صعود طبقة "الأثرياء الجدد" في زمن الذكاء الاصطناعي

الثورة الرقمية في عالم الثروة

صعود طبقة "الأثرياء الجدد" في زمن الذكاء الاصطناعي

لم يكن الأميركي وقطب النفط جون روكفلر مجرد رجل صنع ثروة، بل شكل الحد الفاصل الذي انشطرت عنده فكرة الثراء إلى ما قبل وما بعد. فمع روكفلر ظهر للمرة الاولى في التاريخ الحديث لقبٌ لم يعرفه العالم من قبل: الملياردير.

روكفلر شخصية محورية في تاريخ الأعمال الخيرية والصناعية الأميركية. ولد في ظروف متواضعة عام 1839، وبدأ حياته المهنية كمحاسب قبل أن يؤسس شركة "ستاندرد أويل" عام 1870. ومن خلال التخطيط الدقيق والاستحواذات العديدة، سيطرت شركته على صناعة النفط المزدهرة في الولايات المتحدة، مما جعله يمتلك احتكارا شبه كامل لعمليات التكرير والنقل. في عام 1916، تم الإبلاغ رسميا عن ثروته التي تخطت حاجز المليار دولار.

على درب روكفلر، سار العشرات من جامعي الثروة المليارية، منهم من عمل مثله في مجال النفط، فيما عمل آخرون في مجال البناء والتشييد، وفضل غيرهم العمل في مجال البورصات العالمية والبنوك.

لكن، وفي العقد الأخير، شهد العالم تحولا جذريا في طريقة تكوين الثروات. فبعدما اعتادت البشرية أن تكون قصص المليارديرات مرتبطة بالعقارات أو البنوك أو النفط، فإن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة وعالم التكنولوجيا الواسع تخلق نوعا جديدا من الثروة، يعتمد على البيانات والخوارزميات والابتكار الرقمي.

لم يقتصر هذا التحول على زيادة الأرقام في حسابات المصارف، بل غيّر شكل الاقتصاد العالمي، وأعاد تعريف معنى أن تكون "رجل أعمال ناجحا" في القرن الحادي والعشرين.

نمو هائل

يهيمن المليارديرات الحاليون في قطاع التكنولوجيا على المشهد الاقتصادي العالمي بثروات تضاهي موازنات دول بأكملها، وقد شهدت ثرواتهم نموا هائلا ومفاجئا في الآونة الأخيرة بفضل الطفرة التي يقودها الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية.

ويبرز إيلون ماسك كأغنى ملياردير في العالم حاليا، حيث تشمل إمبراطوريته شركات رائدة مثل "تسلا" للسيارات الكهربائية و"سبيس أكس" لاستكشاف الفضاء، بينما رسخ جيف بيزوس مؤسس "أمازون" مكانته من خلال عملاق التجارة الإلكترونية. وفي قلب ثورة الذكاء الاصطناعي، نجد لاري بيدج وسيرجي برين مؤسسي " ألفابت"، الشركة الأم لـ"غوغل"، اللذين جنيا ثروات ضخمة من هيمنة شركتهما على سوق البحث والخدمات السحابية.

ارتفع عدد المليارديرات بنسبة 8.8% من 2682 في عام 2024 إلى ما يقرب من 2919 حول العالم، ويتصدر المليارديرات في الولايات المتحدة ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ قائمة المستثمرين هذا العام

ويضاف إليهم مارك زوكربيرغ، مؤسس شركة "ميتا"، الذي يركز حاليا على الميتافيرس والذكاء الاصطناعي، وجنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، الذي أصبح وجه النمو الأسرع في الثروة بفضل الطلب غير المسبوق على معالجات الذكاء الاصطناعي الخاصة بشركته. كما يضم المشهد أيضا قامات مثل لاري إليسون من "أوراكل"، وستيف بالمر ومايكل ديل وبيل غيتس من عمالقة الحوسبة التقليدية، مما يشكل مجمعا للقوة المالية والابتكار التكنولوجي يعيد تشكيل مستقبل الصناعة والاقتصاد العالمي.

