"الفيلق الأفريقي"... سلاح روسيا في القارة السمراء

مجرد هيكل إعلاني انتهازي قابل للتكيف؟

ستيفانو سامو/المجلة
ستيفانو سامو/المجلة

"الفيلق الأفريقي"... سلاح روسيا في القارة السمراء

أفادت عدة وسائل إعلام مرتبطة بمجموعة "فاغنر" بأن المجموعة، المعروفة عادة باسم "الشركة"، تستعد لإنهاء عملياتها في جمهورية مالي. ورغم تداول الشائعات بشأن هذا القرار منذ فترة، فلا تزال دقة الإعلان الأخير محل شك. ومع ذلك، تبرز حقيقتان تبدوان متناقضتين.

أولا، أظهرت مجموعة "فاغنر"، وهي منظمة شبه عسكرية أسسها يفغيني بريغوجين، قدرة لافتة على الاستمرار والبقاء، حتى عقب مقتل كبار قادتها.

ثانيا، أصبحت عمليات "فاغنر" في أفريقيا الآن تحت إشراف كيان جديد مدعوم من الدولة، "الفيلق الأفريقي"، وهو وحدة عسكرية نظامية تتبع وزارة الدفاع الروسية، تتولى فعليا المهام التي كانت تضطلع بها "فاغنر" في القارة. وبهذا تكون "الشركة" التي اعتُبرت في السنوات الأخيرة من أبرز أدوات النفوذ الروسي قد سلّمت مكانها لهذا الهيكل الجديد.

وقد أثار "الفيلق الأفريقي" الذي يستحضر اسمه اسم وحدة "أفريكا كوربس" النازية سيئة السمعة في الحرب العالمية الثانية، موجة واسعة من التكهنات، تغذيها ندرة التصريحات الرسمية وغموض البنية الداخلية لهذا التشكيل العسكري الجديد، الذي يعدّ في جوهره نسخة مؤسسية من "فاغنر"، وقد أُعيد إنتاجه تحت إشراف الدولة. فقد جرى الحفاظ على معظم مكوناته الأساسية، من الهيكل التنظيمي إلى الكوادر البشرية والمنظومة اللوجستية، بينما انتقل عدد كبير من قادة وعناصر "فاغنر" السابقين للعمل تحت الاسم الجديد.

ولا شك أن الطابع الرسمي كوحدة تابعة لوزارة الدفاع، بما يفرضه من تسلسل هرمي صارم وتبعية إدارية مباشرة، يقلّص هامش الاستقلالية ويقيّد المبادرة في اتخاذ القرار، في إطار منظومة تفضل التنسيق البيروقراطي متعدد المستويات على حساب المرونة والسرعة في الأداء.

بل إن التصميم البصري لشعار التشكيل الجديد يوحي بمحاكاة رمزية لقيادة القوات الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، في محاولة لتقديم الفيلق بوصفه آلية جيوسياسية شاملة تتوحد تحت مظلتها مسارات متعددة من التعاون العسكري–التقني الدولي. وقد أدت عملية إعادة هيكلة الكيان المستقل والمرن- الذي كان يستند إلى المبادرة ويصعب احتواؤه ضمن النظام الهرمي الصارم للسلطة الروسية- إلى تحويله إلى فرع تابع لوزارة الدفاع، ما أسفر– بطبيعة الحال– عن تضخم في الجهاز الإداري وتباطؤ في آليات اتخاذ القرار.

تحت القيادة الديناميكية ليفغيني بريغوجين، تحوّلت مجموعة المدربين العسكريين الروس في السودان على مدار سنوات من وحدة تدريبية محدودة إلى قوة متعددة المهام، تمتلك منظومات متكاملة من المدفعية والطيران والدفاع الجوي

بل إن التصميم البصري لشعار هذا التشكيل الجديد لا يخلو من دلالات رمزية مقصودة، إذ يحاكي– إلى حد بعيد– شعار القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، في محاولة لإبراز "الفيلق" بوصفه آلية جيوسياسية جامعة، تتوحّد تحت مظلتها مختلف مسارات التعاون العسكري-التقني الدولي.

