هل يؤثر تمرد مرتزقة "فاغنر" على ميليشيات الشرق الأوسط؟

سيوفر تمرد قوات "فاغنر" دروسا لباقي الدول حول عدم تمكين القوات المرتزقة أكثر من اللازم

Michelle Thompson
Michelle Thompson

هل يؤثر تمرد مرتزقة "فاغنر" على ميليشيات الشرق الأوسط؟

هز الزحف المُجهَض الذي قام به يفغيني بريغوجين باتجاه موسكو نظامَ فلاديمير بوتين. ولعلّ من السابق لأوانه التنبؤ بتداعيات ذلك على الأحداث في روسيا وربما أوكرانيا، ولكن إحدى نتائجها الأوسع نطاقا ستكون على الأرجح إعادة تقييم بعض لفائدة استخدام المرتزقة. فعلى الرغم من أن "فاغنر" هي أشهر مجموعة مرتزقة تعمل على المستوى الدولي، فهي ليست فريدة من نوعها.

إذ كان صعودها جزءا من توجه أوسع نحو استخدام المرتزقة في العقد الماضي، حيث كان الشرق الأوسط، وهو عين المكان الذي انتشرت فيه قوات فاغنر نفسها على نطاق واسع، في مقدمة الأماكن التي تم استخدام المرتزقة فيها.

ففي أعقاب انتفاضات 2011 والحروب التي تلتها، لجأ العديد من الحكومات إلى المرتزقة للمساعدة في تحقيق أهدافها في مجموعة من النزاعات، وكانت حكومات إيران وتركيا، إلى جانب الحكومة الروسية أبرز من استعان بالمرتزقة. والآن، بعد أن أثارت تصرفات بريغوجين الشكوك حول الحكمة من الاعتماد الكبير على القوات الخارجية المأجورة، هل ستدفع التطورات في موسكو طهران وأنقرة إلى إعادة النظر في هذا الأمر؟

جاذبية المرتزقة

يعتبر استخدام المرتزقة الأجانب ممارسة تعود إلى العصور القديمة، فقد استخدم الفرس القدماء المرتزقة في معاركهم مع الإغريق. وكان استخدام المرتزقة شائعا في أوروبا في العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة، لكن هذه الممارسة تراجعت في القرنين التاسع عشر والعشرين.

فمع تزايد قوة الدول وبيروقراطيتها، بدأت تلك الدول ترغب في تحقيق مزيد من الاحتراف العسكري، مما أدى إلى تراجع استخدام قوات المرتزقة المؤقتة. ثم أدى نمو القومية بين الجماهير، خاصة بعد الثورة الفرنسية، إلى قيام الحكومات بتطوير جيوش كبيرة مهنية ودائمة، مستمدة بشكل أساسي من شعوبها، بدلا من المرتزقة الأجانب.

ونتيجة لذلك، خاضت الجيوش الوطنية، في المقام الأول، الصراعات الكبيرة في القرن العشرين مثل الحربين العالميتين الأولى والثانية بدلا من المرتزقة. واستغلت الإمبراطوريات الدولية مثل بريطانيا وفرنسا قواتها الاستعمارية، إلا أنهم كانوا يعتبرون تلك القوات امتداد للوطن بدلا من كونها قواتا أجنبية، وعلى عكس المرتزقة، كانت أجور تلك القوات غالبا أقل بكثير من الأجور التي كانت تدفع للجنود الأوروبيين.

AP
مقاتلو "فاغنر" بعد السيطرة على مدينة باخموت الأوكرانية في مايو/آيار، 2023

لم يتوقف استخدام المرتزقة بشكل كلي، بل استمرت بعض الدول في استخدامها عبر التاريخ. إلا أن بداية القرن الحادي والعشرين شهدت انتعاشا في استخدامهم من قبل القوى الدولية الكبرى. فازدهرت شركات الأمن الخاصة، واشتهرت واشنطن بنشر قوات بلاك ووترز لتعزيز قواتها خلال الاحتلال الأميركي للعراق في الفترة ما بين 2003-2011. أما روسيا، فاستخدمت قوات فاغنر في مسارح دولية مختلفة منذ تأسيسها في عام 2014.

