في تفكيك محاولة "انقلاب" فاغنر في روسيا

كانت "مسيرة العدالة" التي قام بها بريغوجين في الأساس اختبار ضغط للنخبة العسكرية السياسية، وليس للروس العاديين

AFP
AFP

في تفكيك محاولة "انقلاب" فاغنر في روسيا

قال يفغيني بريغوجين، وهو يأمر قواته من مقاتلي فاغنر المتجهين إلى موسكو بالعودة على أعقابهم: "هي نتيجة طبيعية اليوم، فقد أبهجْنا الجميع." قد تبدو هذه الكلمات للوهلة الأولى كلمات ساخرة، سخيفة إذا ما قورنت بحجم الانتفاضة التي قادها، حيث أسقط مرتزقة فاغنر ست مروحيات عسكرية وطائرة مقاتلة واحدة، ما أسفر عن مقتل 13 طيارا. ومع ذلك، ربما تتوافق ملاحظته بالفعل مع الاستراتيجيات المألوفة التي يستخدمها الكرملين وتكتيكاته، من مثل تأخير خطابات فلاديمير بوتين المجدولة لتوليد الترقب، في كثير من الأحيان، وإلهاء المجتمع الروسي وتحويل انتباههم عن الصراع الدائر في أوكرانيا.

نظرة إلى آلية عمل النظام الروسية

على عكس الكرملين، كانت "مسيرة العدالة" التي قام بها بريغوجين في الأساس اختبار ضغط للنخبة العسكرية السياسية، وليس للروس العاديين. ولا يزال الروس، من المسؤولين الإقليميين والفيدراليين ورجال الأعمال الذين غادروا روسيا على عجل يوم السبت ومن منهم بقي، يناقشون ما حدث غير مصدقين.

وفي الوقت عينه، كان الجمهور الروسي يتابع الأحداث باهتمام – وإن كان باسترخاء –على هواتفهم الذكية، بينما هم يتنزهون في الحدائق أو خلال حفلات التخرج من المدارس.

الواضح أنه لم يكن لدى المواطنين الروس أي رغبة في الدفاع عن القيادة العسكرية السياسية، مثل وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف، اللذين كان بريغوجين يطالب بتسليمها في البداية.

ومع ذلك، لا يزال المواطنون غير مطمئنين فيما يتعلق بمستقبلهم – وخاصة أولئك الذين عاشوا خلال اضطرابات التسعينيات الذين كانوا يدركون جيدا أنهم هم من سيدفع على الأغلب الثمن الأعلى لأي اضطرابات سياسية، وليس النخبة.

لا يزال المواطنون غير مطمئنين فيما يتعلق بمستقبلهم – وخاصة أولئك الذين عاشوا خلال اضطرابات التسعينيات الذين كانوا يدركون جيدا أنهم هم من سيدفع على الأغلب الثمن الأعلى لأي اضطرابات سياسية، وليس النخبة

علاوة على ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي على الشبكات الاجتماعية ووسائل الإعلام المستقلة أن معظم المواطنين الروس يعتقدون أن الأحداث تم تنظيمها والتخطيط لها بطريقة أو بأخرى ويكرر معظم سكان العاصمة الروسية تعليقات من قبيل: "نحن لا نعرف الأكثر من 10٪ فقط من حقيقة ما يجري، وهذا، للأسف، هو دأب حكومتنا." ومن النظريات الشائعة أن بريغوجين كان، في الواقع، ينظم "الانقلاب" بناءً على أوامر فلاديمير بوتين. يبررون القرار بالقول إن بوتين لا يمكنه التخلص من كبار الضباط العسكريين والسياسيين الحاليين، بسبب العلاقات الرسمية وغير الرسمية التي شكلها معهم.

ولا يزال الكثيرون يتساءلون كيف تمكن بريغوجين من نقل العديد من الأرتال في ليلة واحدة من إقليم لوهانسك أوبلاست إلى اتجاهات مختلفة والوصول إلى مركز مدينة روستوف على الدون التي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة والسيطرة عليها ومنشآتها العسكرية بدون أي دليل واضح بالصور والفيديو من شهود العيان.

لا يزال الكثيرون يتساءلون كيف تمكن بريغوجين من نقل العديد من القوافل العسكرية في ليلة واحدة من إقليم لوهانسك إلى اتجاهات مختلفة والوصول إلى مركز مدينة  روستوف التي يبلغ تعداد سكانها مليون نسمة والسيطرة عليها ومنشآتها العسكرية بدون أي دليل واضح بالصور والفيديو من شهود العيان. والغريب حقا أن الصور الأولى للمرتزقة – التي التقطها صحفيون وشهود عيان – لم تظهر إلا في الصباح.

AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (وسط) يلتقي بكبار المسؤولين الأمنيين في البلاد في موسكو في 26 يونيو 2023

 

وحسب بعض التقارير، استطاعت أربعة أرتال فقط نقل أكثر من 1000 وحدة من معدات فاغنر عبر منطقة فورونيغ إلى موسكو. وعبر الرتل الأول (حوالي 350 مركبة) حدود منطقة فورونيغ مباشرة بعد منتصف ليل 24 يونيو/حزيران، ووصل الرتلان الثاني والثالث في الساعة الخامسة والسابعة صباحا على التوالي (حوالي 375 و 100 مركبة)، ثم عبر الرتل الرابع من المعدات عسكرية (212 مركبة) حدود المنطقة في الساعة 9 صباحا.

وفوق ذلك، كانت الظروف المحيطة بالمفاوضات تهدف إلى قمع التمرد، والعودة المدبرة على ما يبدو للمرتزقة إلى المعسكرات كما وصفها بريغوجين، ومشاركة الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو كوسيط، والاتفاق بشأن إقامة بريغوجين وبعض مقاتليه في بيلاروسيا، كل ذلك أدى إلى إثارة المزيد من الاستفسارات بدل تقديم الإيضاحات.

بل أثيرت تعليقات مفادها أنه بسبب هذه التحركات، تمكنت روسيا من إعادة تجميع قواتها بسرعة، وسحب مفارز القوات الشيشانية، التابعة للرئيس رمضان قديروف، بالأسلحة الثقيلة إلى الحدود مع روستوف وبلغورود، فضلا عن زيادة التهديد على القوات الأوكرانية في اتجاه كييف من أراضي بيلاروسيا.

ولكن إذا وضعنا هذه النظريات جانبا، فإن التفسير الأكثر منطقية هو أن بريغوجين كان يختبر حدوده بعد الخلاف مع بوتين حيث لم يكن الرجلان يتحدثان. في الواقع، كانت مجموعته المرتزقة مهددة بحلها بعد مرسوم رئاسي يقضي بتوقيع عقود للمقاتلين مع وزارة الدفاع.

وفقًا للمحللة السياسية تاتيانا ستانوفايا، من المحتمل أن يكون بريغوجين قد بالغ في تقدير حجمه، وفوجئ برد فعل بوتين وانتشار الجيش والحرس الوطني  كخط دفاع أول لوقف مسيرته نحو موسكو.

 

من المحتمل أن يكون بريغوجين قد بالغ في تقدير حجمه، وفوجئ برد فعل بوتين وانتشار الجيش والحرس الوطني كخط دفاع أول لوقف مسيرته نحو موسكو

وتعتقد ستانوفايا أن "كل ما كان يهتم به بعد صباح اليوم الرابع والعشرين هو أن يتمكن من الخروج حياً من لعبة أخطأت بشكل جذري بالنسبة له."

ومع ذلك، نجح بريغوجين في إجراء مسح شامل للنظام السياسي العسكري في يوم واحد: من تقييم قدرة المسؤولين الإقليميين وقدرة قوات الأمن الروسية على الوقوف في وجه قوة ساخطة نصلب عودها في التمرد، بالمقارنة مع حفنة من المعارضين العزل.

يتفق جميع الخبراء الروس المؤثّرون ذوو التأثير على أن "مسيرة" مرتزقة بريغوجين إلى موسكو ستؤدي إلى تغييرات في مركز القوة الروسي – بما في ذلك التعديلات التشريعية، وتعديلات الموظفين، والتغييرات داخل النخبة – وذلك اعتمادا على الولاء الواضح للرئيس واعتماداً على انحياز هذه الفرقة أو تلك إلى بريغوجين أو شويغو.

ومع ذلك، لن يحدث هذا الأمر على الفور لأنه من النادر أن يتخذ بوتين قرارات بأثر رجعي. ومع ذلك، لن يحدث ذلك مرّة واحدة، بالنظر إلى السمة المعروفة لفلاديمير بوتين، الذي لا يحب تلقي الضغط ولا يتماشى أبدا مع الظروف. وقد نشر المكتب الصحفي لوزارة الدفاع لقطات تظهر شويغو وهو يتفقد التجمع الغربي للقوات الروسية في أوكرانيا في 26 يونيو حزيران. ولكن هناك أسباب كافية للاعتقاد بأن هذه اللقطات تم تسجيلها مسبقًا وتوزيعها بناءً على أمر شويغو الشخصي من أجل إلغاء التكهنات حول استقالته الوشيكة.

 

Reuters
مقاتلو مجموعة مرتزقة فاغنر الخاصة في شارع بالقرب من مقر المنطقة العسكرية الجنوبية في مدينة روستوف، 24 يونيو 2023

 

نظرة إلى مشاريع فاغنر في الخارج

على الرغم من تصريحات المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بإسقاط التهم الموجهة إلى بريغوجين، فقد ذكرت وسائل الإعلام الروسية أن القضية الجنائية المتعلقة بتنظيم تمرد مسلح لم يتم إسقاطها بشكل قانوني، ولا تزال تخضع لتحقيق تُجريه دائرة التحقيق التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي. ولكن وفقا لمصادر مستقلة، فقد ظهرت هذه التقارير لسببين: أولهما تشجيع بريغوجين على عدم تأخير رحيله من روسيا (فوفقاً لبعض التقارير، فإنه وصل بالفعل إلى مينسك)، وثانيهما تعزيز سمعة سلطات التحقيق، التي تعاني من ضعف في مصداقيتها.

