ديون مصر تسددها السياسة الدولية في 2024

ستة مليارات دولار قرض سخي جديد من صندوق النقد بدل ثلاثة مليارات كانت مطلوبة

REUTERS
REUTERS
جرس بورصة القاهرة

ديون مصر تسددها السياسة الدولية في 2024

شهد العالم عام 2023 كثيراً من الضغوط السياسية جراء الحروب والضغوط الاقتصادية بسبب ارتفاع معدلات التضخم. وأطبقت آثار ذلك كله مباشرة على الاقتصاد المصري. وتخللت العام المنصرم تجاذبات ومشاحنات وخلافات بين شركاء البلاد الدوليين في حين سارعت وكالات التصنيف العالمية إلى خفض التقييمات الائتمانية لاقتصادها ولعدد من مصارفها الحكومية. وطرأت تحولات تبدلت معها أولويات صندوق النقد الدولي على صعيد التفاهمات مع الحكومة المصرية.

لكن ثمة اتجاهاً سياسياً عالمياً يقدّر أهمية دعم مصر في المرحلة المقبلة، لأنها تمتلك كثيراً من مفاتيح الحل في المنطقة العربية والشرق الأوسط، وتتمتع بوزن نوعي كبير في نزاعات المنطقة، ولا سيما القضية الفلسطينية، التي تمثل مصر فيها حجر الزاوية، نظراً إلى اتصالها المباشر بالصراع العربي الإسرائيلي. وتؤدي الجغرافيا السياسية هنا دوراً قوياً، وتفرض دوراً لمصر على الرغم من عدم رغبة بعض الأطراف في ذلك، ومحاولتهم تهميش دور مصر. يعود التعاون مع مصر في ضوء تفاقم الأوضاع في قطاع غزة ودور القاهرة حالياً في العمل على لجم التصعيد، وتوفير مبادرات وتحركات مصرية تصب في خانة معالجة الأزمة من طريق الحوار من دون أن يكون هناك بالفعل دخول في حرب إقليمية ترغب مصر في ألا تقع.

ويعول المجتمع الدولي وصندوق النقد والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كثيراً على الدور المصري لطرح مبادرات وأفكار ورؤى لوقف التوتر والنزاع في قطاع غزة. من هنا ترى مؤسسات التمويل والأطراف الدوليون ضرورة الضغط على الصندوق لكي يساهم في إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية في المرحلة المقبلة، ولذلك قرر الصندوق تقديم قرض جديد يعادل ستة مليارات دولار، بعدما كانت الحكومة المصرية تطالب بثلاثة مليارات فقط، ويُعتبَر هذا التطور تأكيداً لرغبة المجتمع الدولي وصندوق النقد في إتاحة الفرصة أمام مصر بعد أحداث غزة لضبط الأوضاع في الإقليم.

 ترى مؤسسات التمويل والأطراف الدوليون ضرورة الضغط على صندوق النقد الدولي لكي يساهم في إخراج مصر من أزمتها الاقتصادية

ويرى خبراء أن هذا القرض وغيره لن يساهم في معالجة أزمات مصر الاقتصادية كلها، لأن حجم الديون الخارجية كبير ووصل الى 165 مليار دولار في يونيو/حزيران 2023، فالأمر يحتاج الى أموال كثيرة، لكن الجانب المصري يرى أن هذا القرض سيجري استغلاله في إقامة مجموعة من المشاريع الجيدة وتخصيص جزء من العوائد للديون أو فوائدها. منذ اشتعال الحرب في غزة، خَفَت الاهتمام بعلاقة مصر بصندوق النقد، بسبب الإشارات المتواترة إلى خطورة الوضع في سيناء، في ظل معاناة مصر أزمة اقتصادية خانقة، واستمرار شح العملة الأجنبية في مقابل الزيادة المستمرة في مدفوعات خدمة الديون الخارجية على مدى العامين المقبلين، وسط محدودية الخيارات السياسية لإعادة التوازن إلى الاقتصاد من دون تفاقم الأخطار الاجتماعية، وكذلك الاستمرار في ارتفاع الديون.

