صناعة الدواء علامة مضيئة في الاقتصاد المصري

قاربت الاكتفاء الذاتي بنسبة 94% لكن عسكرة البحر الأحمر ونقص الدولار يعرقلان التوطين الكامل للإنتاج

Barbara Gibson
Barbara Gibson

صناعة الدواء علامة مضيئة في الاقتصاد المصري

تخطو مصر خطوات متسارعة لتكون في مقدمة سوق الدواء، ليس في الإنتاج فقط، وإنما كذلك في تصنيع المواد الخام وخفض أسعار الدواء وتكلفة الإنتاج مقارنة بالدواء المستورد. هدفها تحقيق الاكتفاء الذاتي الكامل وخفض فاتورة الاستيراد. وتُعَدّ مصر سوقاً واعدة باعتبارها أكبر منتج ومستهلك للأدوية في الشرق الأوسط وأفريقيا، وباتت وجهة لاستثمارات القطاع. وقد أُنشئت مدينة الدواء، "جيبتو فارم"، عام 2021 لتكون موطناً للشركات العالمية لتصنيع الأدوية المماثلة للمستوردة والقابلة للتصدير، ومن ثم تعويض النقص في بعض الأصناف وتوفيرها بأسعار مناسبة تلبي الاحتياجات المحلية.

تطمح مدينة الدواء إلى أن تكون مركزاً إقليمياً للتصنيع، خصوصاً أنها أكبر مدينة لتصنيع الأدوية في الشرق الأوسط، وذلك من خلال تعاونها مع الشركات الدولية، وفتح آفاق التصدير إلى دول أفريقيا، والشرق الأوسط، والدول العربية، وأوروبا في وقت لاحق.

خفض فاتورة الاستيراد

حدّت هذه الجهود من عبء الاستيراد، وخفضت فاتورة الاستيراد الخاصة بقطاع الدواء المصري العام المنصرم حتى نهاية نوفمبر/تشرين الثاني بنحو 500 مليون دولار، مقارنة بفاتورة عام 2022، وبنحو 700 مليون دولار مقارنة بعام 2021. وكشفت هيئة الدواء المصرية عن إنجازات كبيرة في مجالات عملها كلها، إذ تخطت صادرات الأدوية المليار دولار عام 2023 حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول للمرة الأولى في تاريخها، وباتت البلاد على أعتاب نهضة صناعية للأدوية، فأصبح عدد المصانع المنتجة للدواء نحو 191 مصنعا مرخصا له وأخرى قيد الإنشاء. وتسعى الحكومة إلى تعزيز صادرات الدواء والمستلزمات الطبية للوصول إلى خمسة مليارات دولار في عام 2030. وتسعى الدولة ليكون المستهدف إنتاج دواء مصري خالص يستند إلى بحوث علماء مصريين، وهذه مسألة ترسم تفاصيلها الخريطة الثالثة لصناعة الدواء التي بدأت الدولة العمل بها مطلع عام 2021.

تخطت صادرات الأدوية المصرية مليار دولار عام 2023 حتى نهاية أكتوبر للمرة الأولى في تاريخها

مصر تدفع ثمن الحروب والأزمات 

لكن في ضوء تذبذب سوق العملات الأجنبية في مصر، انعكست الظروف الاقتصادية على أداء شركات الأدوية بشكل عام، بعضها حقق أرباحاً مضاعفة، وبعضها الآخر تأثرت أوضاعه المالية سلباً، ناهيك بتصاعد الأحداث الجيوسياسية في الشرق الأوسط منذ اندلاع حرب غزة بين إسرائيل و"حماس" التي تكاد تنهي شهرها الرابع، والإشارات المتواترة عن خطورة الوضع في سيناء، وعسكرة البحر الأحمر واتساع التحديات في المنطقة، بعد الضربات الأميركية والبريطانية، رداً على هجمات الحوثيين على السفن في باب المندب. وقد فاقمت هذه التحديات تأثيراتها السلبية في حجم التجارة العالمية، وبالفعل انخفض حجم الدخل الأجنبي الذي تحصل عليه مصر من رسوم عبور السفن في قناة السويس 40 في المئة، علماً بأن مصر تستورد المواد الخام والأدوية عبر قناة السويس.