وتتجسّد الأهمية الجيوسياسية لهذا الكيان في تعيين الجنرال يونس–بك يفكوروف قائدا له، وهو نائب وزير الدفاع الروسي وضابط ميداني مخضرم شارك في عمليات قتالية ومهام لحفظ السلام، أبرزها عملية "الاندفاع إلى بريشتينا" في يوغوسلافيا السابقة.

ويمثّل هذا التشكيل أحد الأعمدة الأساسية في استراتيجية روسيا لتصدير الأمن، إذ يعمل كمنصة ارتكاز ومعقل لدعم مشاريعها الاقتصادية المزمعة في القارة، ولا سيّما المشاريع الكبرى والطويلة الأمد في قطاعي التعدين والطاقة.

كما يلعب هذا الكيان دور مزوّد وضامن غير مباشر للأمن، حيث يُقدّم حماية للاستثمارات الدولية في المنطقة دون الدخول في علاقات رسمية مباشرة مع المستثمرين أنفسهم.

ويُبرز شعار الفيلق "الجريء يَنْتَصر"– وهو ترجمة حرفية لشعار القوات الخاصة البريطانية (SAS) بُعدا آخر للكيان، لا يقتصر على كونه وحدة عسكرية تقليدية فحسب، بل يُظهره كفريق عمليات خاصة. وهذا التشابه اللافت قد يُشير إلى صلة محتملة بالاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، التي تشرف عادة على مثل هذه الوحدات الخاصة.

وتُشير مصادر إلى إشراف مُحتمل لقياديين اثنين رفيعي المستوى في الاستخبارات العسكرية الروسية (GRU)، وهما الفريق فلاديمير أليكسييف واللواء أندريه أفريانوف، على عمليات هذا "الفيلق".

تجدر الإشارة إلى هذه النقطة، في ظل استمرار الشائعات التي تزعم أن "فيلق أفريقيا" هو جيش خاص يخضع لسيطرة رجل الأعمال الروسي غينادي تيمتشينكو (مجموعة ستروي ترانس غاز وشركة نوفاتِك)، أحد الأوليغارشية المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين. وغالبا ما يُشار إلى اسم قسطنطين ميرزيانتس، وهو ضابط سابق في القوات الخاصة عُرف بتأسيسه لهياكل أمنية شبه عسكرية في سوريا ووحدات شبه تطوعية خلال الحرب في أوكرانيا، بوصفه القائد الفعلي للتشكيل.

غير أن هذه الفرضية لا تعكس الواقع، إذ تتعارض مع منطق الرئيس بوتين نفسه، الذي يرفض بشكل قاطع وجود تشكيلات عسكرية مستقلة تُركّز بيد جهات خاصة. ويبدو أن الدرس المستفاد من مسيرة بريغوجين نحو موسكو قد أُخذ بالحسبان.

لا شك أن تيمتشينكو يتمتع بنفوذ معتبر في الفيلق، لكنه يأتي من موقع مستثمر محتمل في الاقتصاد الأفريقي، ولا يوجد ما يشير إلى أن نفوذه يتجاوز نفوذ أوليغارشيين آخرين مقرّبين من الرئيس، مثل الأخوين روتنبرغ أو أوليغ ديريباسكا (شركة روسال).

وبالمثل، فإنه حتى مع احتساب الخبرة الواسعة لميرزيانتس وشبكة علاقاته الممتدة، لا سيما في الملفات غير العلنية والحساسة، فلا يمكن مقارنته بأي من كبار الجنرالات مثل يونس–بك يفكوروف، أو فلاديمير أليكسييف، أو أندريه أفريانوف، سواء من حيث المكانة أو النفوذ أو العلاقات الدولية أو القرب من نواة السلطة في البلاد.

توسع شركة "فاغنر"

بمرور الوقت، توسعت شركة "فاغنر" لتشمل أقساما متخصصة في تقنيات التأثير السياسي، والدعاية، والعلاقات العامة، والأنشطة التجارية، لتتحول بذلك إلى كيان متعدد الوظائف يتجاوز دوره العسكري البحت. وفي الوقت الذي حافظت فيه "فاغنر" على طابعها القتالي الصارم، أصبحت أيضا طرفا فاعلا ومستفيدا من النزاعات، لا سيما من خلال حماية مواقع استخراج الموارد الطبيعية والسيطرة عليها.