ووصلت ثروات أغنى مجموعة في العالم إلى رقم قياسي بلغ 15.8 تريليون دولار في عام 2025، وتلقى هذا الرقم الهائل دفعة قوية بفضل تدفق عدد جديد من المليارديرات العصاميين، بعدما تجاوز عدد المنضمين الى نادي أصحاب الثروة الخيالية التي تتجاوز حاجز المليار دولار، 190 شخصا هذا العام فقط ليضيفوا 386.5 مليار دولار إلى صافي ثرواتهم، مسجلين بذلك ثاني أعلى زيادة سنوية تسجلها التقارير على الإطلاق.

ثروات النساء

في المجمل، ارتفع عدد المليارديرات بنسبة 8.8% من 2682 في عام 2024 إلى ما يقرب من 2919 حول العالم، ويتصدر المليارديرات في الولايات المتحدة ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ قائمة المستثمرين هذا العام. وبينما شهد المهتمون بالتكنولوجيا نموا في ثرواتهم بنسبة 23.8%، حقق المهتمون بالجانب الاستهلاكي نجاحا أقل، حيث زادت صافي ثرواتهم بنسبة 5.3% فقط. فيما واجه سوق التجزئة بعض الصعوبات هذا العام، لا سيما مع تباطؤ سوق السلع الفاخرة بشكل عام، لكنه لا يزال القطاع الأكبر بقيمة 3.1 تريليون دولار. واحتلت الثروة الصناعية المركز الأول من حيث النمو الأسرع، بزيادة قدرها 27.1% ليصل إجماليها إلى 1.7 تريليون دولار. كما حافظت أميركا الشمالية على مكانتها كأفضل وجهة استثمارية هذا العام، حيث أعلن 63% من المليارديرات الذين شملهم الاستطلاع أنها منطقتهم المفضلة لاستثمار أموالهم، على الرغم من تقلبات السوق.

AFP
إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة "إكس" (تويتر سابقا)، يرسم قلبا بيديه خلال اجتماع "أتريو" السياسي الذي نظمه نشطاء شباب من حزب "إخوة إيطاليا" اليميني الإيطالي

وعلى وجه الخصوص، ارتفعت ثروات النساء إلى متوسط 5.2 مليار دولار، بزيادة قدرها 8.4%. في الوقت نفسه، نمت ثروات الرجال بنسبة 3.2%، ليصل متوسطها إلى 5.4 مليار دولار. وعلى الرغم من وجود 374 مليارديرة فقط، مقارنة بـ 2545 مليارديرا من الرجال، فقد تفوقت المجموعة على نظرائها من الرجال في تراكم الثروة لأربع سنوات متتالية خلال السنوات الأربع الماضية.

يمكن القول إن ثروة المليارديرات الجدد اليوم ليست مجرد حصيلة للمنتجات التقليدية أو العقارات، بل هي ثروة رقمية متجذرة في البرمجيات، والمعالجات، والخوارزميات، وبيانات المستخدمين

في الحديث عن العائلات، تم تنفيذ العديد من خطط الخلافة أو الوراثة في عام 2025 أيضا. في الواقع، تزايد انتقال الثروات، حيث حقق 91 وارثا حول العالم رقما قياسيا قدره 297.8 مليار دولار هذا العام، بزيادة قدرها 36% عن أرقام عام 2024. ويدير الآن نحو 860 مليارديرا متعددي الأجيال أصولا بقيمة 4.7 تريليون دولار، مقارنة بـ 805 أشخاص فقط يشرفون على 4.1 تريليون دولار في العام السابق.

وقد هاجر العديد من المليارديرات على مدار العام أيضا، حيث أفاد 36% منهم أنهم انتقلوا مرة واحدة على الأقل في عام 2025 لأهداف متنوعة من ضمنها تحسن جودة الحياة، والمخاوف الجيوسياسية الرئيسة، والقدرة على تنظيم شؤونهم الضريبية بكفاءة أكبر. وتسهل بعض الدول على المليارديرات خوض هذه التجربة. فعلى سبيل المثل، أصبح الانتقال إلى نيوزيلندا أسهل بكثير أخيرا بالنسبة الى الأثرياء الأميركيين الراغبين في الهروب من صعوبات الحياة في الولايات المتحدة. وهناك العديد من التأشيرات الذهبية الأخرى التي يمكن المليارديرات الاطلاع عليها أيضا، إذا قرروا الانتقال دوليا في عام 2026.

