بارك تشان ووك يعود بفيلم يهجو الرأسمالية المتوحشة وهيمنة الآلة

"لا خيار آخر" يروي قصة تحول موظف عادي إلى قاتل متسلسل

Neon
Neon
لقطات من فيلم"لا خيار آخر"

بارك تشان ووك يعود بفيلم يهجو الرأسمالية المتوحشة وهيمنة الآلة

"تنمو ألذ الأشياء فوق القذارة"، يخبر مان سو ابن زوجته سي ون بهذا الأمر بعد أن تدفن العائلة مجموعة من هواتف "آيفون" التي سرقها الأخير حتى تخبئ العائلة جريمة ابنها. بعد مشاهدة عمل المخرج والكاتب بارك تشان ووك الأخير، "لا خيار آخر" (سُوّق بالإنكليزية تحت عنوان No Other Choice) ، تترسخ هذه الفكرة، فكرة "النمو فوق القذارة"، تلخيصا لعملية الارتقاء في المجتمع من البدايات المتواضعة وتحدي الظروف القاهرة الكفيلة تحطيم أعتى الرجال.

يُطرد بطل الفيلم من وظيفته في معمل الورق بعدما أمضى قرابة ربع قرن في الخدمة، وبعد أن تمر فترة طويلة وهو عاطل عن العمل وتتراكم عليه الديون، يبتكر خطة غريبة وجريئة لاستعادة وظيفة أحلامه.

يفرض بارك تشان ووك في هذا العمل المهيب -تحديدا منذ أول مشهد- معايير مرتفعة في طريقة السرد، افتتاح الفيلم على المشهد الصيفي الجميل والزوج يشوي الأنقليس الذي أهدته إياه إدارة الشركة مكافأة لجهوده، وسط حديقة منزله المفعمة بالحياة والألوان، الحياة المثالية التي تعد بها الرأسمالية أي موظف. تبتعد الكاميرا تدريجيا لتظهر صورة أكبر وأشمل للمنزل، وفي الخلفية موسيقى تشيلو تعزف بنوتة واحدة وتبعث على التوتر، يذهب مان سو لمناداة ابنته التي تعزف التشيلو في الطابق الثاني، وعندما تتوقف ابنته عن العزف تتوقف الموسيقى.

هذه الافتتاحية ليست جميلة بصريا فحسب، لكنها تؤكد أننا أمام عمل مختلف وفريد، عبر تلك الدرجة العالية من الترابط بين الصوت والصورة، وهو أمر صعب الإنجاز. العدسة الواسعة التي تشمل جميع ممثلي المشهد، يتكرر استخدامها في الفيلم، لكن أهميتها في هذه الافتتاحية تكمن في ضبط نبرة الفيلم منذ البداية، وتوظيف أكثر من عنصر في المشهد. نحن لا نشاهد الفيلم من عدسة واسعة مبهرة فحسب، بل نشاهد كيف تتأثر موسيقى الفيلم بتوقف أحد الشخصيات عن العزف. كل خطوة هنا تندرج ضمن خطة محكمة مسبقا ولا مجال للمصادفات.

يمتلك بارك تشان ووك قدرة مهيبة على التحكم بنبرة السرد وعدم التفريط بالهوية والرسالة التي يحاول إيصالها

يترك الفيلم انطباعا بأن بارك تشان ووك يمتلك قدرة مهيبة على التحكم بنبرة السرد وعدم التفريط بالهوية والرسالة التي يحاول إيصالها. فكل من يقف خلف هذا الفيلم يطبق رؤويته بحذافيرها، والدقة التي تسرد بها الأحداث تشعرنا بأنه رأى الفيلم بالكامل قبل أن يكتبه أو يصوره. يحتوي الفيلم على إنجازات عديدة، لكن الإنجاز السردي هو أهمها.

Getty Images / Gareth Cattermole / AFP
لي بيونغ هون وبارك تشان ووك في فيلم "لا خيار آخر" خلال جلسة تصوير في مهرجان تورونتو السينمائي الدولي، 8 سبتمبر 2025

سحابة الذكاء الاصطناعي

مان سو (يؤدي دوره لي بيونغ هون) هو ضحية للرأسمالية المتأخرة. توظف مباشرة بعد المرحلة الثانوية، وأفنى كل ما يملك من وقت وجهد في خدمة الشركة التي أعطته العديد من الأمل والوعود الزائفة ومن ثم تخلت عنه بكل سهولة في سبيل خفض التكاليف. إنها قصة تتكرر باستمرار في زمننا مع امتداد سحابة الذكاء الاصصناعي فوق العديد من المهن والوظائف، والجميع يترقب انفجار هذه الفقاعة ومقدار الضرر الذي سوف تخلفه.

