"سفاري البشر" في سراييفو... سياحة مظلمة وجريمة حرب تبحث عن "الاختصاص القضائي"

تقديم بلاغات في إيطاليا وعدة دول ينتمي إليها بعض المشتبه بتورطهم مثل إيطاليا وبلجيكا

أ ف ب
أ ف ب
مقاتل بوسني يطلق النار من نافذة مبنى في سراييفو خلال المعارك في 9 يونيو 1992

"سفاري البشر" في سراييفو... سياحة مظلمة وجريمة حرب تبحث عن "الاختصاص القضائي"

فتحت النيابة العامة بمدينة ميلانو الإيطالية تحقيقا بشأن ادعاءات بتورط سياح أثرياء من المدنيين، معظمهم من إيطاليا وبعض الدول الأوروبية الأخرى بالإضافة إلى الولايات المتحدة وروسيا، بالسفر إلى البوسنة والهرسك أثناء حرب البوسنة بين عامي (1992-1995) ودفع مبالغ مالية طائلة للمشاركة في "رحلات صيد للبشر"، نُظمت بمنطقة "تلال سراييفو" وإطلاق النار على السكان المدنيين المحاصرين في مدينة سراييفو، والتي كانت تحت سيطرة القوات البوسنية وتحاصرها الوحدات الصربية.

جاء ذلك في أعقاب تقديم بلاغات في إيطاليا وعدة دول ينتمي إليها بعض المشتبه بتورطهم مثل إيطاليا وبلجيكا، وقد ارتأت السلطات في كلا البلدين جدية البلاغات في ضوء الأدلة المقدمة ومن ثم فُتح التحقيق.

وهو ما يطرح عدة تساؤلات جوهرية، أهمها: ما المقصود بسياحة قنص البشر أو "سفاري البشر" كأحد أشكال "السياحة المظلمة"؟ ما المقصود بجرائم الحرب وفقا لأحكام القانون الدولي؟ هل ارتكاب مدنيين من غير أطراف النزاع المسلح لهذه الجرائم يجعل منها جريمة حرب مستقلة بذاتها، أم تعتبر ضمن جرائم الحرب للعسكريين الذين سمحوا له بالوجود في منطقة العمليات العسكرية؟ وبالتبعية لذلك من يتحمل المسؤولية الجنائية عن هذه الجرائم الجاني نفسه، أم العسكريون الذين سمحوا له بممارسة هذه الجرائم؟ هل يتحمل الوسطاء والشركات السياحية والدول المُسهِّلة مسؤولية جنائية كمساهمين أو مساعدين أو متواطئين في هذه الجرائم وفقا لقواعد القانون الإنساني الدولي؟ هل من الممكن تطبيق مبدأ "الاختصاص أو الولاية القضائية العالمية" على هذه الجرائم بوصفها جريمة حرب، أم إن هذه الجرائم تخضع لمبدأ "الاختصاص أو الولاية القضائية الإقليمية" للدول التي يحمل جنسيتها الجاني أو المجني عليهم؟ في حالة إذا ما اعتبرت هذه الجرائم من جرائم الحرب، هل لطول المدة ومرور أكثر من ثلاثين عاما، بين ارتكاب هذه الجرائم وتقديم بلاغات وشكاوى قضائية بشأنها أثر في سريان مبدأ عدم تقادم جرائم الحرب؟ أم من الممكن أن يستفيد المتهمون الأصليون بوصفهم مدنيين بالأساس بالتقادم الطويل في بعض النظم القانونية الجنائية ومنها القانون الإيطالي؟

تفكك وانهيار يوغوسلافيا

شهدت تسعينات القرن الماضي تفككا وانهيارا دمويا ليوغوسلافيا، خاصة بعد وفاة الزعيم الراحل جوزيف بروز تيتو، والذي ظل في السلطة من عام 1945 حتى وفاته عام 1980، خاصة بعد إقرار دستور عام 1974، الذي اعتمد نظاما خاصا لرئاسة الدولة، بحيث تمتد فترتها لمدة عام واحد على أساس التناوب بين قادة الجمهوريات والمقاطعات المتمتعة بالحكم الذاتي المكونة للاتحاد اليوغوسلافي، وقد أظهر ذلك النظام عدم فاعلية هذه الولايات الرئاسية قصيرة الأمد، والتي تركت فراغا جوهريا في السلطة استمر وجوده لمعظم ثمانينات القرن الماضي.