وكان أحد المبررات الرئيسية لاستخدام المرتزقة هو أنهم يقللون من خطر المعارضة المحلية للحرب، فنحن نتذكر مثلا المعارضة الكبيرة في الولايات المتحدة لحرب فيتنام بسبب العدد الكبير من جنودها الذين قتلوا فيما أصبح وقتها جيشا إلزاميا. وواجهت موسكو، عندما كانت عاصمة الاتحاد السوفيتي، استياء مماثلا بعد ارتفاع معدل الضحايا أثناء احتلالها لأفغانستان. لذلك، فإن استخدام المرتزقة يقلل من هذه المخاطر. ومن المبررات الأخرى المهارات القتالية التي يمكن أن تميّز قوات المرتزقة.

ستعيد بعض الدول تقييم فائدة استخدام المرتزقة، فعلى الرغم من أن فاغنر هي أشهر مجموعة مرتزقة تعمل على المستوى الدولي، فهي ليست فريدة من نوعها

إيران: اختصاصية المرتزقة

عكست دول الشرق الأوسط في الغالب التوجهات العالمية فيما يتعلق بالمرتزقة. إذ وُظّفت حفنة من الخبراء العسكريين الأجانب من قبل الحكومات للمساعدة في تدريب الجيوش المستقلة حديثا، ولكن التوجه السائد في معظم القرن الماضي كان تقليد الدول الأخرى في تطوير جيوش دائمة كبيرة.

وتمثلت العديد من النزاعات في تلك الفترة بشكل حروب بين الدول، كالحروب بين إسرائيل وسوريا والأردن والعراق وإيران، حيث نشرت كل دولة منهم جيشا ضخما من القوات المحلية. ولكن، في الآونة الأخيرة، تغيرت هذه الممارسات إلى حد ما. فالحروب بين الدول باتت أقل شيوعا، وبدلا من ذلك ، باتت المنافسة العسكرية تتجلى عبر حروب أهلية في المنطقة. وعلى الرغم من نشر الجيوش الوطنية في بعض الحالات، فضلت الدول إلى حد كبير رعاية الفصائل المختلفة داخل الدولة التي تعاني من الحرب. ومع ذلك، بدأت الحكومات في اللجوء إلى المرتزقة لتعزيز قواتها.

ويمكن القول إن إيران كانت أكثر من استخدم قوات المرتزقة على نطاق واسع في المنطقة في السنوات القليلة الماضية. بالطبع، لا تستخدم طهران هذا المصطلح لوصف القوات الأجنبية التي تنشرها. ففي الثمانينات، ساعد الحرس الثوري الإسلامي في تطوير حزب الله في لبنان، ثم أنشأ ميليشيات شيعية مختلفة في العراق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مثل كتائب حزب الله.

AFP
مدرعة يُعتقد أنها تابعة لشركة "بلاك ووتر" الأمنية في العراق عام 2007. برز اسم بلاك ووتر مع احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وحصول الشركة على عقود أمنية في البلاد

وقامت إيران بتمويل وتدريب هذه القوات، لكن تسميتها بالمرتزقة في هذه المرحلة سيكون أمرا مبالغا فيه. ففي الواقع، يعتبر معظم الناس بأن هذه القوات تقاتل من أجل مصالحها الخاصة في لبنان والعراق على حد سواء، حتى وإن توافقت تلك المصالح مع مصالح طهران.

ولكن، عندما اندلعت الحرب في سوريا في عام 2011، نشرت طهران تلك القوات خارج بلدانها الأصلية لمساندة نظام بشار الأسد المحاصر. ويُعتقد أنه أرسل ما يصل مجموعه إلى 8000 جندي من حزب الله إلى سوريا بالإضافة إلى أكثر من 10,000 عراقي، انضموا إلى لواء أبو الفضل العباس المشكل حديثا. ومن الواضح أن عنصرا أيديولوجيا لعب دوره في هذا الأمر، إذ ذهب البعض إلى سوريا للدفاع عن الأضرحة الشيعية بالقرب من دمشق، وللحماية مما يرونه تهديدا للمجتمع الشيعي في سوريا. ولكن، كان هناك أيضا عنصر مالي. فالرجال الذين انضموا إلى هذه الجماعات وقاتلوا في الخارج كانوا في الغالب من خلفيات فقيرة وكانوا يتقاضون رواتب ثمينة، ووُعدوا، علاوة على ذلك، بمعاشات تقاعدية سخية في حالة وفاتهم، وكلها ممولة من طهران.