Getty Images
سفينة تعبر قناة السويس بالقرب من الإسماعيلية في مصر، 28 ديسمبر 2023

بذلك تدفع مصر ثمن النزاع الإقليمي وفق تصريحات رئيس هيئة قناة السويس اللواء أسامة ربيع، الذي أكد تأثر حركة التجارة الدولية عموماً وحركة الملاحة والتجارة العابرة لقناة السويس، فالهجمات التي تحدث ضد بعض السفن أجبرت العديد منها على تغيير مسارها من باب المندب فقناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح، مما يوثر في سلاسل الإمداد وتجارة البضائع. وثمة زيادة في الأسعار كلها يتحملها المواطن أخيراً من دواء وغذاء وسلع وبضائع.

يأتي ذلك في ظل معاناة مصر من أزمة اقتصادية خانقة منذ الحرب الروسية الأوكرانية، عقب خروج رأس المال الأجنبي من مصر، مما أدى إلى زيادة الضغوط التضخمية، وأثر سلباً في اقتراض شركات الأدوية، مع استمرار شح العملات الأجنبية في مقابل الزيادة المستمرة في مدفوعات خدمة الديون الخارجية على مدى العامين المقبلين، ووسط محدودية الخيارات السياسية لإعادة التوازن إلى الاقتصاد من دون تفاقم الأخطار الاجتماعية.

للمزيد إقرأ: ليس لدى مصر ما تحتفل به في ذكرى "ثورة يناير"

يواجه المستثمرون في سوق الدواء صعوبات في تأمين الدولار لاستيراد المعدات والمواد الخام، وزادت الاعتداءات الحوثية على السفن في البحر الأحمر الضغوط والأعباء على القطاع

صناعة مربحة

وعلى الرغم مما تبذله البلاد من جهود لتوطين صناعة الدواء، تواجه سوق الدواء في الآونة الأخيرة مشاكل يعاني منها المستثمر كونه يحتاج إلى تأمين الدولار لتمكين الشركات من استيراد المعدات والمواد الخام. ومن أبرز التحديات التي يواجهها المواطنون والصيادلة في مصر نقص بعض أصناف الأدوية المعروفة في السوق المصرية، في حين يرى بعض الصيادلة أن هناك وفرة في المعروض من المواد الأولية، لكن اعتماد المستهلكين على الإسم التجاري لبعض الأدوية المستوردة، التي تشهد انخفاضاً في حجم المعروض، أشعرهم بنقص الدواء عند طرح بدائل محلية عليهم.

تشكل الصناعات الدوائية جزءا كبيرا من الاقتصاد القومي، وتُعَدّ من وسائل التنمية، فهي من الصناعات المربحة وتُعَدّ مصدرا لجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية وأحد أهم مكونات الصادرات المصرية التي تحتاج إليها السوق العربية. كذلك تُعَدّ من الصناعات الاستراتيجية الكبرى التي لا تستغني عنها أي دولة.

للمزيد إقرأ: مستقبل واعد لمصر في صناعة الهيدروجين الأخضر

نحو الاكتفاء الذاتي

تمضي مصر قدماً في خطواتها للارتقاء بالصناعة المحلية في مجال الأدوية الحاصلة على براءات اختراع، وتسريع عملية الرقمنة في صناعة الأدوية كجزء من الهدف الأوسع المتمثل في تحقيق التأمين الصحي الشامل الذي بدأت بتطبيقه في عدد من المحافظات المصرية. يذكر أن هيئة الدواء المصرية أعلنت حصول البلاد على سبعة اعتمادات دولية كبرى لتوطين العديد من بدائل المستحضرات الحديثة والمبتكرة وذات الأهمية القصوى، مما انعكس إيجاباً على امتلاكها القدرة على توفير عدد من المجموعات العلاجية المهمة.