بعد تسريحه، يواجه البطل تحديا بسبب خبراته المتراكمة في مجال ضيق ومحدود، هذا المجال يقبع في صناعة متآكلة ومحتضرة في ظل تقلص الاعتماد على المنتجات الورقية والإعلام المطبوع، وبالتالي يجد نفسه أمام خيار بالغ الصعوبة، لا يتمثل في تغيير مساره الوظيفي بالكامل والبدء من الصفر فحسب، بل بالتخلي عن هويته والبحث عن هوية جديدة.

في مجموعة الدعم النفسي للرجال الذين خسروا وظائفهم، تبدو طقوس المواساة والتعزيز النفسي، أشبه بطقوس طائفة دينية. يمرّ المشهد مريبا وشاذا، مع الوقت وإدراك المشاهد فداحة الخسارة التي يشعر بها البطل. لن نستغرب ذلك إطلاقا. يقف مان سو أمام مستقبل حالك الظلمة، يخسر فيه كل الامتيازات التي كان يتمتع بها كموظف، بما في ذلك المنزل الذي رممه بيديه والحديقة الكبيرة الشاسعة والعائلة المثالية المكونة من زوجة جميلة وطفلين وكلبين أليفين وسيارتين. من دون هذه الامتيازات والانجازات، لا يمكنه بأن يشعر بكنهه وبفردانيته، فهو يُعرّف نفسه بهذه الأمور، ومن دونها يخسر هويته.

لذلك من الطبيعي جدا أن تتآكل الحديقة وتتهالك بعد ثلاثة أشهر من العطالة، وتبدأ بالتعافي حينما تسير خطته وفق ما يريد. إنه سرد بيئي في أفضل حالاته. يستمر هذا النمط السردي مع تقدم الأحداث، فعلى سبيل المثل تظهر موسيقى التشيلو في كل مرة تظهر الابنة ري ون. تتجلى أهمية التشيلو هنا لأن علاقة مان سو بابنته أكثر قوة من علاقته بابن زوجته، وعندما تبدأ التضحيات المالية، تقرر العائلة التضحية بكل شيء قبل أن تضطر إلى التخلي عن دروس التشيلو.

هذا السرد البيئي والترابط بين ما يحصل داخل المشهد وما نتلقاه كمشاهدين، يجعلان هذا العمل قادرا على التفاعل ومخاطبة الحواس بكل سلاسة ودون تكلف

 وفي مثل آخر، عندما يراقب مان سو أحد أهدافه الذي يعمل في محل لبيع الأحذية، ويضطر للتوقف عند باب المتجر، تستمر موسيقى فتح الباب حتى تصبح جزءا من الجو العام للترقب الذي يصاحب المشهد. وبمجرد أن يقرر العودة الى المتجر والدخول، يغلق الباب خلفه وتتوقف الموسيقى.

هذا السرد البيئي والترابط بين ما يحصل داخل المشهد وما نتلقاه كمشاهدين مثل الموسيقى، يجعلان هذا العمل قادرا على التفاعل ومخاطبة الحواس بكل سلاسة ودون تكلف. لا يبذل الفيلم أكثر من طاقته وهو يحاول جذب انتباه المشاهد نحو الموسيقى ومصدرها، ولا نحو طريقة تصوير المشاهد بالعدسة الواسعة التي تظهر محيط اللقطة بالكامل وتتبع الشخصيات في تنقلها من نقطة إلى أخرى. هي سلاسة مطلقة في السرد، لكنها محكمة للغاية.