بدون هؤلاء المقاتلين الأجانب، كانت خسارة إيران في سوريا ستصل إلى الآلاف من جنودها، ومن المؤكد أن هذا الأمرسيثير ردود فعل داخلية عنيفة، وهو أمر كانت إيران ترغب في تجنبه بكل تأكيد

وظهر هذا المزيج من الحوافز المالية والأيديولوجية مرة أخرى في وقت لاحق في الحرب السورية، عندما أنشأت إيران لواءين جديدين، لواء فاطميون ولواء زينبيون. يتألف كل من هذين اللواءين من حوالي 10,000 جندي، مع أن التقديرات قد تختلف. كان هؤلاء في الغالب شيعة أفغان وباكستانيين يعيشون في إيران، وغالبا في مجتمعات للاجئين، دُرّبوا ومولوا من قبل طهران للقتال في سوريا.

وكما هو الحال مع حزب الله، كان هناك دافع ديني لهؤلاء المقاتلين، حيث أرسلوا في البداية لحراسة الأضرحة الشيعية في سوريا، ثم نُشروا فيما بعد في الجبهات الأمامية. ولكن، كان هناك حافز مالي أيضا، إذ وُعد الكثير منهم بالحصول على الجنسية الإيرانية مقابل خدماتهم، فضلا عن راتب لم يكن من الممكن أن يحصل عليه اللاجئون بطريقة أخرى. والأهم من ذلك، أن الدوافع الأيديولوجية لم تكن كافية لتحفيز هؤلاء الجنود على السفر إلى سوريا بشكل مستقل، بل كانوا بحاجة إلى حوافز مالية أيضا.

على الرغم من أن طهران لا ترغب في وصف هذه القوات بالمرتزقة، إلا أن منطق استخدام إيران لهم يتناسب مع النمط الذي لوحظ في أماكن أخرى. ففي حالة حزب الله، قدم مقاتلو الحركة مهارات قيمة يفتقر إليها الجيش الإيراني، مما ساعد في تدريب قوات الأسد على نوع حرب المدن التي طورتها خلال قتالها لإسرائيل. كما حد انتشار المقاتلين الشيعة العراقيين والأفغان والباكستانيين من عدد القتلى الإيرانيين في سوريا.

مرة أخرى، يصعب تحديد الأرقام، ولكن يُعتقد أن ما يقرب من 2300 جندي إيراني قتلوا في الحرب، مقابل 6400 مقاتل عراقي وأفغاني وباكستاني، وحوالي 2000 مقاتل من حزب الله. وبدون هؤلاء المقاتلين الأجانب، كانت خسارة إيران ستصل إلى نحو 10,000 ضحية. ومن المؤكد أن رقما كهذا سيثير ردود فعل داخلية عنيفة، وهو أمر كانت إيران ترغب في تجنبه بكل تأكيد.

على الرغم من أن هذه الجماعات السورية المعارضة المسلحة تحصل على رواتبها من تركيا، إلا أنه من الأفضل تسميتهم بالوكلاء بدلا من المرتزقة لأنهم ما زالوا سوريين يقاتلون في سوريا، حتى وإن كانوا يخدمون مصالح أنقرة

حرب بالوكالة

لكن إيران ليست الدولة الإقليمية الوحيدة التي تنشر أجانب لتعزيز قواتها الخاصة. فتركيا، تمتلك كإيران جيشا ثابتا ضخما قوامه أكثر من 700,000 جندي، وقد نشرته عدة مرات في الحرب السورية. إلا أن نشر القوات لم يكن هو القاعدة في هذا الصراع، إذ دعمت أنقرة في الغالب قوات محلية مختلفة.

وشمل ذلك تجنيد وتدريب مجموعة جديدة كليا، وهي الجيش الوطني السوري، للمساعدة في اجتزاء وإدارة جيوب موالية لتركيا في الشمال. ولكن، وعلى الرغم من أن هذه الجماعات تحصل على رواتبها من تركيا، إلا أنه من الأفضل تسميتهم بالوكلاء بدلا من المرتزقة لأنهم ما زالوا سوريين يقاتلون في سوريا، حتى وإن كانوا يخدمون مصالح أنقرة. وبكل الأحوال، استعارت تركيا فكرة طهران في استخدام القوات السورية لمتابعة مصالحها خارج سوريا.