ومن أبرز هذه البدائل تسعة مثبطات للمناعة، وبلغت معدلات الاكتفاء الذاتي الخاصة بتلك المجموعة العلاجية نحو 79 في المئة وبدأ تداولها في السوق الدوائية المصرية نهاية عام 2022، وخمسة البدائل محلية مختلفة من المضادات الحيوية الحديثة، تقدر هيئة الدواء المصرية معدلات الاكتفاء الذاتي الخاصة بتلك المجموعة العلاجية بنحو 71 في المئة وبدأ تداولها محليا نهاية عام 2021. وثمة توسع في إنتاج المستحضرات الهرمونية، والقطرات الأحادية الجرعة إذ بلغت معدلات الاكتفاء الذاتي من تلك المجموعة العلاجية نحو 86 و78 في المئة على التوالي، وفق رئيس هيئة الدواء المصرية الدكتور تامر عصام.

ارتفع عدد مصانع الأدوية المرخص لها في مصر من 130 مصنعاً تمتلك 500 خط إنتاج عام 2014، إلى 191 مصنعاً تمتلك 799 خط إنتاج حاليا، بنسبة نمو 37 % في العدد و60 % في الخطوط

نضج صناعة الدواء 

وحصلت هيئة الدواء المصرية خلال 2022/2023 على ما يقرب من سبعة اعتمادات دولية كبرى، أبرزها اعتماد منظمة الصحة العالمية، وذلك من خلال حصول هيئة الدواء المصرية على مستوى النضج الثالث (3rd maturity level) في نظام تقييم الجهات الدوائية الرقابية لمنظمة الصحة العالمية في مارس/آذار 2022. ونالت البلاد عضوية المجلس الدولي لتنسيق وتوحيد المتطلبات الفنية للتسجيل، وباتت أول دولة أفريقية، ممثلة بهيئة الدواء المصرية، تنال عضوية المجلس وذلك في يونيو/حزيران 2023. وحظيت هيئة الدواء المصرية أيضا بعضوية المنتدى الدولي لمنظمي المستلزمات الطبية وذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وحصلت 10 شركات مصرية على اعتمادات دولية، ولديها 12 مصنعا.

 Xinhua

والتقت "المجلة" برئيس شعبة الأدوية في الاتحاد العام للغرف التجارية المصرية الدكتور علي عوف الذي قال: "إن ما أُنجِز بتوطين صناعة الدواء هو تكليف رئاسي بغرض تقليل فاتورة الاستيراد"، ولفت الى تصنيع "مستحضرات جديدة للمرة الأولى مثل أدوية الأورام وأدوية السكر والهرمونات والأدوية البيولوجية، وتنوي الدولة خلال السنة الجارية إعلان أدوية جديدة لم يكن هناك تصنيع لها، وكانت تُستورَد كاملة من الخارج".  

وأشار عوف الى أن عدد شركات الأدوية المصنعة في مصر تضم 180 مصنع دواء مرخصا له وألفي مصنع لدى الغير، ويبلغ حجم مبيعات سوق الدواء في مصر 120 مليار جنيه (3,88 مليارات دولار) عام 2023، بزيادة نحو 15 في المئة مقارنة بعام 2022. وفي حين يُصنَّع 94 في المئة من الأدوية محلياً، يُستورَد نحو 90 في المئة من مدخلات الصناعة، علماً بأن معظم دول العالم بما فيها أوروبا وأميركا تصنع المواد الخام في الهند والصين. ووفق عوف، تستورد مصر مواد خام بنحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً، كما تستورد نحو 95 في المئة من أدوية الأورام، لكن هناك خطة طموحة لتوطين هذه الصناعة، وكانت الدولة أعلنت العام الماضي إنشاء خط إنتاج في مصنع "سبدكو" مما سيوفر كثيراً من الفاتورة الاستيرادية. وصدرت البلاد حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2023، بنحو مليار دولار أدوية بشرية وبيطرية ومكملات غذائية ومستلزمات طبية وتجميلية، ومن المتوقع زيادة التصدير خلال عام 2024 نحو 10 في المئة.