تتميّز روسيا حاليا بكونها الدولة الوحيدة من خارج القارة الأفريقية التي تشارك بقوات نظامية ومرتزقة في عمليات قتالية فعلية ضد الجماعات الإسلامية المسلّحة والحركات الانفصالية المعادية للحكومات الأفريقية. ولتحليل هذا المشهد الأمني الفريد، لا بد من دراسة البنية الهيكلية والتنظيمية للتشكيلات العسكرية الروسية العاملة في المنطقة.

تحت القيادة الديناميكية ليفغيني بريغوجين، تحوّلت مجموعة المدربين العسكريين الروس في السودان على مدار سنوات من وحدة تدريبية محدودة إلى قوة متعددة المهام، تمتلك منظومات متكاملة من المدفعية والطيران والدفاع الجوي. ولقد مكّنها هذا التطور من تنفيذ عمليات قتالية معقدة- سواء بشكل مستقل أو بالتنسيق مع القوات المحلية- كما برهنت خلال تدخلاتها الناجحة في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى.

ستيفانو سامو/المجلة

 

في الممارسة العملية، تمتّعت شركة "فاغنر" بقدر كبير من الاستقلال وحتى الإدارة الحصرية للعمليات العسكرية

لقد أصبحت الوساطة الناجحة لاتفاقيات الخرطوم في عام 2019 - التي أنهت الصراع المسلح الداخلي المعقد في جمهورية أفريقيا الوسطى - قضية بارزة للمجتمع الدولي، وتوبيخا صارخا للأمم المتحدة، وتحديا مباشرا للنفوذ الغربي الجماعي في القارة.

وفي خضم هذه التطورات، عززت الهزيمة الساحقة للجماعات المسلحة المعارضة- والتي كان لمجموعة "فاغنر" دور محوري في تحقيقها، وإبقاء نظام الرئيس تواديرا في السلطة- اقتناع القيادة الروسية ويفغيني بريغوجين بفعالية الحلول العسكرية الصرفة. هذا النجاح العسكري شكّل دافعا أساسيا لاتخاذ قرار توسيع نطاق العمليات نحو جمهورية مالي المجاورة.

وقد اتُخذ هذا القرار على الرغم من أن نشاط الجماعات المسلحة المناهضة للحكومة في مالي وعلى نطاق أوسع في منطقة الساحل لم يكن يتناسب مع حجم أو شدة الوضع في جمهورية أفريقيا الوسطى، حيث شهدت الجهود العسكرية الروسية نجاحا ملموسا.

وفي عام 2021، وقّعت حكومة مالي اتفاقا مع هيكل بريغوجين. ورسميا، لم يكن للشركة العسكرية الخاصة صفة مستقلة، وكان من المفترض أن تعمل بالتنسيق مع جهاز الأمن الوطني، تحت إشراف قيادة القوات المسلحة المالية، وتتمتع بكامل حقوق وصلاحيات وحدة أمن الدولة.

وفي الممارسة العملية، تمتّعت شركة "فاغنر" بقدر كبير من الاستقلال وحتى الإدارة الحصرية للعمليات العسكرية. وقد أسهمت النجاحات العسكرية الروسية في أفريقيا الوسطى ومالي في ترسيخ مفهوم "تصدير الأمن" كمنهج بديل لعمليات حفظ السلام الدولية ضمن الاستراتيجية الروسية، وهو الأمر الذي يعكس تفضيل موسكو للحلول الأمنية الأحادية على الآليات الأممية. وقد أدى وصول مجموعة "فاغنر" إلى مالي في نهاية المطاف إلى انسحاب القوات الفرنسية والشركاء الأوروبيين من التعاون العسكري، أعقبه لاحقا إنهاء مبكر لعملية الأمم المتحدة لحفظ السلام (مينوسما) في البلاد.

ما بعد مالي

وفي أعقاب هذه التطورات، سار الرئيس البوركينابي، الكابتن إبراهيم تراوري، على خطى نظيره المالي العقيد أسيمي غويتا، معززا بذلك التحول الإقليمي نحو النموذج الأمني الروسي.