ففي عام 2020، تدخلت تركيا في الحرب الأهلية الليبية الثانية إلى جانب حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. لكنها لم ترسل سوى حفنة من المستشارين من الجيش التركي، أما الآلاف الذين أرسلتهم إلى هناك كانوا بمعظمهم مرتزقة أجانب. وقدر تقرير لوزارة الدفاع الأمريكية أن 5000 من هؤلاء كانوا سوريين تم تجنيدهم من مناطق المتمردين الموالية لتركيا.

وأشارت تقارير مختلفة واردة من سوريا إلى وجود عنصر أيديولوجي آخر مؤثر هنا، حيث قيل للمقاتلين (زورا) أنهم ذاهبون إلى ليبيا لمحاربة تنظيم "داعش". لكن معظمهم كانوا مدفوعين أيضا بالرواتب التي وعدوا بها بالإضافة لإمكانية حصول أسرهم على معاش تقاعدي في حالة مقتلهم. وفي وقت لاحق من عام 2020، أرسلت تركيا ما يصل إلى 2500 مرتزق سوري إلى أذربيجان، لمساعدة باكو في استعادة ناغورنو كاراباخ من أرمينيا.

AFP
مقاتلون سوريون مدعومون من تركيا من "الفيلق الأول في لواء سمرقند" يشاركون في عرض عسكري في منطقة عفرين التي تسيطر عليها المعارضة شمال سوريا، في 23 نوفمبر 2022

إلا أن تركيا نفت هذه المرة إرسال أي من قواتها العسكرية الخاصة. وفي كل من ليبيا وأذربيجان، سمح المرتزقة لأنقرة بإبراز قوتها دون الاضطرار إلى المخاطرة بجيشها الإلزامي.

ومن الواضح أن استخدام السوريين هناك لم يكن لأسباب تتعلق بامتلاكهم مهارات عالية، إذ عانى السوريون من خسائر عالية – حوالي 800 وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان- بسبب افتقارهم للتدريب والتجهيز.

سيوفر تمرد قوات "فاغنر" دروسا لباقي الدول حول عدم تمكين القوات المرتزقة أكثر من اللازم

درس من نفوذ "فاغنر"

تستخدم الدول إذن المرتزقة، أو ما يشابههم، لأسباب مختلفة وبطرق مختلفة، ولكن من المرجح أنها جميعا تعتبر هذا التكتيك ناجحا.

إذ استطاع كل منهم توسيع نفوذه الإقليمي دون مواجهة معارضة محلية، الأمر الذي كان سيحصل لو أنهم أرسلوا – وربما خسروا- أعدادا كبيرة من قواتهم. وعلى هذا النحو، ستحجم هذه الدول عن التخلي عن خيار المرتزقة في المستقبل.

إذ على الرغم من شعور القلق الذي انتاب البعض بعد تمرد فاغنر، ستعتبر طهران وأنقرة أن الظروف مختلفة بما يكفي لعدم إثارة المخاوف من مواجهة تمرد قوات المرتزقة.

ولكن لم تمنح تلك الدول قواتها المرتزقة أيا من السلطة والقوة التي تراكمت لدى قوات فاغنر، لذلك، سيوفر تمرد قوات "فاغنر" دروسا لباقي الدول حول عدم تمكين القوات المرتزقة أكثر من اللازم، إلا أنه غالبا لن يؤدي إلى إعادة تقييم جدية حول جدوى استخدام المرتزقة في الشرق الأوسط. وتتمتع هذه الدول التي تستخدم المرتزقة باستقرار نسبي في وضعها الإقليمي الحالي بعد عقد من الاضطراب والصراعات العسكرية، وبالتالي فهي لا تحتاج إلى اللجوء إلى المرتزقة في الوقت الحالي. ومع ذلك، ففي حالة اندلاع صراعات جديدة وجر إحداها أو جميعها لتكون جزءا من هذه الصراعات، فمن المرجح أن يُنظر إلى المرتزقة على أنهم أداة قيمة.

font change

مقالات ذات صلة