وتؤكد مصادر إعلامية في وزارة الدفاع أن قوات فاغنر ستُمنح الفرصة للاندماج في وكالات إنفاذ القانون الحالية التابعة لوزارة الدفاع والحرس الوطني الروسي، ولكن المجلس العسكري بأسره لن يظل على ما هو.

وفي غضون ذلك، استؤنفت أنشطة الشركات العسكرية الخاصة التابعة لفاغنر في مناطق مختلفة من روسيا - ما يقرب من 40 مدينة، بما في ذلك 16 مدينة يبلغ عدد سكانها مليون نسمة – وهي مستمرة في عمليات التجنيد كالمعتاد، حيث تُقدم رواتب أعلى من متوسط أجر الجنود المتعاقدين العسكريين. 

في واقع الأمر، يستطيع الكرملين تفكيك شبكة مراكز توظيف فاغنر دون تداعيات كبيرة. ويمكن أن يعمل الكرملين مباشرة مع وحدات المرتزقة في مناطق القتال في أوكرانيا، ولا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل موظفي فاغنر يدعمون قرار التمرد. ومع ذلك، فإن الوضع المتعلق بالمشاريع الخارجية يبقى أكثر تعقيدا.

لكن إدارة وجود ونفوذ فاغنر في الدول الأجنبية قد يكون أكثر صعوبة. لقد كان هيكل فاغنر المرن وسرعة اتخاذ القرار هما العاملان اللذان أتاحا لها أن تصبح قوة دافعة مهدت الطريق للوكالات الروسية الرسمية في الخارج وسمحت للسلطات المحلية بأخذ الأنشطة الروسية على محمل الجد. بادئ ذي بدء، نحن نتحدث عن العديد من مشاريع مجموعة فاغنر في إفريقيا. فعلى سبيل المثال، من المعروف أن اتفاقية إنشاء منشأة عسكرية في السودان قد أعدها في الأصل رجال بريغوجين.

ولحسن حظ الكرملين، لا يوجد حاليا عمليات قتالية نشطة في سوريا وليبيا، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يعزز من دور شركة فاغنر العسكرية الخاصة في هذين البلدين. وهكذا عملت وحدات فاغنر في ليبيا خلال العام الماضي كقوة احتياطية فحسب. لكن، وُجدت حالات في الماضي تعارضت فيها مصالح بريغوجين مع مصالح الكرملين، وأدت الإجراءات إلى خلل في التوازن الذي حاولت وزارة الخارجية الحفاظ عليه من خلال التفاعل مع مختلف القوى المتنافسة في ليبيا.

وظل وجود مرتزقة فاغنر في سوريا أيضا اسميا ومقتصرا على السيطرة على عدد قليل من المنشآت في حمص، والهياكل الإدارية في دمشق، واللاذقية. بالإضافة إلى الأفراد العسكريين الموجودين في سوريا، فإن مجموعات مرتزقة أخرى تابعة لوزارة الدفاع ولا علاقة لها ببريغوجين، تعمل منذ فترة طويلة.

لحسن حظ الكرملين، لا يوجد حاليا عمليات قتالية نشطة في سوريا وليبيا، وهو الأمر الذي كان من شأنه أن يعزز من دور شركة فاغنر العسكرية الخاصة في هذين البلدين

وبحسب بعض التقارير، فإن القرار الرسمي للجامعة العربية بإعادة عضوية دمشق في الجامعة جعل بريغوجين يفكر، في مايو/أيار 2023، بنقل وحدات مرتزقة إضافية إلى سوريا لإظهار نوايا الحفاظ على وجوده في سوريا على خلفية المشهد السياسي المتغير.

تشكل تصرفات بريغوجين المستقلة تهديدا للكرملين، داخل روسيا وخارجها. ولا تزال وزارة الدفاع تتمتع بنفوذ كبير على شركة فاغنر العسكرية الخاصة، لأن جميع الخدمات اللوجستية للمرتزقة تتمركز في منشآت روسية رسمية، وكان مركز عملياتهم في إفريقيا هو قاعدة حميميم الجوية في سوريا. فإذا أغلقت قاعدة حميميم أمام مرتزقته، فسيتعين على بريغوجين تنظيم عملياته الخارجية انطلاقا من بيلاروسيا.

من المهم ملاحظة أن ألكسندر لوكاشينكو - الذي واجه منذ وقت ليس ببعيد موجة خطيرة من الاحتجاجات - لن يرحب على الأرجح بتجمع جيش خاص يتصف بالجدية على أراضيه بقيادة بريغوجين، والذي لا يزال يحمل رغبة بأن يثبت للكرملين أنه مخطئ بخصوصه ولا يكتفي بطموحاته السياسية وحسب.

font change

مقالات ذات صلة