ويُعد هذا التفصيل جوهريا لفهم التحول الجيوسياسي: لقد قام نموذج "فرانسافريك" التقليدي على ثنائية واضحة، حيث كانت القوات الفرنسية تلعب دور الضامن الرئيس للاستقرار في مستعمراتها السابقة، بينما اقتصر دور الجيوش المحلية على أدوار مساندة وثانوية. وهذا التقسيم الهرمي للواجبات الأمنية ظلّ السمة المميزة للنظام الإقليمي لعقود، قبل أن يتحداه النموذج الروسي البديل. وهكذا، مثّل انسحاب القوات الفرنسية تحديا أمنيا إقليميا يتطلب- نظريا- أحد حلين: إما تعويضا فوريا بوجود دولي مكافئ (فرنسي أو غربي)، وإما بناء قدرات الجيوش المحلية لضمان الأمن الذاتي.

وكان من المتوقع أن يحل الوجود العسكري الروسي مكان القوة الفرنسية، والبعثات العسكرية الأوروبية، والقواعد العسكرية الأميركية، بعمق وكفاءة، ليصبح بديلا شاملا حتى عن بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

وتفتقر الشائعات حول تورط روسيا في التحريض على الانقلابات العسكرية في الساحل إلى أي دليل ملموس. ففي حالة الانقلاب النيجيري، مثلا، ظهرت الأعلام الروسية بشكل مفاجئ، حتى إن موسكو نفسها لم تكن تتوقعه.

ومع ذلك، شكّل وجود مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة عاملا محفزا للتغيير السياسي في المنطقة، إذ أسهم في إسقاط الحكومات الموالية للغرب، وهو الأمر الذي أدى إلى قطع العلاقات مع المعسكر الغربي لاحقا.

وتواصلت جهود جمهورية النيجر  وجمهورية تشاد في إخراج القوات العسكرية الغربية، ليصبح الجيش الروسي القوة العسكرية الوحيدة  المؤثرة في المنطقة.

وقد اعتُبر مشروع يفغيني بريغوجين في أفريقيا ناجحا، وهو الأمر الذي حدد مسبقا، في سياق الحقائق السياسية الروسية، استيلاء الدولة عليه وتأميمه في نهاية المطاف.

ولم يُسفر فشل مسيرة موسكو "من أجل العدالة" (يونيو/حزيران 2023) ومقتل بريغوجين مع معظم قادة "فاغنر" (أغسطس/آب 2023) إلا عن تعزيز هذه العملية وتسريع وتيرتها.

وقد شهدت إمبراطورية بوتين الأفريقية  (المعروفة بـ"إمبراطورية الطاهي") نهايتها الحتمية، إذ تلاشى جانبها الاقتصادي، بينما انفصلت آلياتها الخاصة بالهندسة السياسية والإعلامية والعلاقات العامة عن منظومتها العسكرية بشكل كامل.

لم يقتصر استبدال وحدات "فاغنر" القتالية على "فيلق أفريقيا" فحسب، بل شمل ذلك أيضا وحدات أخرى. وإن كانت النتائج متفاوتة في جميع الحالات.

لقد اندمجت المجموعات المسلحة الليبية بشكل كامل في الإطار الجديد، وعُززت بوحدات إضافية ومعدات عسكرية وأسلحة. وأصبحت الأراضي الليبية التي يسيطر عليها المشير خليفة حفتر مركزا إقليميا للوجود الروسي. حيث تتمركز الطائرات الروسية الآن في المطارات المحلية، وأصبح ميناء طبرق فعليا قاعدة لوجستية للعمليات الروسية.  وفي المقابل، بقيت بنية مجموعة "فاغنر" في جمهورية أفريقيا الوسطى دون تغيير، حيث اعتبر الاستبدال غير مناسب.

احتفظت مجموعات الهجوم التابعة لـ"فاغنر" بقدر من الاستقلالية عن هيكلية "الفيلق الأفريقي" الخاضع لإشراف وزارة الدفاع الروسية، ولكنها في النهاية انخرطت كليا في القتال الدائر

وفي السودان، حيث تدعم روسيا حاليا حكومة الجنرال عبد الفتاح البرهان في الصراع المسلح الدائر، لا يوجد لـ"الفيلق الأفريقي" حضور رسمي. ومع ذلك- ووفقا لعدة مصادر- يشارك متخصصون عسكريون روس في تخطيط وتنفيذ عمليات خاصة لدعم القوات الحكومية وأجهزة تطبيق القانون.