REUTERS
البنك المركزي المصري في العاصمة الإدراية الجديدة شرق القاهرة، 8 ديسمبر 2023.

وتلاشى الاهتمام الشعبي بعلاقة مصر بصندوق النقد في ظل انشغال الرأي العام بالتوتر القائم على الحدود. لكن سرعان ما برزت مواقف جديدة من صندوق النقد والشركاء الدوليين. ويرى محللون أن الاتجاه السياسي المستجد لدعم مصر في المرحلة المقبلة للخروج من أزمتها الاقتصادية الراهنة، يأتي على خلفية زيادة التهديدات الحدودية على حدودها ليس فقط مع غزة بل كذلك مع ليبيا والسودان، وزيادة الضغوط الاقتصادية عليها، ولا سيما مع استقبال ما يزيد على تسعة ملايين لاجئ ومعاملتهم معاملة المواطنين المصريين. وأعلنت المفوضية الأوروبية اتجاهاً إلى ضخ استثمارات بقيمة 10 مليارات دولار للمساعدة في الاستقرار الاقتصادي والحد من الهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط.

الضغوط المتراكمة من العام المنصرم

شهدت مصر خلال عام 2023 العديد من الضغوط لمرورها بأزمة اقتصادية طاحنة جراء ارتفاع حجم الديون الخارجية، وشح الدولار وارتفاع سعره في السوق الموازية بصوة غير مسبوقة، نتيجة الأزمات الجيوسياسية العالمية وما نجم عنها من غلاء وارتفاع معدلات التضخم وتراجع التصنيفات الائتمانية في ظل إحجام صندوق النقد عن منح مصر الشريحتين الثانية والثالثة، اللتين أُرجئتا لثلاث مرات لأن الحكومة لم تحقق ما جرى الاتفاق عليه من اشتراطات، وتتضمن زيادة الحصيلة الدولارية للمساعدة في عملية تحريك العملة، لتظهر قدراً من المرونة ترضي الصندوق، الذي يترقب مدى المضي قدماً في التخارج الحكومي من النشاط الاقتصادي، وذلك كله مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحصيلة الدولارية، إلى جانب اتخاذ الحكومة إجراءات تقشفية في سياساتها المالية كلجم الواردات غير الضرورية، وتأجيل المشاريع التي يمكن إرجاؤها.

أمام سطوة آلة الحرب على غزة ظلت مصر تكافح وتجاهد من أجل ايجاد حلول لتسديد ديونها. لكن سرعان ما تغيرت المواقف التي وقسوة التصريحات من المقرضين الدوليين

تلك الإجراءات كلها كان يجب أن تجري في وقت واحد لتقليل الضغوط التضخمية، إضافة إلى ضرورة الاعتماد على زيادة الإنتاج المحلي، ففي ظل الظروف الاستثنائية يجب على الدولة اتخاذ تدابير وإجراءات مالية ونقدية وتقشفية، لكن الحكومة أبطأت في قراراتها، وأمام سطوة آلة الحرب على غزة ظلت مصر تكافح وتجاهد من أجل البحث عن حلول لتسديد ديونها. لكن سرعان ما تغيرت وتبدلت المواقف التي كانت تغلب عليها القسوة في التصريحات من المقرضين الدوليين وفي مقدمهم مسؤولو صندوق النقد والاتحاد الأوروبي وباتت أكثر لطفاً، تحت وطأة تصاعد الأحداث الجيوسياسية في الشرق الأوسط واحتدام الحرب في غزة. ولأسباب معلومة لكن غير معلنة، هناك وعود بزيادة قيمة القرض من ثلاثة مليارات دولار إلى ستة مليارات دولار أو أكثر.

REUTERS
بائع مصري يحمل الخبز أمام مسجد ومقهى، في أحد الأزقة الضيقة بحي الجمالية في القاهرة القديمة، 4 ديسمبر2023.

