ملامح ملحمية

ملامح ملحمية

استمع إلى المقال دقيقة

يمكننا الكلام على نفس ملحمي هنا أو هناك في قصائد عربية، قديمة أو حديثة، إذا انطلقنا من القول إن الملحمة هي تأليف شعري يمجد البطولة، في المعارك أو في غيرها، مازجا في بعض الأحيان الوقائع بالأساطير، كما هو الأمر في الملاحم اليونانية. وإذا جاز لنا الكلام على "بناء ملحمي" للقصيدة، لأمكننا القول إن معلقة الشعر الجاهلي التي تشمل الحرب غرضا من أغراضها، تعبر عن تجربة حياتية-وجودية، فردية-جماعية، متكاملة العناصر، هي النموذج الأقرب لملحمة عربية، لا تأخذ بالأسطورة بمفهومها اليوناني.

وإذا جاز لنا الفصل بين الملحمة والأسطورة، أي إذا قلنا بوجود ملاحم لا تحتفي بالأساطير ولا تستثمرها ولا تكترث بها، لأمكننا الحديث عن أبعاد ملحمية في الكثير من القصائد العربية التي ظهرت في العصور الإسلامية، وهي القصائد التي ركزت على وصف الحروب وفنون القتال وأنواع الأسلحة، ورمت إلى تمجيد الشجاعة والإقدام، واتخذت من "الحماسة" عنوانا لها.

ومن المعروف أن مثل هذه القصائد هي التي شكلت نواة لكتاب أبي تمام الشهير "ديوان الحماسة"، الكتاب الذي ضم مختارات من الشعر العربي في أغراض كثيرة، كانت الحماسة على رأسها.

ولكن قصيدة أبي تمام "فتح عمورية" لم تندرج في مختاراته. وهي قصيدة ذات نفس ملحمي. كذلك يمكننا الكلام على قصائد كثيرة، فيها أنفاس ملحمية ظهرت بعد أبي تمام. وأول ما يحضرنا منها قصائد عديدة للمتنبي، من بينها على سبيل المثال قصيدة "الحدث الحمراء".

والسمات الملحمية في القصيدة لا تنبثق من موضوعها فقط، وإنما تتشكل من عناصر متعددة، منها بالإضافة إلى الموضوع تراكيب وصور قوية تتجلى في إيقاعات تناسب أجواء "الحماسة" التي تجتلب النفس الملحمي. وهذا الأخير قد نجده في قصيدة لا تتناول حربا أو معركة بين جيشين، وإنما تكون على نحو أو آخر قادرة على إشاعة جو حماسي. من ذلك مثلا قصيدة "الذئب" للبحتري، التي يصور فيها الشاعر معركة مع الذئب، يظهر فيها الطرفان ألوانا من الشجاعة ومن "أخلاق" الفروسية.

ربما يصح القول إن المديح في الشعر العربي القديم، وكان الغرض الأكثر شيوعا في العصر العباسي، هو الذي أفضى إلى "إيقاعات" ملحمية في القصائد التي بالغ شعراؤها في تصوير مزايا الممدوحين. وأشهر هذه المزايا الشجاعة والتفنن في خوض المعارك.

السمات الملحمية في القصيدة لا تنبثق من موضوعها فقط، وإنما تتشكل من عناصر متعددة، منها بالإضافة إلى الموضوع تراكيب وصور قوية تتجلى في إيقاعات تناسب أجواء "الحماسة"

تراجع المديح كثيرا في شعرنا الحديث، بل كاد أن يغيب. ولكن "الأنفاس" أو "الأبعاد" الملحمية لم تغب كليا في قصائدنا الحديثة، أو بالأحرى في بعضها. والطريف أن شعرنا الحديث، في بداياته خصوصا، راح يستثمر الأسطورة. بل راح شعراء الحداثة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي يستعيدون الأساطير القديمة المستمدة من ثقافات أجنبية في محاولاتهم التبشير بانبعاث

عربي، في الشعر وفي غيره. لقد أحبوا أن يستفيدوا من الدلالات الأسطورية في تعبيرهم عن الأحداث أو التحولات في الواقع العربي، مما بث نفحة ملحمية في بعض قصائدهم. هذه النفحة نجدها في قصائد للسياب وخليل حاوي وأدونيس ومحمود درويش... وغيرهم. ولكن الإكثار من استخدام الأساطير في قصائد حديثة نال في حالات كثيرة من "شعريتها"، وجعلها تدخل في متاهات من "البحث"، أو الافتعال، أو التدبر الذي يفضي إلى هذا النوع أو ذاك من الجفاف أو التعقيد.

ربما يصح القول إن النفس الملحمي في شعرنا القديم كان منفصلا عن الأسطورة. ولكنه في شعرنا الحديث راح يحاول الارتباط بها.

عنصر آخر تجدر الإشارة إليه في معرض الكلام على الملامح الملحمية في الشعر العربي، هو عنصر الطول. فالمعروف عن الملاحم القديمة أنها طويلة. ولذلك افترض الكثيرون أن الأعمال الأدبية الطويلة هي بالضرورة أعمال ملحمية، أو أنها على الأقل ذات أبعاد ملحمية. ولا أعتقد أن هذا الافتراض له نصيب كبير من الصواب، وهو الذي شاع في المرحلة الشعرية العربية الحديثة التي ما زلنا فيها. لقد رسخ في أذهان البعض من كتاب الشعر عندنا أن طول القصيدة يضفي عليها المزيد من الأهمية، ويشي بأبعاد ملحمية، وينم عن مقدرة وتمرس لدى الشاعر. وبسبب من هذا كله، لجأ بعض الشعراء العرب إلى  التاريخ العربي، يستمدون منه الوقائع والشخصيات التي من شأنها أن توفر لهم مواضيع يطول الكلام عليها من جهة، وتتيح لهم استنباط رموز كثيرة من جهة ثانية. هذه الرموز يلجأون إلى تطبيقها أو إسقاطها على الواقع، أو بالأحرى على المراحل الحديثة من تاريخنا.

لا أرى في هذا الأمر بأسا. بل يمكنني القول إن هذا العمل قد يكون جليلا وناجحا إذا ما توفرت فيه الشروط الفنية، التي تظهر الطول عنصرا ضروريا لا مفتعلا. وهنا تظهر براعة الشاعر في معالجة موضوعاته. أما إذا كان الطول مجتلبا في ذاته، أي إذا كان مجرد تطويل، توسلا لأبعاد ملحمية، فمن شأنه أن يقود إلى نتائج عكسية، أي إلى ضعف في بناء القصيدة، أو في غيره من النواحي الفنية.

قد نجد قصيدة طويلة ليس فيها شيء من الملحمية. وفي المقابل قد نجد قصائد قصيرة (نسبيا) تقنعنا بملامحها الملحمية

مما تقدم، أخلص إلى القول إن الطول والقصر ليسا معيارين ثابتين في الحكم على ملحمية القصيدة. فقد نجد قصيدة طويلة ليس فيها شيء من الملحمية. وفي المقابل قد نجد قصائد قصيرة (نسبيا) تقنعنا بملامحها الملحمية. ومثالنا على ذلك، كما أوردنا سابقا، قصائد للمتنبي، وقصيدة "فتح عمورية" لأبي تمام، وقصيدة "الذئب" للبحتري... وغيرها كثير.

font change

مقالات ذات صلة