أما في بوركينا فاسو، وانطلاقا من مبدأ السيادة، فالحكومة الانتقالية لا تسمح بوجود قوات أجنبية تشارك بشكل مباشر في الصراع الداخلي، حيث تضطلع قوات الأمن الوطني ووحدات الميليشيات الموالية للحكومة باستخدام القوة بنفسها. ومع ذلك، ثمة مجموعة من المتخصصين العسكريين التابعين للتحالف، مكلفين بصيانة الأسلحة والمعدات العسكرية، بالإضافة إلى تدريب الكوادر الوطنية.

ويمكن رصد وضع مماثل في النيجر وغينيا الاستوائية، غير أن الوجود الروسي في النيجر يحمل أيضا بعدا رمزيا وأهدافا تتعلق بالبروباغندا. حيث تتمركز وحدات روسية الآن في قاعدة عسكرية أميركية سابقة.

وتشير مصادر إلى وجود وحدات متخصصة مكلفة بحماية رؤساء الدول والبنية التحتية الحيوية في غينيا الاستوائية ودول تحالف الساحل.

ستيفانو سامو/المجلة

أما في مالي، فلا يزال الوضع معقدا للغاية. فقد ثبت أن الاستبدال الفوري لوحدات "فاغنر" الخاصة التي شاركت في العمليات القتالية ضد الجماعات المناهضة للحكومة منذ بداية التدخل، أو دمجها في "الفيلق الأفريقي" أمر غير قابل للتطبيق. إذ لم يكن جميع الأفراد على استعداد لتجديد عقودهم، ولم يكن ثمة متسع من الوقت لتجميع وتنسيق وحدات جديدة بنفس مستوى التماسك والكفاءة في تنفيذ العمليات.

وقد احتفظت مجموعات الهجوم التابعة لـ"فاغنر" بقدر من الاستقلالية عن هيكلية "الفيلق الأفريقي" الخاضع لإشراف وزارة الدفاع الروسية، ولكنها في النهاية انخرطت كليا في القتال الدائر، لتحل محل القوات المسلحة الوطنية بشكل فعال.

في الوقت الحالي، يُعتبر أي نشاط يشارك فيه ممثلون فرنسيون أو أميركيون، حتى بالتعاون مع شركاء إقليميين، على نطاق واسع عملا تخريبيا

وتجدر الإشارة إلى أن أي مفاوضات مع مجموعات تابعة لتنظيم "القاعدة" الإرهابي الدولي، حتى خلال عملية برخان التي قادتها فرنسا، كانت توصف بأنها "اتفاق مع الشيطان".

وأدى وصول وحدات "فاغنر" إلى ترسيخ التوجه السائد في اتباع نهج قائم على القوة فقط في التعامل مع الصراع. وتقترب احتمالات التوصل إلى تسوية تفاوضية اليوم من نقطة اللاعودة.

ورغم أن القوة الفرنسية، والبعثات العسكرية الأوروبية، وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) فشلت جميعها في حل الصراع الإقليمي، فإن انسحابها أدى إلى إضعاف البنية الأمنية الإقليمية الهشة بالفعل. وقد تصاعدت وتيرة الصراع منذ ذلك الحين. وأصبح سلاح الجو الأداة الرئيسة في القتال ضد القوات المناهضة للحكومة، ولا سيما من خلال استخدام مسيرات بيرقدار آقنجي تركية الصنع، والتي يشغلها أفراد أتراك.

وفي الفترة ما بين 25 و27 يوليو/تموز، وقع حدث كبير أدى إلى تغيير الديناميكيات والوضع الميداني. فقد تعرض رتل من مجموعة هجومية تابعة لشركة "فاغنر"، معززة بأفراد من جيش مالي، لكمين. حيث قُصفت المجموعة ودُمرت على يد عناصر مسلحة من حركة أزواد المناهضة للحكومة، وذلك بالتنسيق مع فصائل تابعة لتنظيم "القاعدة" بالقرب من تين زواتين عند الحدود الجزائرية. ودُمرت المجموعة وأُسر عدد من عناصر "فاغنر" والجنود الماليين.

