ماذا تريد الصين من أفريقيا؟

تسهم بكين في تنمية أفريقيا، لكن ليس كشريك لفاعل سيادي، بل تتعامل مع القارة كهوامش مدمجة في خدمة مصالحها الوطنية الخاصة

ماذا تريد الصين من أفريقيا؟

استمع إلى المقال دقيقة

أدت الصين دورا بارزا في التاريخ الحديث لأفريقيا، فأعادت تشكيل القارة بوصفها فضاء يضم دولا حديثة الاستقلال. غير أن هذا الدور لم يكن بسيطا أو خطيا، بل تطور على نحو ملحوظ عبر مراحل الانخراط المتعاقبة.

بصفتها فاعلا جيوسياسيا، دخلت الصين إلى أفريقيا على موجة المدّ المناهض للاستعمار. فمنذ خمسينات القرن الماضي حتى ثمانيناته، قدمت بكين دعما لحركات التحرر في موزمبيق وأنغولا وزيمبابوي وتنزانيا وغانا وغيرها. وقد اتخذ هذا الدعم أشكالا أيديولوجية (ماركسية–ماوية)، وعسكرية، ومالية، واقتصادية. ورغم أن هذه المساندة كانت جزءا من منافسة الصين مع الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على النفوذ في ما كان يسمى "العالم الثالث"، فإن ذلك لا يقلل من إسهامها في تحقيق الاستقلال وبناء اللبنات الأولى لعدد من الدول الأفريقية.

أما السياسة الصينية الحديثة في القارة فقد أبقت على خطابها المناهض للاستعمار كأداة مواجهة للغرب، لكنها تخلت عن الأسس الأيديولوجية التي كانت تسنده. لقد حلت البرغماتية الخالصة محل التضامن الثوري.

ومنذ أواخر تسعينات القرن العشرين، باتت الصين تؤدي دورا محوريا في التنمية الاقتصادية لأفريقيا، واضعة الأساس لما يوصف اليوم بالنظام متعدد الأقطاب. هذا التحول لم ينشأ من منافسة جيوسياسية مباشرة، بل من دخول بكين إلى فراغ تركه الغرب بعد أن فقد اهتمامه الاستراتيجي بالقارة عقب سقوط جدار برلين، إذ ظل ينظر إليها أساسا كساحة للمواجهة الأيديولوجية مع الاتحاد السوفياتي. ومع عجز السياسات الغربية عن التكيف مع واقع ما بعد الحرب الباردة، وجد الصينيون الطريق مفتوحا لتوسع سريع وغير متنازع عليه في معظم أنحاء أفريقيا.

النشاط الاستثماري الكثيف للصين يولد اعتمادا بنيويا على التدفقات المالية والبنى التحتية الصينية، ويخضع الاقتصادات الأفريقية لمعايير وأدوات صينية. كما أن ترتيبات الديون تصاغ بشكل غير متكافئ

أصبحت الصين المحرك الرئيس للنمو الاقتصادي في القارة، والمساهم الخارجي الأبرز في بروز تعدديتها القطبية. فقد ضخت استثمارات ضخمة في البنى التحتية من طرق وموانئ وجسور وسدود وشبكات كهرباء، إضافة إلى مجالات الخدمات اللوجستية والاتصالات والطاقة والإقراض وتوفير السلع منخفضة الكلفة. وبذلك حالت بكين دون انهيار الكثير من الاقتصادات الأفريقية، ومنحتها سرعة التنفيذ ورأس المال وخطوط المشاريع وأدوات التحديث التي كف الغرب عن تقديمها منذ زمن.
بين عامي 2000 و2023، أصدرت المصارف الصينية والمؤسسات المالية المرتبطة بالدولة قروضا تقدر بنحو 182.28 مليار دولار عبر 1306 التزامات ائتمانية. أما الاستثمارات المباشرة للشركات الصينية في أفريقيا فقد بلغت ما بين 3 و4 مليارات دولار في 2023–2024، فيما ارتفع رصيدها التراكمي إلى نحو 42–43 مليار دولار بحلول نهاية 2023. ووصل حجم التجارة الصينية–الأفريقية إلى 295–300 مليار دولار في 2024، بعد أن كان لا يتجاوز 10.6–10.8 مليار دولار في عام 2000.
ومع ذلك، فإن الاستثمار الصيني يطور أفريقيا وظيفيا أكثر مما ينهض بها استراتيجيا. فالنموذج الذي تتبناه بكين لا يتصور القارة فاعلا مستقلا، بل يراها امتدادا لبنية الصين الاقتصادية الخاصة، مندمجا في برامج وطنية مثل "مجتمع المستقبل المشترك"، ومبادرة "الحزام والطريق"، ومبدأ "التنمية جنوب–جنوب من دون شروط سياسية".
ولا تسعى الصين إلى أهداف اجتماعية في مشاريعها، بل تغض الطرف عن الفساد وتمتنع عن التدخل في الشؤون السياسية الداخلية للدول الشريكة. وهي تعمل عبر حكومات ريعية، وتتواصل حصرا مع النخب المحلية. ونتيجة لذلك، تهمش المجتمعات المدنية، وتتجاهل الإصلاحات، وتضعف الشفافية والمساءلة. فتنشأ دينامية اجتماعية سلبية، تُبقِى الأثر الاجتماعي محدودا، فيظل معظم السكان خارج الدورة الاقتصادية، محصورين في وظائف متدنية المهارة.
ويواكب هذا الغياب للتنمية المؤسسية وعدم تقليص الفوارق الاجتماعية تصاعد الاعتماد على الديون. فالنشاط الاستثماري الكثيف للصين يولد اعتمادا بنيويا على التدفقات المالية والبنى التحتية الصينية، ويخضع الاقتصادات الأفريقية لمعايير وأدوات صينية. كما أن ترتيبات الديون تصاغ بشكل غير متكافئ: تتحمل الدول الأفريقية المخاطر المالية، بينما تضمن الصين الوصول إلى الموارد والأصول الاستراتيجية.
وبذلك تؤدي الصين دورا مزدوجا: فهي محرك لانتعاش اقتصادي، وفي الوقت نفسه مهندس لبنى جديدة من التبعية الأحادية ـ مالية ومواردية وسياسية.
وفي المرحلة الراهنة، تسهم بكين في تنمية أفريقيا، لكن ليس كشريك لفاعل سيادي، بل تتعامل مع القارة كهوامش مدمجة في خدمة مصالحها الوطنية الخاصة.

font change