ومع مطلع التسعينات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك دول الكتلة الشرقية، وتنامي النزعات القومية بين شعوب وأعراق يوغوسلافيا، وتدهور العلاقات بين الجمهوريات الست المكونة للاتحاد اليوغوسلافي، وهي: صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، وأخيرا الجبل الأسود، بالإضافة إلى مقاطعتين كانتا تتمتعان بحكم ذاتي داخل جمهورية صربيا وهما: فويفودينا وكوسوفو. وطالبت كل من سلوفينيا وكرواتيا، والبوسنة والهرسك بالمزيد من الاستقلالية داخل الاتحاد، بينما سعت صربيا إلى تقوية السلطة الاتحادية، وما لبثت أن تطورت هذه المطالبات إلى الانفصال التام.

كان حصار مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك هو الفصل الأكثر دموية ووحشية ضمن حروب البلقان

في البداية سعت القوات المسلحة الرسمية ليوغوسلافيا، للحفاظ على وحدة الاتحاد بالكامل عن طريق القضاء على الحركات الانفصالية، ولكن تدريجيا أصبح الجيش تحت سيطرة حكومة سلوبودان ميلوسيفيتش الصربية، ونتيجة لذلك بدأ الجيش يفقد ولاء السلوفينيين والكروات وألبان كوسوفو والبوسنيين والمقدونيين، وأصبح فعليا جيشاً صربياً خالصاً، وتحول الهدف الحقيقي من استعادة يوغوسلافيا، إلى السعي لتأسيس "صربيا الكبرى" على أجزاء من كرواتيا والبوسنة.

وبالتالي زادت حدة الخطاب القومي من جميع الأطراف، الذي وصل ذروته بين يونيو/حزيران 1991 وأبريل/نيسان 1992، عندما أعلنت أربع جمهوريات الانفصال عن الاتحاد، في حين ظلت صربيا والجبل الأسود ضمن الاتحاد، ولم يحسم ذلك الانفصال مسألة "الإثنية الصربية" خارج صربيا والجبل الأسود، و"الإثنية الكرواتية" خارج كرواتيا، وبالتالي وقع الكثير من التوترات والحوادث العرقية في كرواتيا أولا، ثم في البوسنة والهرسك ذات التنوع العرقي المعقد.

تفاصيل وخلفية فضيحة "سفاري البشر"

قامت "حروب البلقان" أو "حروب يوغوسلافيا السابقة"، خلال الفترة بين عامي (1991-2001)، والتي وصُفت بأنها "أكثر صراعات أوروبا فتكا بعد الحرب العالمية الثانية"، وخلّفت خسائر فادحة في الأرواح وتدمير اقتصاد المنطقة لعقود، وشهدت ارتكاب جرائم الحرب، والإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية والاغتصاب. وكانت تلك الجرائم (خاصة المرتكبة منها في البوسنة) هي أول الجرائم الأوروبية التي يُحكم فيها بشكل رسمي منذ الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لذلك أسست الأمم المتحدة "المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة" (ICTY) للحكم في تلك الجرائم.

رويترز
صورة أرشيفية بتاريخ 8 مارس 1993، لأناس يهرعون للاحتماء أثناء مرورهم بمنطقة تتعرض لنيران قناصة صرب في العاصمة البوسنية المحاصرة سراييفو

كان حصار مدينة سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك هو الفصل الأكثر دموية ووحشية ضمن حروب البلقان، حين حاصرت القوات المسلحة الرسمية ليوغوسلافيا، بالاشتراك مع قوات جيش جمهورية صرب البوسنة، أحد الأقاليم المكونة لجمهورية البوسنة والهرسك، المنُفصل من جانب واحد كدولة غير معترف بها دوليا، ظهرت خلال فترة الحرب وأعلنت ولاءها لـ"صربيا الكبرى"، ويعتبر ذلك الحصار هو الأطول في تاريخ الحرب الحديثة، حيث استمر من أبريل/نيسان 1992 حتى فبراير/شباط 1996 بواقع 1425 يوما، وهو بهذا يكون أطول ثلاث مرات من حصار مدينة "ستالينغراد"، وأطول بسنة من حصار مدينة "لينينغراد" خلال الحرب العالمية الثانية، وأسفر عن مقتل أكثر من 11,000 مدني، بما في ذلك آلاف الأطفال، جراء القصف والقنص.