وقد ساهم التصريح المتسرع لممثل الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أندريه يوسوف، الذي أعلن فيه عن تورطه في هزيمة القافلة، في تسريع تحول الصراع الداخلي إلى مواجهة أيديولوجية أوسع.

وفي الوقت الحالي، يُعتبر أي نشاط يشارك فيه ممثلون فرنسيون أو أميركيون، حتى بالتعاون مع شركاء إقليميين، على نطاق واسع عملا تخريبيا. وبالمثل، تعتبر محاولات استكشاف قنوات التفاوض مع الجماعات الإسلامية تخليا عن مكافحة الإرهاب، وأعمالا متعمدة منسقة ضد دول تحالف الساحل.

وقد ثبت عدم جدوى الجهود الرامية إلى تحويل دور القوات الروسية في مالي نحو التعاون العسكري التقني مع التركيز على تدريب وتجهيز القوات المحلية وتوفير الدعم واسع النطاق دون المشاركة المباشرة في القتال. فتدريب الكوادر المؤهلة يستغرق وقتا طويلا، وفي الوقت نفسه تحتاج البيئة العملياتية وجودا مستمرا لقوات مستعدة جيدا. وفي ظل غياب تعزيزات من القوات الروسية، سوف تتضاءل فعالية القوات المسلحة المالية بشكل ملحوظ.

في الوقت الحاضر، أصبحت روسيا الاتحادية، من خلال وجودها العسكري الرسمي، طرفا مباشرا في الصراع المسلح الداخلي في جمهورية مالي مع كل التداعيات الناجمة عنه

ومن جانب آخر، أثبتت عمليات تسليم الأسلحة والمعدات العسكرية، مثل الشحنة الأخيرة الكبيرة، والتي ورد أنها جاءت من سوريا، وتضمنت مركبات مدرعة ودبابات، عدم فعاليتها إلى حد كبير دون المشاركة المباشرة لكوادر من الجيش الروسي.

ويبدو جليا أيضا أن الصراع الدائر في أوكرانيا، وانشغال روسيا في تنفيذ "عمليتها العسكرية الخاصة" يشكلان عبئا كبيرا في القدرة على الحفاظ على كميات كبيرة من صادرات الأسلحة.

وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى التدخل الحتمي لـ"الفيلق الأفريقي" في الصراع الداخلي باعتباره إرثا لمجموعة "فاغنر". ويبدو أن الاشتباك المباشر لوحدات التحالف في القتال مع المسلحين المناهضين للحكومة قد عجل بالإعلان الرسمي عن انسحاب "فاغنر" الكامل من مالي. بيد أن هذا ربما لا يشير إلى انسحاب فعلي، بل مجرد تحول في نطاق عمل الوحدات المنتشرة بالفعل.

وفي جوهر الأمر، فإن ما لم ينجز عام 2023 بعد تحطم طائرة يفغيني بريغوجين بدأ يتبلور تدريجيا بصيغة كيان أعيدت هيكلته وتسميته.

ولم يساهم الإعلان الرسمي عن انسحاب شركة "فاغنر"  في الحد من الخطاب المناهض لروسيا بين الجماعات المسلحة التي صنفتها الحكومة الانتقالية في مالي على أنها إرهابية ومتطرفة وانفصالية. وقد شبه ممثلو حركة أزواد وضع "الفيلق الأفريقي" بدلا من "فاغنر" بإعادة تسمية العمليات العسكرية الفرنسية من "سيرفال" إلى "بارخان"، وهو ما يعني غياب أي تغيير جوهري في التدخل العسكري الأجنبي.

