لقد أصبحت الوساطة الناجحة لاتفاقيات الخرطوم في عام 2019 - التي أنهت الصراع المسلح الداخلي المعقد في جمهورية أفريقيا الوسطى - قضية بارزة للمجتمع الدولي، وتوبيخا صارخا للأمم المتحدة، وتحديا مباشرا للنفوذ الغربي الجماعي في القارة.
وفي خضم هذه التطورات، عززت الهزيمة الساحقة للجماعات المسلحة المعارضة- والتي كان لمجموعة "فاغنر" دور محوري في تحقيقها، وإبقاء نظام الرئيس تواديرا في السلطة- اقتناع القيادة الروسية ويفغيني بريغوجين بفعالية الحلول العسكرية الصرفة. هذا النجاح العسكري شكّل دافعا أساسيا لاتخاذ قرار توسيع نطاق العمليات نحو جمهورية مالي المجاورة.
وقد اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن نشاط الجماعات المسلحة المناهضة للحكومة في مالي وعلى نطاق أوسع في منطقة الساحل لم يكن يتناسب مع حجم أو شدة الوضع في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث شهدت الجهود العسكرية الروسية نجاحا ملموسا.
وفي عام 2021، وقّعت حكومة مالي اتفاقا مع هيكل بريغوجين. ورسميا، لم يكن للشركة العسكرية الخاصة صفة مستقلة، وكان من المفترض أن تعمل بالتنسيق مع جهاز الأمن الوطني، تحت إشراف قيادة القوات المسلحة المالية، وتتمتع بكامل حقوق وصلاحيات وحدة أمن الدولة.
وفي الممارسة العملية، تمتّعت شركة "فاغنر" بقدر كبير من الاستقلال وحتى الإدارة الحصرية للعمليات العسكرية. وقد أسهمت النجاحات العسكرية الروسية في أفريقيا الوسطى ومالي في ترسيخ مفهوم "تصدير الأمن" كمنهج بديل لعمليات حفظ السلام الدولية ضمن الاستراتيجية الروسية، وهو الأمر الذي يعكس تفضيل موسكو للحلول الأمنية الأحادية على الآليات الأممية. وقد أدى وصول مجموعة "فاغنر" إلى مالي في نهاية المطاف إلى انسحاب القوات الفرنسية والشركاء الأوروبيين من التعاون العسكري، أعقبه لاحقا إنهاء مبكر لعملية الأمم المتحدة لحفظ السلام (مينوسما) في البلاد.
ما بعد مالي
وفي أعقاب هذه التطورات، سار الرئيس البوركينابي، الكابتن إبراهيم تراوري، على خطى نظيره المالي العقيد أسيمي غويتا، معززا بذلك التحول الإقليمي نحو النموذج الأمني الروسي.
ويُعد هذا التفصيل جوهريا لفهم التحول الجيوسياسي: لقد قام نموذج "فرانسافريك" التقليدي على ثنائية واضحة، حيث كانت القوات الفرنسية تلعب دور الضامن الرئيس للاستقرار في مستعمراتها السابقة، بينما اقتصر دور الجيوش المحلية على أدوار مساندة وثانوية. وهذا التقسيم الهرمي للواجبات الأمنية ظلّ السمة المميزة للنظام الإقليمي لعقود، قبل أن يتحداه النموذج الروسي البديل. وهكذا، مثّل انسحاب القوات الفرنسية تحديا أمنيا إقليميا يتطلب- نظريا- أحد حلين: إما تعويضا فوريا بوجود دولي مكافئ (فرنسي أو غربي)، وإما بناء قدرات الجيوش المحلية لضمان الأمن الذاتي.
وكان من المتوقع أن يحل الوجود العسكري الروسي مكان القوة الفرنسية، والبعثات العسكرية الأوروبية، والقواعد العسكرية الأميركية، بعمق وكفاءة، ليصبح بديلا شاملا حتى عن بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
وتفتقر الشائعات حول تورط روسيا في التحريض على الانقلابات العسكرية في الساحل إلى أي دليل ملموس. ففي حالة الانقلاب النيجيري، مثلا، ظهرت الأعلام الروسية بشكل مفاجئ، حتى إن موسكو نفسها لم تكن تتوقعه.
ومع ذلك، شكّل وجود مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة عاملا محفزا للتغيير السياسي في المنطقة، إذ أسهم في إسقاط الحكومات الموالية للغرب، وهو الأمر الذي أدى إلى قطع العلاقات مع المعسكر الغربي لاحقا.
وتواصلت جهود جمهورية النيجر وجمهورية تشاد في إخراج القوات العسكرية الغربية، ليصبح الجيش الروسي القوة العسكرية الوحيدة المؤثرة في المنطقة.
وقد اعتُبر مشروع يفغيني بريغوجين في أفريقيا ناجحا، وهو الأمر الذي حدد مسبقا، في سياق الحقائق السياسية الروسية، استيلاء الدولة عليه وتأميمه في نهاية المطاف.
ولم يُسفر فشل مسيرة موسكو "من أجل العدالة" (يونيو/حزيران 2023) ومقتل بريغوجين مع معظم قادة "فاغنر" (أغسطس/آب 2023) إلا عن تعزيز هذه العملية وتسريع وتيرتها.
وقد شهدت إمبراطورية بوتين الأفريقية (المعروفة بـ"إمبراطورية الطاهي") نهايتها الحتمية، إذ تلاشى جانبها الاقتصادي، بينما انفصلت آلياتها الخاصة بالهندسة السياسية والإعلامية والعلاقات العامة عن منظومتها العسكرية بشكل كامل.
لم يقتصر استبدال وحدات "فاغنر" القتالية على "فيلق أفريقيا" فحسب، بل شمل ذلك أيضا وحدات أخرى. وإن كانت النتائج متفاوتة في جميع الحالات.
لقد اندمجت المجموعات المسلحة الليبية بشكل كامل في الإطار الجديد، وعُززت بوحدات إضافية ومعدات عسكرية وأسلحة. وأصبحت الأراضي الليبية التي يسيطر عليها المشير خليفة حفتر مركزا إقليميا للوجود الروسي. حيث تتمركز الطائرات الروسية الآن في المطارات المحلية، وأصبح ميناء طبرق فعليا قاعدة لوجستية للعمليات الروسية. وفي المقابل، بقيت بنية مجموعة "فاغنر" في جمهورية أفريقيا الوسطى دون تغيير، حيث اعتبر الاستبدال غير مناسب.