تلاشي احتمالات التخلف عن تسديد الديون

بذلك تتراجع احتمالات دخول مصر في موجة من التخلف عن تسديد الالتزامات الدولية المستحقة عليها خلال الفترة المقبلة، جراء المفاوضات مع صندوق النقد، اذ يتوقع أن تخفف الأعباء عن مصر وسط جدول الديون المزدحم عام 2024، وربما تمديد جدول التسديد مع الصندوق لتخفيف الأعباء وخفض الضغط على العملة الأجنبية، الأمر الذي يتوقع أن يدفع مؤسسات التصنيف الدولية إلى الاتجاه لتعديل تقييماتها من النظرة السلبية إلى المستقرة أو ربما الإيجابية مع مطلع عام 2024. بذلك يكون التمويل الإضافي حاسماً لضمان تنفيذ حزمة السياسات بعدما شهد عام 2023 هزات عنيفة للاقتصاد وتغيرات قاسية في حياة ملايين المصريين جراء التقلبات الرهيبة في الأسعار كلها بصورة لم تشهدها البلاد من قبل، وتجرعت نسبة كبيرة من المصريين مرارة الضغوط التي ألمت بهم.

زيادة حجم برنامج القرض المقدم إلى مصر أخيراً، نظراً إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة

المديرة التنفيذية لصندوق النقد كريستالينا جورجيفا

يذكر أن المديرة التنفيذية لصندوق النقد كريستالينا جورجيفا أشارت إلى زيادة حجم برنامج القرض المقدم إلى مصر أخيراً، نظراً إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة، وأن خفضاً آخر لقيمة العملة قد لا يكون مطروحاً في المستقبل القريب، وقالت إن الصندوق يعطي حالياً الأولوية للسيطرة على معدلات التضخم وليس إصلاح سعر الصرف.

هل تملك مصر مفاتيح الحل في المنطقة

في هذا السياق قال الخبير الاقتصادي ومحلل أسواق المال الدكتور طاهر مرسي لـ"المجلة": "في خضم المحاولات الدولية لحل النزاع الحالي، يحاول بعض الأطراف الفاعلين في المؤسسات الدولية، ولا سيما أصحاب الصلات المباشرة بمانحي القروض، تمكين مصر من أداء دور أكبر في إنهاء النزاع وتقليل حجم الخسائر، ولا سيما في الطرف الإسرائيلي، في مقابل إلغاء، أو جدولة للديون، أو تيسير في التسديد، ما يعدّ فرصة للدولة المصرية للتخلص من عبء الديون الخارجية الذي يعتبر أكبر مشكلة تعاني منها مصر حالياً، والذي تنعكس آثاره كما نرى في شح السيولة الدولارية، وما يترتب عليها من أزمات في توفير مستلزمات الإنتاج وغيرها من متطلبات الاقتصاد".

واعتبر مرسي أن الاقتصاد المصري سيواجه أزمة دين طاحنة عام 2024 مع ارتفاع الدين وتكلفته، لكنه عاد وأشار الى حقيقة أن الاقتصاد المصري يمتلك كثيراً من مقومات النجاح التي يمكنها تغيير المشهد تماماً إذا ما أحسنت إدارتها. وأعرب عن عدم تفاؤله بعام 2024 وأكد إنه سيكون عاماً عصيباً آخر، ليس فقط على مصر، بل على العالم كله، مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، حول مستقبل النظام العالمي الحالي، ولا سيما المالي والنقدي، الذين ينسب إليهما التسبب في أكبر أزمة ديون وفقر في العالم، نتيجة التضخم المستمر لعملة العالم، الدولار، وتسببها في ارتفاع أسعار الغذاء، والسلع الاستراتيجية، ومستلزمات الإنتاج، وهو ما أضر بالدول النامية والاقتصادات الناشئة في شكل كبير.

font change

مقالات ذات صلة