ما يثير الرعب بشكل خاص هو الادعاءات بتورط أثرياء أوروبيين وأميركيين في ما يُعرف بـ"سفاري البشر" أو "سياحة القنص"، حيث دفعوا مبالغ طائلة لقنص المدنيين كرياضة ترفيهية

لكن ما يثير الرعب بشكل خاص هو الادعاءات بتورط أثرياء أوروبيين وأميركيين في ما يُعرف بـ"سفاري البشر" أو "سياحة القنص"، حيث دفعوا مبالغ طائلة لقنص المدنيين كرياضة ترفيهية. هذه الفضيحة، التي عادت إلى الواجهة خلال عام 2022 بعد صدور فيلم وثائقي باسم "سفاري سراييفو" حول الموضوع ذاته الذي قام بإخراجه المخرج السلوفيني ميران زوبانيتش، أسفرت عن محاولة آنذاك لتحريك دعوى قضائية بهذا الشأن أمام السلطات المعنية بدولة البوسنة والهرسك، إلا أنه وبعد ثلاث سنوات تم حفظ البلاغ لعدم كفاية الأدلة، وهو ما دفع الصحافي الاستقصائي والروائي الإيطالي إيزيو جافازيني، والقاضي السابق جويدو سالفيني، وآخرين لتقديم بلاغات في يناير/كانون الثاني 2025 للنيابة العامة الإيطالية وعدة دول أوروبية من التي ينتمي إليها بعض المشتبه بتورطهم في تلك الأحداث مثل إيطاليا وبلجيكا، وقد جاء ذلك البلاغ استنادا لتوافر أدلة جديدة وتحديد دقيق لبعض من الأسماء المشتبه بتورطها في هذه الأحداث، وقد ارتأت السلطات في كلا البلدين جدية البلاغات في ضوء الأدلة المقدمة ومن ثم فُتح التحقيق في مدينة ميلانو في نوفمبر/تشرين الثاني 2025.

ووفقا للأدلة التي قدمها إيزيو جافازيني، ومن بينها: وثائق مالية تثبت التحويلات البنكية، وأجزاء من أفلام وثائقية تصور هذه الرحلات الوحشية، كذلك شهادات لبعض جنود صرب سابقين، أن هؤلاء السياح كانوا من الأثرياء فاحشي الثراء المغرمين بالأسلحة، معظمهم من إيطاليا، وأنهم دفعوا حوالي 90 ألف دولار أميركي لكل فرد للمشاركة في هذه الرحلات خلال حصار سراييفو بين عامي (1992-1995)، حيث كانوا يُنقلون من مدينة تربيستي الإيطالية إلى بلغراد عاصمة صربيا، ثم يصلون إلى المنصات المخصصة للقنص بالتلال المحيطة بسراييفو التي كانت تسيطر عليها القوات الصربية، وهناك كانوا يرتدون ملابس عسكرية ويتلقون تعليمات حول كيفية التصويب على الأهداف المدنية، ثم يتم تزويدهم ببنادق قنص وكان يُسمح لهم بإطلاق النار على المدنيين العزل في الشوارع، كما لو كانوا في رحلة صيد ترفيهية. ومن اللافت للنظر أن مصاريف إضافية كانت تُدفع مقابل قنص الأطفال أو النساء، بينما كان قنص كبار السن مجانا في بعض الحالات. وكان من أكثر الأدلة الدامغة التي قدمها جافازيني شهادات لبعض الجنود الأميركيين وأهمها شهادة جندي مشاة البحرية الأميركية المتقاعد جون غوردن الذي أدلى بشهادته بشكل رسمي ضمن إحدى محاكمات المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) الخاصة بمحاكمة الجنرال الصربي دراغومير ميلوسيفيتش في لاهاي بهولندا خلال عام 2007، والتي أكد فيها على الوقائع والأحداث ذاتها بشكل يكاد يتطابق مع ما ورد من إفادات وأدلة في الفيلم والوثائقي "سفاري سراييفو" عام 2022.

