وليست لها بدائل كافية". وأشار إلى "أن شركات أجنبية كبرى بدأت خلال السنوات الخمس الماضية تصنيع أدويتها المهمة في مصر لتقليل التكاليف وتصديرها إلى أفريقيا"، مؤكدا "أن جودة الأدوية المنتجة محليا لا تقل عن المستوردة، لكن بعض أدوية الأورام المستوردة غير متوفرة بسبب زيادة الطلب".

ما تكلفة استيراد المواد الأولية؟

ويرى البعض أن ارتفاع أسعار المحروقات من أسباب زيادة أسعار الدواء، لكن رئيس قطاع البحوث في شركة "الأهلي فاروس"، الخبير الاقتصادي هاني جنينة قال لـ"المجلة"، "إن أسعار المحروقات لا تمثل شيئا يذكر لشركات الأدوية، إذ إن 90 في المئة من التكلفة ترجع إلى استيراد المواد الأولية الفاعلة من الخارج، بينما لا تتجاوز حصة الوقود واحدا إلى اثنين في المئة من التكلفة الإجمالية"، مؤكدا "أن الوقود لا يؤثر في أسعار الغذاء أو الدواء".

قطاع الأدوية في مصر يمر بمرحلة إعادة تقييم جديدة بعد سنتين من الضغوط التمويلية وارتفاع التكلفة، مدفوعا بموجة من المتغيرات الإيجابية تشمل رفع الأسعار وخفض الفائدة وتحسّن السيولة الحكومية

تقرير وحدة البحوث في المصرف الاستثماري "إي. إف. جي. هيرميس"

وعن مطالبة شركات الأدوية بزيادة الأسعار، أوضح "أن ذلك يقتصر على بعض الشركات فقط، إذ إن معظمها عدّل أسعار 80 إلى 85 في المئة من أدويته الحساسة". وضرب مثلا شركة "ممفيس للأدوية والصناعات الكيماوية" المدرجة في البورصة المصرية، التي يمثل دواء واحد فقط من إنتاجها ("أسبرين بروتكت") نحو 25 في المئة من إيراداتها، وقد ارتفع سعره من 25 إلى 87 جنيها العام الماضي، و"ينطبق ذلك على معظم الشركات، حيث جرى تعديل أسعار الأدوية ذات الحساسية التي تشكل الجزء الأكبر من الإيرادات، ولم يتبقَّ سوى الأدوية الأقل ربحية".

إعادة تقييم قطاع الدواء

وألقى ارتفاع أسعار الدواء بظلاله على موازنة هيئة التأمين الصحي من جهتين: تزايد لجوء المواطنين إلى صيدليات التأمين مع غلاء الدواء التجاري، وارتفاع تكلفة شراء الأدوية على الهيئة بنسبة 20 إلى 40 في المئة، مما يعني إنفاق جزء أكبر من مواردها لتوفير الكميات نفسها، وتسبب ذلك في نقص توريد بعض الأدوية. وكشفت وحدة البحوث في المصرف الاستثماري "إي. إف. جي. هيرميس" في تقرير حديث، أن قطاع الأدوية في مصر يمر بمرحلة إعادة تقييم جديدة بعد سنتين من الضغوط التمويلية وارتفاع التكلفة، مدفوعا بموجة من المتغيرات الإيجابية تشمل رفع الأسعار وخفض الفائدة وتحسّن السيولة الحكومية. وأضاف التقرير أن سوق الدواء المصرية حققت نموا سنويا بنسبة 56 في المئة خلال النصف الأول من عام 2025، بدعم رئيس من زيادة الأسعار بنسبة 43 في المئة وارتفاع أحجام المبيعات بنحو تسعة في المئة، بعد عام 2024 الذي شهد تراجعا في الإنتاج بسبب أزمة العملة.

رويترز
الدواء المحلي يتصدر الصيدليات في مصر، القاهرة، 17 نوفمبر 2016

وفي إطار مساعي الحكومة لخفض فاتورة الواردات إلى أقصى حد، أضافت وحدة البحوث أن خطوات حاسمة اتخذت خلال السنة الجارية لمعالجة أزمة نقص الدواء عبر إعطاء الأولوية إلى تدبير العملة الصعبة لاستيراد الخامات، وإطلاق حزمة تمويلية بقيمة 7 مليارات جنيه  (نحو 147 مليون دولار) بفائدة مدعومة بين خمسة وسبعة في المئة لمصانع الأدوية، مما ساهم في خفض نسبة النقص من 40 في المئة إلى أقل من خمسة في المئة من الأدوية الإجمالية المتداولة في السوق. وتوقعت الوحدة استمرار تحسن الأداء المالي حتى عام 2027، مع توسع الشركات في التصدير وزيادة مساهمة المنتجات العالية الربحية، خصوصا بعد تراجع تكلفة التمويل وتحسُّن دورة رأس المال العامل.

في ظل هذا الواقع، يواجه المواطن المصري نقص الأدوية وارتفاع أسعارها، وسط غياب رقابة جدية. ومع التأخر في تطبيق التأمين الصحي الشامل وسيطرة القطاع الخاص ومستثمرين أجانب على بعض شركات الأدوية والمستشفيات، تبدو الفرص محدودة للحصول على علاج بأسعار عادلة، مما يجعل أزمة الدواء في مصر قضية وطنية ملحة تتطلب حلولا عاجلة.

font change