جيل جديد

في المجمل، يمكن القول إن ثروة المليارديرات الجدد اليوم ليست مجرد حصيلة للمنتجات التقليدية أو العقارات، بل هي ثروة رقمية متجذرة في البرمجيات، والمعالجات، والخوارزميات، وبيانات المستخدمين. من أبرز الأمثلة على ذلك جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا"، الذي شهدت ثروته ارتفاعا مذهلا خلال طفرة الذكاء الاصطناعي، بفضل الطلب العالمي المتصاعد على بطاقات الرسومات ووحدات المعالجة المخصصة لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.

رويترز
الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" جينسن هوانغ يلقي كلمة في معرض CES 2025

الى جانب الأسماء اللامعة المرتبطة مباشرة بثورة الذكاء الاصطناعي، برز جيل جديد من المليارديرات، يشكل أصحاب المشاريع الذاتية الغالبية الساحقة منهم، إذ يمثلون نحو 70% من المليارديرات الجدد، وقد تنوعت مصادر ثرواتهم بين التكنولوجيا والبرمجيات، من مبرمجين ومؤسسي شركات ناشئة في مجالات الذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية وتحليل البيانات. ومن العلوم الحيوية، قدّم رواد مثل بن لام، مؤسس شركة "كولوسول" لإحياء الأنواع المنقرضة، نموذجا جديدا لثروة تنبت من حدود العلم نفسه، وصولا إلى القطاع الغذائي والصناعات الاستهلاكية حيث صنع الأخوان تشانغ هونغتشاو و"هونغفو، مؤسسا "ماكسيو أيس كريم أند تي" واحدة من أكثر القصص المالية شعبية في الصين. في المقابل، فإن البقية جمعوا ثرواتهم عبر الميراث، من بينهم 15 فردا ينتمون إلى عائلتين صناعيتين تعملان في قطاع الأدوية بألمانيا، وهو ما يعكس أن المشهد العالمي للثروة لا يزال يتأرجح بين رأس مال يصنع بالابتكار وآخر يسلم عبر العائلات، غير أن الاتجاه الواضح اليوم يشير إلى أن موجة الابتكار الرقمي هي القوة الأكثر قدرة على صناعة التأثير وإعادة تعريف حدود الثراء في عصرنا.

يمثل صعود الثروات القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة نقلة نوعية في تاريخ الاقتصاد العالمي، فهذه القطاعات لا تعتمد على الموارد المادية المحدودة، بل على الابتكار والقدرة على تحويل الأفكار إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية

أحدثت الطفرة التكنولوجية تحولا يتجاوز مجرد إنتاج المزيد من المليارديرات، إذ أعادت صوغ بنية الاقتصاد العالمي والقطاعات الاستثمارية برمتها. فارتفاع أسهم شركات الذكاء الاصطناعي دفع بقيمة بعض الأسهم إلى الصعود الجماعي بنسبة 25% خلال عام واحد، وأشعل موجة من الاستثمارات المحلية والأجنبية في الشركات الناشئة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، وفي الوقت نفسه وسّع الهوة بين الأثرياء وبقية الاقتصاد، لأن جزءا كبيرا من الأرباح يولد اليوم من عالم الأسهم وليس من الإنتاج المادي. وبينما تتجه البوصلة الاقتصادية نحو المستقبل، تترسخ ملامح اقتصاد المعرفة حيث تتحول البيانات والكفاءات التقنية إلى الموارد الحقيقية للعصر، متقدمة على رأس المال التقليدي والمواد الخام بوصفها الركيزة الأهم للقوة الاقتصادية الجديدة.