وفي الوقت الحاضر، أصبحت روسيا الاتحادية، من خلال وجودها العسكري الرسمي، طرفا مباشرا في الصراع المسلح الداخلي في جمهورية مالي مع كل التداعيات الناجمة عنه. وعلى أرض الواقع، أصبحت مالي الآن منقسمة إلى منطقتين بارزتين: الجنوب، الذي يضم النواة المتقدمة اقتصاديا والكثير من المراكز الإدارية الرئيسة الخاضعة لسيطرة الحكومة. والشمال، حيث تخضع مناطق معينة لنفوذ جهات مسلحة غير حكومية تدير نظاما إداريا موازيا وشبه مؤسسي. غير أن هذا الانقسام لا يزال غير مستقر، شأنه في ذلك شأن حدوده التي تبقى عرضة للتبدل. ومع توسع نطاق النشاط الجهادي جغرافياً، تزداد حدة الصراع وتتصاعد إلى مستوى جديد، حيث أصبح الحصار المفروض على المراكز الإقليمية والمدن الكبرى شائعا بشكل متزايد. وفي الوقت نفسه، يبدو الحسم العسكري للأزمة بعيد المنال، وهو ما اعترف به ممثل روسيا لدى الأمم المتحدة، فاسيلي نيبينزيا. ولا يمكن للتعاون العسكري التقني في النيجر وبوركينا فاسو أن يلعب دورا حاسما في حل الصراعات الداخلية وذلك بسبب الحجم المحدود للمدربين الروس.

يبدو أن أي تأثير ملموس لـ"الفيلق الأفريقي" على تدفقات الهجرة غير النظامية عبر ليبيا، كأداة ضغط محتملة على أوروبا، أمر مشكوك فيه

ليبيا

ورغم استقرار الوضع في ليبيا نسبيا حتى الآن، فإن تصاعد التوترات بين طرابلس الواقعة تحت سيطرة "حزب الوحدة الوطني" بقيادة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، وبنغازي الواقعة تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، قد ينتهي بروسيا، من خلال "الفيلق الأفريقي"، للانجرار إلى صراع داخلي جديد. ونظرا لتشابك المصالح الدولية في ليبيا، قد ينزلق هذا الصراع بسهولة ليتخذ بعدا إقليميا أو دوليا.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الفائدة التي تحققها روسيا من وجود "الفيلق الأفريقي" في القارة؟ لا شك أن الفائدة الأساسية هي جيوسياسية، بمعنى قدرة روسيا على إثبات وجودها كقوة عالمية قادرة على تحدي الغرب المتوحد من خلال إزاحة وجوده العسكري من المنطقة. وهو ما يساهم بدوره في تعزيز صورة روسيا الدولية، وصورة زعيمها الرئيس فلاديمير بوتين.

وهذا الأمر أدى إلى توسيع الاتصالات الدولية، وحفّز الخطاب المؤيد لروسيا في الكثير من البلدان الأفريقية، وعزز الرواية المعادية للغرب داخل دول تحالف الساحل.

ويبقى تقييم أهمية هذا العامل على المدى الطويل أمرا صعبا بسبب تقلب البيئة الدولية. ويبدو أن أي تأثير ملموس لـ"الفيلق الأفريقي" على تدفقات الهجرة غير النظامية عبر ليبيا، كأداة ضغط محتملة على أوروبا، أمر مشكوك فيه. فقد كانت هذه التدفقات تاريخيا خاضعة لسيطرة جماعات محلية محددة، والصراع معها لا يشكل أولوية مباشرة لروسيا، بسبب المشهد السياسي المعقد في ليبيا، والحجم المحدود للوحدات العسكرية الروسية، ووضع "الفيلق الأفريقي" غير المحدد نسبيا كحليف رسمي للمشير حفتر.

ومن جهة ثانية، تضاءلت أهمية ضغط الهجرة على أوروبا من الناحية الاستراتيجية في ظل الأطر التنظيمية الأكثر صرامة، مما يحد من ضرورة وجود قوة عسكرية تدريجيا في هذا السياق.

وبشكل أساسي، يمكن القول إن تأثير "الفيلق الأفريقي" ضئيل على الصعيد الاقتصادي، ولا تزال المشاريع الجديدة المدعومة من روسيا مجرد تصريحات لا أكثر.

 فهل يمكن اعتبار "الفيلق الأفريقي" أداة فعالة وموثوقة للتوسع الروسي في القارة، أم إنه مجرد هيكل إعلاني انتهازي قابل للتكيف؟

يبدو أن الاستنتاج بديهي.

font change