ركن من أركان الأمن القومي

وأكد عوف أن مصر تستهدف خفض فاتورة الاستيراد بنسبة تتراوح من 10 إلى 15 في المئة من طريق توطين أدوية كبدائل للأدوية الأجنبية، كما حدث في دواء الغدة الدرقية الذي يكلف استيراده نحو 40 مليون دولار في السنة، في حين أن البديل المصري يكلف نحو 200 ألف دولار لشراء مواده الخام التي تكفي الحاجة المحلية لمدة سنة. "أما بالنسبة إلى تدبير العملة فصناعة الدواء تعتبر بمثابة ركن من أركان الأمن القومي وبالتالي يُوفَّر الدولار لها طبق أولويات تضعها هيئة الدواء وهيئة الشراء الموحد وغرفة صناعة الدواء. ولا بد من العمل على وعي اجتماعي بأن هناك أكثر من 10 شركات تصنع الدواء نفسه، فإذا لم يجد المرء الدواء بالاسم التجاري يستطيع الصيدلي أن يحدد له البديل بالكفاءة نفسها وبسعر أقل"، مشددا على ضرورة تغيير ثقافة المريض ومن ثم عادات الأطباء في هذا المضمار كما هو متبع في دول أوروبا وأميركا.

وكانت هيئة الدواء المصرية، أعلنت ارتفاع عدد مصانع الأدوية المرخص لها في مصر من 130 مصنعاً بإجمالي 500 خط إنتاج عام 2014 إلى 191 مصنعاً تمتلك 799 خط إنتاج حاليا، بنسبة نمو 37 في المئة في عدد المصانع، و60 في المئة في خطوط الإنتاج. يذكر أن وزارة الصحة تصرف ما قيمته 40 مليار جنيه (نحو 1,3 مليار دولار) سنوياً، أدوية مجانية للمرضى سواء من خلال وحدات صحية، أو علاج على نفقة الدولة، أو قوائم انتظار، بخلاف استهلاك قطاع الجامعات، وقطاع المجتمع المدني، والقطاع الخاص، وذلك وفقا لوزارة الصحة.

تغطي صناعة الدواء في مصر نحو 94 %من حاجة السوق المحلية، و6 % من الأدوية مستوردة ومرتفعة الثمن، وتسعى الحكومة لتوطين الخامات الدوائية والأدوية الحديثة

رئيس غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، ورئيس شركة المستقبل للصناعات الدوائية الدكتور جمال الليثي

استثمارات وازنة

أمام الأزمة التي تشهدها البلاد وتوطين الأدوية في مصر، نبه رئيس غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات، ورئيس "شركة المستقبل للصناعات الدوائية" الدكتور جمال الليثي الى أن مصر توطن صناعة الدواء منذ عام 1937. وقال لـ"المجلة": "تغطي صناعة الدواء في مصر نحو 94 في المئة من حاجة السوق المحلية، أما الستة في المئة من الأدوية فمستوردة وغالية الثمن، وتسعى الحكومة المصرية إلى توطين الخامات الدوائية والأدوية الحديثة".

AFP
أصناف الأدوية المصرية طاغية في الصيدليات

وأضاف الليثي أن "مصر تعاني أزمة قلة الدولار ما كان له التأثير في استيراد الخامات في المصانع وبالتالي كان له التأثير الأكبر في الإنتاجية وتوافر الأدوية في السوق المصرية، وأدى الى نقص بعض الأدوية بما يصل إلى 20-25 في المئة حالياً"، وأشار الى أن تلك النواقص من الأدوية ليست مؤثرة لأن لها بدائل محلية، وأكد أن حجم التصدير من الأدوية يصل الى 1,5 مليار دولار خلال عام 2023، وقدر حجم استثمارات سوق الدواء في مصر بنحو 500 مليار جنيه (نحو 16,2 مليار دولار). 

وأكد الليثي أن لدى مصر مصنعا لإنتاج المواد الخام منذ عام 1965 وهو "مصنع النصر" وينتج بعض الخامات، إضافة الى خمسة مشاريع تعمل على إنتاج المواد الخام في الفترة المقبلة، منها واحد بدأ الإنتاج بالفعل، وذلك لتغطية ما بين 5 الى 7 في المئة من السوق المحلية. وقال: "تحتاج مصر إلى أكثر من 40 مصنعاً لإنتاج الخامات".

font change

مقالات ذات صلة