من ناحية، يمثل صعود الثروات القائمة على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة نقلة نوعية في تاريخ الاقتصاد العالمي. فهذه القطاعات لا تعتمد على الموارد المادية المحدودة، بل على الابتكار والقدرة على تحويل الأفكار إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية. ومع كل خوارزمية تبتكر أو بنية تحتية رقمية تتطور، تتولد فرص اقتصادية جديدة تمتد من تحسين الإنتاجية إلى خلق أسواق كاملة لم تكن موجودة من قبل. هذا النوع من الثروة يعكس قدرة البشرية على مضاعفة إمكاناتها خارج القيود التقليدية للطاقة والمعادن والزراعة والصناعة الثقيلة، ويقود إلى توسع أسرع في الوظائف العالية القيمة، ويحفز الاستثمارات في البحث العلمي، ويمنح الاقتصادات الطموحة فرصة للقفز فوق مراحل طويلة من التطور الصناعي.

توازن دقيق

لكن في المقابل، يحمل هذا النمو المتسارع أخطارا لا يمكن تجاهلها. فالثروة التي تتولد بسرعة ومن قطاعات تعتمد على التكنولوجيا المتقدمة، تخلق فجوة كبيرة بين من يمتلك المعرفة والقدرة على دخول هذا العالم، وبين بقية المجتمع الذي يعتمد على قطاعات تقليدية أبطأ نموا أو أكثر هشاشة. كما أن الربح القائم على المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي، قد يترك الاقتصادات أقل استقرارا، إذ يمكن تغييرات صغيرة في البرمجيات أو هيمنة شركة واحدة، أن تعيد تشكيل سوق كاملة بين ليلة وضحاها، مما يزيد أخطار الاحتكار وتركيز الثروة في أيدي قلة. إضافة إلى ذلك، فإن اعتماد الثروة على البيانات والخوارزميات يطرح أسئلة أخلاقية حول الخصوصية والشفافية والتلاعب بالمعلومات، وهي قضايا قد لا تكون موجودة بالحدة نفسها في القطاعات التقليدية.

يتطلب هذا التحول توازنا دقيقا بين تشجيع الابتكار وصناعة الثروة الجديدة، وبين حماية المجتمع من التفاوتات الحادة والاختلالات التي قد تنتج من اقتصاد يعتمد على المعرفة والتقنيات المتقدمة. فالذكاء الاصطناعي قادر على تعزيز رفاه البشرية بقدر ما هو قادر على تعميق الفجوة بين طبقاتها—والفارق الوحيد هو كيفية إدارة هذه القوة الجديدة، ووضع الأطر التي تجعلها محركا للعدالة والتنمية الشاملة لا مجرد وقود لتراكم الثروات في القمة.

على الرغم من أن المليارديرات الجدد في عالم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي يعتلون قمة هرم الثروة العالمية بسرعة غير مسبوقة، إلا أن هذه الثروة الرقمية الهائلة لا تأتي بلا أثمان ولا دون تحديات معقدة تتداخل فيها السياسة والاقتصاد والأمن والاعتبارات الأخلاقية. فالبيئة التي تنتج فيها الثروة المعتمدة على البيانات والخوارزميات، تختلف جذريا عن بيئة الصناعات التقليدية، مما يجعل هذه الفئة من أصحاب المليارات أكثر عرضة لهزات مفاجئة ومسؤوليات ثقيلة، تعيد تعريف معنى النفوذ في العصر الرقمي.

AFP
إيلون ماسك، الرئيس التنفيذي لشركة "إكس" (تويتر سابقا)، يرسم قلبا بيديه خلال اجتماع "أتريو" السياسي الذي نظمه نشطاء شباب من حزب "إخوة إيطاليا" اليميني الإيطالي

يتمثل أول تلك التحديات في التقلبات السوقية التي يمكن أن تغير شكل الثروة بين ليلة وضحاها. فالثروات الرقمية تعتمد بشكل كبير على القيمة السوقية لأسهم شركات التكنولوجيا، وهي في طبيعتها قطاعات حساسة لأي تغير في سياسات الفائدة، أو تحولات الثقة، أو قرارات تنظيمية بسيطة. بينما تستند الثروة التقليدية غالبا إلى أصول مادية أو موارد طبيعية ذات قيمة مستقرة نسبيا، فإن الثروة القائمة على البرمجيات والخدمات السحابية تعتمد على توقعات مستقبلية أكثر من اعتمادها على أصول ملموسة، مما يجعلها عرضة للصعود الحاد والانهيار المفاجئ. هكذا، يجد الملياردير الرقمي نفسه مرتبطا بأسواق شديدة الحيوية، قد تضاعف ثروته في عام، وقد تنتقص منها في أسبوع واحد نتيجة تقارير أرباح سلبية، أو تحديث تقني فاشل، أو منافس جديد يدخل بخوارزمية تتفوق على الأخرى.

