الاقتصاد السياسي في إيران... بين استحالتين

الهاجس السياسي/الأمني هو ما يؤطر ويقود نظرة النظام الإيراني للمسألة الاقتصادية

الاقتصاد السياسي في إيران... بين استحالتين

استمع إلى المقال دقيقة

قبل نهاية العام بأيام قليلة، أعلن "البنك الدولي" انكماش الاقتصاد الإيراني بمعدل 1.7 في المئة، متجاوزا حتى النسبة المتفائلة التي أعلن عنها في شهر أبريل/نيسان المنصرم (انكماش بمعدل 0.7 في المئة)، مُضيفا أن توقعات تُشير إلى أن الانكماش في العام القادم سيكون أكثر حدة، ولن يقل عن 2.8 في المئة.

صحيفة "جيهان صنعت" المحلية المختصة بالشؤون الاقتصادية، والمقربة من النظام، اختصرت تفسير هذا التراجع "الكارثي" للاقتصاد الإيراني بعبارة تعليلية واحدة "هذا ما يحدث حينما يُحكم الاقتصاد من قِبل روح الدولة"، في عبارة لاقت استهجانا من قِبل الكثيرين من أعضاء نُخبة النظام، لما تحمله من مجازات آيديولوجية وكنايات سياسية.

إلى جانب بلدان أخرى قليلة للغاية، ما يزال النظام الإيراني محكوما بنظرية شديدة البدائية تجاه الاقتصاد السياسي في البلاد، قائمة على رُهاب مُستبطن مستدام من عالم الاقتصاد الحُر، حتى في أدنى مستوياته حرية وقدرة، رُهاب متأت من اعتقاد القائمين على رأس الحُكم بأن الاقتصاد والمال هما أهم مصادر ومكامن القوة العامة، ولو تمكنت طبقة اجتماعية أو تيار شعبي من التمتع به باستقلالية واضحة عن أجهزة الدولة وأدوات النظام، فإنها قد تنتظم فيما بينها بشكل "غرائزي ميكانيكي"، وتشكل خطرا على استقرار النظام وهيمنته العامة.

ثمة شرائح ضخمة من المجتمع الإيراني تقدم أسئلة ملحة لبنية النظام الحاكم، متمركزة حول "جدوى اقتصاد المقاومة" الذي تنفذه الدولة وتفرضه على المجتمع  