قد تتفرع من مسؤولية المدنيين من غير أطراف النزاع، مسؤولية جنائية تابعة على العسكريين أو القادة الذين سمحوا لهم بالوجود والمشاركة في منطقة العمليات العسكرية

تعرف "السياحة المظلمة" (Dark Tourism) أو "السياحة السوداء" أو "سياحة المأساة"، بأنها السياحة التي تشمل زيارة الأماكن المرتبطة بالموت، والمعاناة والمآسي الإنسانية، والفظائع التاريخية القديمة أو الحديثة، مثل زيارة المتاحف التذكارية للإبادة الجماعية أو معسكرات الاعتقال، أو زيارة ساحات المعارك والحروب والمجازر الجماعية أو المواقع التي شهدت كوارث طبيعية أو هجمات إرهابية، وذلك بهدف الاطلاع على وجه المأساة الإنسانية أو الوجه المقيت والبشع للإنسان.

ما المقصود بالسياحة المظلمة وسفاري البشر؟

أما مصطلح "سياحة قنص البشر" أو "سفاري البشر" فهو شكل متطرف وغير قانوني وغير أخلاقي من هذه السياحة المظلمة. يُقصد به تيسير أو تنظيم سفر مدنيين من غير أطراف النزاع المسلح إلى مناطق صراع أو عمليات عسكرية نشطة أو مناطق محتلة بهدف المشاركة في أعمال القتل أو القنص أو التعذيب أو الاستغلال غير المشروع لأشخاص محميين (مدنيين أو أسرى حرب) تحت غطاء "تجربة" أو "مغامرة" سياحية. هذا الشكل من الأفعال يُعتبر انتهاكا جسيما لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، بغض النظر عن مدى جواز تكييفه أساسا كسياحة.

أ ف ب
جندي من القوات الخاصة البوسنية يردّ على إطلاق النار في 6 أبريل 1992 وسط مدينة سراييفو، بينما كان هو ومدنيون آخرون يتعرضون لنيران قناصة صرب

تُعرَّف "جرائم الحرب" (War Crimes) وفقا للقانون الدولي، وحسبما عرفه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بأنها "الانتهاكات الجسيمة لقوانين وأعراف الحرب المعمول بها في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية".

... وبجرائم الحرب وفقا لأحكام القانون الدولي؟

وتتضمن هذه الجرائم فئتين رئيستين: الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، والانتهاكات الخطيرة الأخرى لقوانين وأعراف الحرب. وتشمل الأمثلة على ذلك: القتل العمد، التعذيب أو المعاملة غير الإنسانية، إحداث معاناة أو إصابة جسيمة، تدمير الممتلكات على نحو غير مشروع وتعسفي، أخذ رهائن، تعمُّد توجيه هجمات ضد المدنيين أو الأعيان المدنية، الهجوم على الأفراد المشاركين في مهام حفظ السلام أو المساعدة الإنسانية، واستخدام أسلحة محظورة. والأساس في تكييف الفعل كجريمة حرب هو ارتكابه في سياق نزاع مسلح وله ارتباط وثيق بهذا النزاع.

المسؤولية الجنائية للمدنيين

مسؤولية المدنيين من غير أطراف النزاع: تعتبر الجرائم التي ترتكب من هذه الفئة، ومنهم في هذه الحالة سياح "سفاري البشر"، من قبيل جرائم الحرب، إلا أنها تعد جريمة حرب مستقلة بذاتها خارج الإطار القانوني لهذا النوع من الجرائم، بل تعتبر كذلك لكونها ارتكبت في سياق نزاع مسلح وشكلت انتهاكا لأحكام القانون الدولي الإنساني، ومن ثم يعتبر هذا المدني مُشارِكا مباشرا في الأعمال العدائية أو مرتكبا لجريمة حرب، ويتحمل المسؤولية الجنائية عن هذه الجرائم في المقام الأول الجاني نفسه (المدني) بطبيعة الحال، إعمالا لمبدأ المسؤولية الجنائية الفردية المعمول به في القانون الجنائي الدولي.