التحدي الأكثر حساسية هو المسؤولية الأخلاقية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الثروة الرقمية. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة اقتصادية، بل قوة اجتماعية تعيد رسم شكل الوظائف، وأنماط العمل، والخصوصية، وحتى علاقات البشر بعضهم ببعض

إلى جانب الهشاشة السوقية، يبرز تحد لا يقل خطورة، هو الأمن السيبراني. فالثروة الرقمية ليست فقط أرقاما في البورصة، بل هي بنية من البيانات، والأنظمة، والخوارزميات، والمعلومات الحساسة التي تعد شريان حياة الشركات التقنية. اختراق واحد متقن يمكن أن يسرب بيانات المستخدمين، أو يعطل أنظمة التشغيل، أو يكشف أسرار الشركات، وهو ما ينعكس فورا على القيمة السوقية ويهدد سمعة الشركة واستمراريتها. وهذا يعني أن المليارديرات الجدد مطالبون دائما بالاستثمار بكثافة في أمنهم الرقمي، ليس فقط على مستوى الشركات، بل حتى على المستوى الشخصي، إذ إن استهدافهم أصبح جزءا من المشهد الجديد للصراعات المعلوماتية، سواء من قبل قراصنة، أو منافسين، أو جهات سياسية.

تحديات حساسة

كما يواجه الملياردير الرقمي ضغطا اجتماعيا وسياسيا متزايدا بحكم أن ثروته تنبع من قطاع شديد الحساسية: التكنولوجيا. فالذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة، والخدمات الرقمية، أصبحت جزءا من الأمن القومي للدول، مما يجعل أصحابها في مرمى التنظيمات الحكومية والأنظمة القانونية. الحكومات تفرض قيودا على الخصوصية، والتحكم في البيانات، ومنع الاحتكار، وتقنين الذكاء الاصطناعي، وكل هذه السياسات يمكن أن تعيد تشكيل مسار الشركات وثروات مؤسسيها. كما أن المجتمع بات أكثر وعيا بتأثير التكنولوجيا على حياته اليومية، مما يجعل المليارديرات عرضة للنقد الشعبي، والاتهام باحتكار المستقبل، أو التحكم في مصادر المعرفة، أو التأثير في مسارات الديمقراطية عبر المنصات الرقمية. وبذلك يتحول الملياردير من مجرد رجل أعمال ناجح إلى لاعب سياسي غير معلن، تراقب خطواته الحكومات، ويناقش المجتمع كل قرار يتخذه.

أما التحدي الأكثر حساسية فهو المسؤولية الأخلاقية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الثروة الرقمية. فالذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة اقتصادية، بل قوة اجتماعية تعيد رسم شكل الوظائف، وأنماط العمل، والخصوصية، وحتى علاقات البشر بعضهم ببعض. ومع انتشار الأتمتة، وتحول الكثير من الوظائف البشرية إلى مهام خوارزمية، تطرح أسئلة جوهرية حول دور المليارديرات في إدارة هذا التحول، فهل عليهم مسؤولية حماية الوظائف؟ وضمان انتقال عادل للعمال؟ وتوفير بدائل تعليمية؟ وهل يملكون الحق في جمع بيانات الملايين؟ وكيف يمكنهم ضمان عدم إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي في المراقبة أو التلاعب أو التحيز؟

تجعل هذه الأسئلة الثروة الرقمية محاطة بمنطقة أخلاقية معقدة لم يسبق أن واجهتها الثروات التقليدية. فالملياردير الصناعي القديم كان مسؤولا عن مصانع وموظفين وأجور، أما الملياردير الرقمي فهو مسؤول – بدرجة أو بأخرى – عن مستقبل البشر في عصر الخوارزميات، وعن شكل العالم الذي ستصنعه تقنياته.

font change

مقالات ذات صلة