لا تشبه هذه النزعة بعض الأنظمة السياسية/الاقتصادية الاشتراكية الحديثة التي ترى ضرورة لتدخل الدولة في بعض التفاصيل الخاصة في البنى الاقتصادية، بغية إحداث توازن لصالح الطبقات الاجتماعية الأكثر هشاشة، عبر زيادة مستويات الضرائب وتحديد سقف أدنى للأجور وهيمنة نسبية للدولة على القطاعات عالية ومضمونة الربحية. ولا تشبه حتى الأنظمة الشيوعية التقليدية في رؤيتها الاقتصادية، التي كانت تخلق مستويات فائقة من الاعتناء بمختلف الطبقات الاجتماعية ضمن المتن العام. 
وحده الهاجس السياسي/الأمني هو ما يؤطر ويقود نظرة النظام الإيراني للمسألة الاقتصادية في البلاد. ففي العمق ثمة عقيدة بالغة النمطية، ترى أن الريوع النفطية، ومعها مختلف أنواع المستخرجات والثروات الخام، ومثلها كل أشكال الاحتكار والهيمنة على الكثير من أشكال الخير العام، يجب أن تُستغل من قِبل النظام السياسي، بغية إدارة وظائف الدولة وأجهزة الحُكم، وكسب ولاء طبقات ما من المجتمع، وأن تشكل أداة وتمددا للدولة إلى اللعبة الاقتصادية داخليا أولا، لضبط الاقتصاد الخاص تماما، ليكون مطابقا لدفتر شروط واسع تضعه السلطة، أساسه مجموعة من الاعتبارات السياسية والأمنية. 
لأسباب لا تُعد، كان ذلك مصدر انهيار للاقتصاد الإيراني، وتاليا منبعا مستداما لتراجع جودة الحياة والخدمات العامة ونوعية المؤسسات والسلام الاجتماعي الداخلي في البلاد. فتلك العقيدة يُمكن لها أن تكون صالحة، ودائما بشكل مؤقت، في دولة بتعداد سكاني ضئيل للغاية، وذات موارد هائلة جدا من الثروات الخام، لا دولة يتجاوز تعداد سكانها 80 مليونا مثل إيران، واستخراج ثرواتها عالي التكلفة. 
كذلك يُمكن لها أن تكون صالحة في نظام سياسي متصالح مع الكل العالمي، ليس مثل إيران الصِدامية جذريا، المتعرضة لموجات متتالية من العقوبات الدولية، التي تُقيد من قدرتها على تطوير ما تملكه من مواد خام، وتقلل من قيمة مبيعاتها لهذه المواد. ويُمكن لها أيضا أن تُناسب دولة بها مجتمعات أقل تركيبا مما في الدولة الإيرانية، القائمة على حساسيات طائفية وعرقية ومناطقية فاقعة، وحيث الطبقة الوسطى/المدينية تتضخم منذ عقود، وتطالب بكتلة من الحقوق العامة، على رأسها الشعور بالعدالة الاجتماعية والحق في نوعية من الحياة الحديثة.
اليوم، ثمة شرائح ضخمة من المجتمع الإيراني تقدم أسئلة ملحة لبنية النظام الحاكم، متمركزة حول "جدوى اقتصاد المقاومة" الذي تنفذه الدولة وتفرضه على المجتمع كـ"حالة طوارئ متعلقة بالأمن القومي" منذ عقود. فإذا كان الخطاب التفسيري للنظام طوال السنوات والعقود الماضية يقول إن تنفيذها لذلك النوع من الخيار الاقتصادي كان لخدمة مشروع عسكري سياسي واسع كان يقوم به على مستوى المنطقة والعالم، كما كان يدعي، فإن ذاك المشروع نفسه انهار. فخلال أسابيع قليلة، خسرت إيران ساحات وجماعات وأنظمة كانت تابعة لها، وتعرضت لحرب دمرت ما كانت تعتبره "دُرة تاج مشروعها"، أي البرنامج النووي، فما الفائدة من الأوتاد، طالما أن الأعمدة سقطت. 

لكن سؤال النظام الإيراني الكبير اليوم يتعلق بإمكانية فعل ذلك من دون هزة كبرى في البنية الحاكمة. ففي كل التجارب، كانت تحولات سياسية كبرى تستتبع عمليات إعادة الهيكلة الاقتصادية، وإن لم تحدث، فإن اضطرابات أمنية ومجتمعية هائلة كانت تحدق بالمجال العام. فإعادة الهيكلة ليست مجرد قرارات بيروقراطية فوقية، بل إيذان بتغيير مواقع ومصالح ملايين البشر، سلبا وإيجابا، ضمن المجتمع والدولة الواحدة.
لكن الأمر في إيران أكثر صعوبة مما يُتخيل في أية دولة أخرى. ففي دولة تخسر عملتها المحلية قيمتها يوميا، وتجاوزت فيها نسبة التضخم في أسعار المواد الرئيسة 50 في المئة خلال العام الجاري فحسب، واقتصادها الإنتاجي معزول تماما عن العالم الحديث، ويعتاش أعضاء نخبتها الحاكمة على أنواع من الفساد والشراكات والامتيازات والاحتكارات الاقتصادية، وتعتبر الأطراف القومية فيه نفسها ضحية الاقتصاد المركزي، ولا تقل نقمتها الاقتصادية عن نظيرتها السياسية/القومية، ومع ترسانة من الصراعات والعقوبات الدولية، فإن إعادة الهيكلة تعني إخراج المزيد من الأدوات من يد الدولة، ومنح المزيد من الفرص والقدرات للمجتمع الإيراني، وهو ما يستحيل أن يتحمله النظام الإيراني، بالضبط كما صار من المُحال أن يتحمل المجتمع الإيراني أوضاعه الراهنة. 

font change