Neon
لقطات من فيلم"لا خيار آخر"

كوميديا سوداء

إلا أن "لا خيار آخر" ليس واقعيا على الإطلاق، ليس في حبكته فحسب، بل إن الشخصيات نفسها تبدو كاريكاتورية، وهذه السمة تساهم في إنجاح الكوميديا السوداء التي يقدمها الفيلم ولا تقلل جدية عواقب أفعال شخصياته. مجددا، ينجح تشان ووك في خلق توازن فريد بين عناصر مختلفة، ولا يخسر جوهر ما يجعل أفلامه مميزة. فما يتخلى عنه من واقعية، يعوضه بدراسة متعمقة لشخصية غير سوية، محاولا الإجابة عن سؤال مهم: حينما يخسر الإنسان هويته وكل ما يعتز به من إنجازات، كم سيصبر قبل أن يسخر جهوده لاستعادة ما فقده؟ وهل ستتخطى جهوده الخطوط الحمر الأخلاقية والاجتماعية والقانونية؟ في الفيلم، يلجأ البطل إلى الاحتيال والقتل حتى يحصل على وظيفة في الإدارة المتوسطة لمصنع ورق، ولا بد من التشديد هنا على تعبير الإدارة المتوسطة، لأن البطل بعد كل هذه الجرائم لا يرتقي السلم الاجتماعي كثيرا، ولا يصبح مالكا للمصنع أو رئيسا تنفيذيا، بل يظل نسبيا في المكانة الاجتماعية السابقة نفسها، بفارق وحيد هو أنه خسر إنسانيته في سبيل العودة إلى هذه المكانة الاجتماعية.

Neon
لقطات من فيلم"لا خيار آخر"

جريمة القتل الأولى التي يرتكبها، تأتي فوضوية مليئة بلحظات التردد والشك، أما الجريمة الثانية فتتخللها لحظات تردد أقل، إذ تزداد رباطة جأش مان سو وسهولة ارتكابه الجريمة. مع وصوله إلى الجريمة الثالثة، يتحول إلى قاتل متسلسل محترف وهو يجد أفضل الطرق لسلب الحياة دون الحاجة إلى سفك الدماء. كل ذلك حتى يعود إلى مصنع فارغ يحتفل فيه بانتصاره المجوف، رفقة روبوتات لا تدرك أنها تعمل مع مختل عقلي. كل ذلك الجهد كان يمكن بذله في البحث عن وظيفة في قطاع مختلف والوصول إلى النتيجة نفسها دون ارتكاب أي جريمة.

Getty Images / Cindy Ord / AFP
بارك تشان ووك على المسرح خلال عرض "لا خيار آخر" وتسلّمه جائزة المؤلف الدولي في مهرجان SCAD بسافانا، 25 أكتوبر 2025

يظفر لي بيونغ هون بنصيب الأسد من الإشادة بالأداء التمثيلي، فهو يقدم دورا متطلبا يغلب عليه الطابع المسرحي، لأن هناك مبالغة في ردود فعله، لكنها تتسق مع نبرة الفيلم. ثمة مأساة في قصة شخصيته لا تخلو من الكوميديا التي يغلب عليها الطابع الجسدي في كثير من الأوقات. هو بلا شك أحد أهم أدوار العقد الحالي. فبعد أن ينتهي الفيلم، يظل هناك سؤال عالق في أذهاننا في خصوص شخصيته، فهل هو ارتكب ما ارتكب رغبة في إعالة عائلته؟ أم رغبة في تغذية أوهامه؟ هل أراد أن ينقذ المنزل من البيع لأنه منزل العائلة وفيه كل ذكرياتها؟ أم لأنه منزل طفولته وقد حقق حلمه الشخصي بإعادة شرائه وترميمه؟ هل نحن أمام قصة رجل عائلة؟ أم رجل أناني مهووس؟

ما يمنح هذا العمل الكوري قابليته العالمية، أن التساؤلات التي يطرحها نواجهها في حياتنا اليومية في زمن يعاد فيه تعريف العمل والكرامة والمسار الوظيفي نتيجة للتقدم التقني

استطاع بارك تشان ووك صناعة عمل صارم بصريا وسلس سرديا، فهو يمتلك لغة سينمائية متفردة تضعنا أمام هشاشة الهوية عندما يسحق الإنسان تحت وطأة النظام الاقتصادي، ويكشف كيف يمكن الطموح أن يبرر وحشية الفرد عندما يعتقد أن السبل تقطعت به، وهذا ما يمنح العمل الكوري قابليته العالمية، لأن التساؤلات التي يطرحها نواجهها في حياتنا اليومية في زمن يعاد فيه تعريف العمل والكرامة والمسار الوظيفي نتيجة للتقدم التقني. 

font change