يعلن رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم السيد جياني إنفانتينو في مركز كينيدي للفنون، ومن منصة قرعة كأس العالم أن الرئيس دونالد ترمب رجل سلام وقائد فذّ، وقد تم منحه ميدالية "الفيفا" للسلام لأنه أسهم في وقف الكثير من الحروب، مذكرا العالم بأنه حضر في شرم الشيخ وفي شرق آسيا وغيرهما بعضا من فتوحات سيد البيت الأبيض في تفكيك الأزمات، وإطفاء نيران حروب كانت مشتعلة، أو تلك التي أوشكت على الاشتعال كما في مواجهة الهند وباكستان القصيرة.
عدد المعلم السويسري جياني ذو الأصول الإيطالية، مبررات "الفيفا" في منحه ميدالية السلام، وفيما ظهر ترمب يراقب جياني بصمت وإنصات بالغ، إلا أنه ظل متذكرا فوات جائزة نوبل عليه. لذلك حين منح فرصة الكلام والتعليق، جدد للملأ أسباب استحقاقه، واعتزازه بمجتمع "الفيفا" وكرة القدم، وفي البال ثروات أميركا التي سوف تزداد بعد تنظيمها الكأس بالشراكة مع كندا والمكسيك.
قال جياني: "إننا نبكي لكل طفل يقتل وأم تتألم...". في المقابل يعلم الرئيس المتوج أن إسرائيل ما زالت تمارس قصفها وخروقاتها وفظائعها في غزة وتتجاوز السيادة السورية مرارا، وتهدد لبنان بموجات من الغارات وقوائم القتل، وقبيل ذلك بوقت قريب، لم يتردد ترمب بالقول إن هناك تفكيرا جديا بالانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق السلام الخاص بحرب غزة، بعدما انتهت المرحلة الأولى من الاتفاق القاضية بتسليم الأسرى والجثامين. وهذا معناه أن "حماس" التي باتت تشكو من الخروقات الإسرائيلية، التزمت بما جاء في الاتفاق بمرحلته الأولى، لكن الشيء الذي أقلق الجميع حديث ترمب عن تعديل المرحلة الثانية من الاتفاق، وفي الوقت ذاته أعلن الطرف القطري الموقع كأحد الضامنين للاتفاق المبرم في التاسع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن المفاوضات بين "حماس" وإسرائيل في المرحلة الثانية تمر بمرحلة حرجة.
إننا أمام لحظة تغيير وتعديل مؤقته، لكنها غير معلومة النتائج بالنسبة لأهل قطاع غزة، مع أنها محسومة في الذهن الأميركي
الحرج في الانتقال من مرحلة لمرحلة في غزة، لا يوازيه أي قلق أو حرج عند الطرف الآخر، ولا عند الرئاسة الأميركية التي ستلتقي رئيس الوزراء الإسرائيلي قريبا، وستناقش معه المرحلة الثانية وتعديلاتها، بمعنى أن كل ما يجري على الأرض من خروقات وتعديات، مبارك أميركياً، فلا حاجة لنتنياهو ليقلق، أما القلق "الحمساوي" فهو مشروع، بعدما تم التوقيع على غزة موزعة بأشرطة وألوان، وبنهاية صعبة للحرب التي كان ينظر لها على أنها انتصار للمقاومة، والتي في نهايتها الموجعة، بدأت حرب أخرى، هي حرب الحساب والتصفيات الداخلية في غزة.
صحيح أن "حماس" لم تفرط في شبر من أراضي غزة، لأنها تعرضت لإعادة احتلال، واليوم ثمة حالة حرج كبير عن أسئلة الوضع لما بعد المراحل المحددة بالاتفاق، وعن المصير الذي سينتهي إليه وضع القطاع. فإسرائيل صحيح أنها واجهت حملات طرد عالمي من كل المحافل، لكنها أخذت الأرض، واغتالت القيادات وأحلام الصغار معهم، في حرب جنونية من طرفها.
شكل غزة المستقبلي بات محيرا، فمبوجب اتفاق "شرم الشيخ" إذا رفضت إسرائيل الانسحاب من القطاع، سنكون أمام تطبيق البند 17 في اتفاق السلام، وهذا البند ينص على أنه "في حال أخرت (حماس) أو رفضت هذا المقترح، فإن العناصر المذكورة أعلاه، بما في ذلك عملية المساعدات الموسعة، ستنفذ في المناطق الخالية من الإرهاب التي يسلمها الجيش الإسرائيلي إلى قوة الاستقرار الدولية..". أي إننا أمام لحظة تغيير وتعديل مؤقته، لكنها غير معلومة النتائج بالنسبة لأهل القطاع، مع أنها محسومة في الذهن الأميركي، من حيث الجهة الحاكمة للقطاع والصلاحيات والحدود.
إنها اللحظة الأميركية بامتياز، حتى في كرة القدم، وهي لحظة الاستعراض أكثر منها لحظة الهيمنة الغربية
أما المسافة بين مركز جون كينيدي للفنون وسواحل فنزويلا، فليست بعيدة عن أذهان مانحي الرئيس الأميركي جائزة السلام، لرجل يبدل ويغير كل ما يحلو له في مصائر العالم، وفي الوقت ذاته يحشد قواته في مياه البحر الكاريبي، ويقوم بغارات مطاردا قوارب تجار المخدرات بحجة محاربة التهريب.
إنها اللحظة الأميركية بامتياز، حتى في كرة القدم، وهي لحظة الاستعراض أكثر منها لحظة الهيمنة الغربية، فالسياسة الأميركية نحو أوراسيا (أوروبا وآسيا)، مفسرة مسبقا كما قال زبنغيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق في كتابه الشهير "رقعة الشطرنج الكبرى: السيطرة الأميركية وما يترتب عليها"، باعتبارها (أي أوراسيا) أهم ساحة حرب بالنسبة لأميركا؛ لعظم مواردها النفطية وثرواتها. وفنزويلا أيضا- ووفقا لمبدأ مونرو المنسوب للرئيس الأميركي الخامس عشر جيمس مونرو- هي حديقة خلفية في قارة أميركا اللاتينية التي لن يسمح فيها لأي دولة أن تكون خارجة عن سيطرة واشنطن أو متعارضة معها.
صحيح أن هناك دولا لاتينية ناهضت واشنطن عقودا، وظل القطع بالقدرة الأميركية على تغيير القيادات مستوعبا، لكن ما لم يكن متخيلا تغيير تقاليد قرعة كأس العالم، لكي يرى المشاهد منصة يعتليها ترمب متوجا بلقب صانع السلام، وكأنه أمام نهاية فيلم أميركي، ففيما مشاهد القوة الأميركية وحشودها في الكاريبي والغارات على السفن الفنزويلية، تحمل تذكيرا بالحشود الغربية قبالة سواحل غزة عندما بدأت حرب 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هناك صورة فضائية من قمر أميركي بخرائط النفط وحقول الغاز في سواحل غزة تحط على مكتب ترمب.