أعلن الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه خلال منتدى فالداي لعام 2025 أمام المجتمع الدولي عن هيكل أيديولوجي جديد للسياسة الخارجية الروسية، يستند إلى مفهوم حضاري برغماتي يرتكز على مبادئ السيادة وتعدد المراكز ورفض عالمية الغرب.
وفي هذا البناء الجيوسياسي، لا تُعد أفريقيا مجرد وجهة من وجهات السياسة، بل تُعتبر ميدانا فعليا لتطبيق هذه العقيدة واختبارها.
وترتكز القارة، بما تحمله من عمق تاريخي، على أرضية خصبة تتلاءم مع الأيديولوجيا الجديدة. ففي وسط تنوع الثقافات والتقاليد وأنماط التعبير السياسي، تبدأ مبادئ فالداي في اكتساب بُعد تجريبي ملموس.
أكّد الرئيس فلاديمير بوتين، في معرض حديثه عن المشهد الدولي الراهن، أنّ عهد الأحادية القطبية ولى دون رجعة، مشيرا إلى أنّ العالم لم يعد يُدار بمنطق الهيمنة، بل بمنطق التفاعل وتكاثر مراكز القوة، في مسار طبيعي يعكس نضج البشرية وتحوّلاتها الكبرى.
ومن خلف مصطلح "تعدد الأقطاب"، طرح بوتين تصورا أكثر عمقا ومرونة هو "تعدد المراكز"، إذ إن التعدد القطبي، الذي تشكّل في أواخر تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الجديدة، يُعنى بإرساء توازن نسبي بين عدة "أقطاب قوة"، ويقوم جوهريا على رفض احتكار الغرب الجماعي لتحديد القيم والمعايير ومقاييس الشرعية على الصعيد العالمي.
أما "تعدد المراكز"، فهو أيديولوجيا كاملة تتجاوز هذا الرفض إلى بناء رؤية جديدة للعالم. فبينما يعكس التعدد القطبي حرية الدول في اختيار تحالفاتها وسياستها الخارجية، بما يُنتج مراكز جذب متنوعة كالتكتلات الإقليمية والمبادرات الاقتصادية والتكاملية والدفاعية، يقوم تعدد المراكز على تشكيل منظومة أفقية من التعاون غير التراتبي، منفتحة على التنوع وخالية من المعايير الموحدة، حيث تعمل كل وحدة ضمن هذه الشبكة كمركز مستقل للنفوذ، سواء استندت قوته إلى السياسة أو الموارد أو الرؤية الفكرية.
وفي هذا السياق، لا تسعى موسكو إلى فرض نموذجها على أفريقيا، ولا تكتفي بدعمها من بعيد، بل تنخرط في تفاعل متبادل تتعلّم من خلاله كيف يمكن للسيادة أن تُصبح أداة تنسيق فعالة، لا وسيلة صدام.
ويجدر التذكير بأنّ هذين المفهومين لم يكونا غريبين عن السياق الأفريقي. فمنذ مرحلة ما بعد التحرر، تبنّت القارة السمراء هذا التصور بشكل فطري، بوصفه استراتيجية واقعية للبقاء وتعزيز الكيان السياسي للدول الناشئة. وقد عبّرت "الاشتراكية الأفريقية" التي دعا إليها كوامي نكروما، و"الرأسمالية الأفريقية" التي روّج لها جون كينياتا، عن أولى محاولات صياغة هذا التوجه ضمن أطر فكرية متمايزة. أما أحمد سيكو توري، فقد جسّد هذا المفهوم حين قطع علاقاته مع فرنسا، مؤسسا لصيغة اتحادية بين الدول المجاورة، في ما يمكن اعتباره نموذجا أوليا للسيادة التعاونية وتجسيدا مبكرا لتعدد المراكز.