مسؤولية العسكريين أو القادة: قد تتفرع من مسؤولية المدنيين من غير أطراف النزاع، مسؤولية جنائية تابعة على العسكريين أو القادة الذين سمحوا لهم بالوجود والمشاركة في منطقة العمليات العسكرية، ويمكن تكييف هذه المسؤولية على أساس المساهمة أو التحريض أو المساعدة أو التيسير في ارتكاب الجريمة، أو على أساس "المسؤولية السلبية الجنائية"، في حالة علمهم بهذه الجرائم وامتناعهم عن اتخاذ الإجراءات والتدابير المعقولة والمتاحة لمنع أو عرقلة ارتكاب هذه الجرائم.

مسؤولية الوسطاء والشركات السياحية والمُسهِّلين: يمكن أن يتحمل الوسطاء، والشركات السياحية، والدول المُسهِّلة مسؤولية جنائية أو دولية (حسب الكيان) كمساهمين، أو مساعدين، أو متواطئين في هذه الجرائم وفقا لقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، ويمكن مقاضاة الأفراد الذين يمثلون هذه الكيانات (مديرين، منظمين، وسطاء) على أساس المساهمة في الجريمة (كـالمساعدة والتحريض أو التخطيط)، إذا ثبت أنهم قاموا بتسهيل أو تيسير ارتكاب هذه جرائم عمدا، مقابل منفعة مادية.

يعتبر مبدأ عدم تقادم جرائم الحرب من المبادئ الراسخة في القانون الدولي الإنساني، أخصها "اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية" لعام 1968

بالنظر إلى خطورة هذه الجرائم، كجرائم حرب أو الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، فمن الممكن تطبيق "الاختصاص العالمي" (Universal Jurisdiction)، بما مؤداه إمكانية محاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية أمام المحكمة الجنائية الدولية، أو أي دولة تأخذ بهذا المبدأ وتطبقه في نظامها القانوني، بغض النظر عن مكان ارتكاب الجريمة أو جنسية الجاني أو المجني عليه، بهدف منع إفلات مرتكبي هذه الفظائع من العقاب.

ومن الممكن تطبيق الاختصاص الوطني التقليدي، وفقا لأحد المبدأين، وهما "الاختصاص الإقليمي" (Territorial Jurisdiction) ويقصد به محاكمة المتهمين وفقا لإقليم الدولة التي ارتكبت فيها الجريمة، و"الاختصاص الشخصي" (Personal Jurisdiction) وفقا لجنسية المتهم أو المجني عليهم.

هل تسقط جرائم الحرب بالتقادم؟

يعتبر مبدأ عدم تقادم جرائم الحرب من المبادئ الراسخة في القانون الدولي الإنساني، أخصها "اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية" لعام 1968، والتي أصبحت جزءا من النسيج القانوني في دساتير ونظم قانونية وطنية عديدة. لذلك، فإن مرور أكثر من ثلاثين عاما بين ارتكاب جريمة "سفاري البشر" وتقديم بلاغات وشكاوى بشأنها لا يؤثر على سريان هذا المبدأ، ولا تسقط الدعوى الجنائية أو العقوبة بمرور الزمن.

ولا يستفيد المدنيون المتهمون بهذه الجرائم، حتى لو كانوا مدنيين بالأساس، بـالتقادم الطويل المنصوص عليه في بعض النظم القانونية الجنائية الوطنية (مثل القانون الإيطالي الذي كان يطبق التقادم في السابق على بعض الجرائم الخطيرة قبل تعديلات قانونية)، طالما أن الفعل المُرتكب يُكيَّف دوليا ووطنيا كـجريمة حرب، إذ إن القانون الدولي الجنائي يسمو على الأحكام الوطنية المتعلقة بالتقادم في مثل هذه الحالات لضمان مكافحة الإفلات من العقاب عن الجرائم ضد الإنسانية.

font change