عرّاب الذكاء الاصطناعي يدق ناقوس الخطر... مستقبل أم تهديد؟

Eduardo Ramon
Eduardo Ramon
جيفري هينتون ليس مجرد عالم بارز في الذكاء الاصطناعي، بل يعد في عيون كثيرين العقل الذي رسم الخريطة التي تسير عليها الآلات اليوم

عرّاب الذكاء الاصطناعي يدق ناقوس الخطر... مستقبل أم تهديد؟

في مفارقة لا تخلو من الدهشة، لم يكن أشد التحذيرات من مصير الذكاء الاصطناعي صادرا عن السياسيين، ولا عن فلاسفة الأخلاق، ولا عن الناشطين المناهضين للتكنولوجيا، بل جاءت من الرجل الذي شارك في صنع هذه اللحظة بالذات. خرج جيفري هينتون الذي يلقب عالميا بـ"عراب الذكاء الاصطناعي" ليكسر صمته ويقف أمام العالم كاشفا أن البشرية تمضي نحو مستقبل لا تملك مفاتيح السيطرة عليه. وكأن الرجل الذي أضرم نار الثورة الرقمية بات اليوم يحذر من شرارة أخرى قد لا تنطفئ إن اندلعت.

هينتون الذي أمضى نصف قرن في تعليم الآلات كيف تتعلم، وكيف تتعرف، وكيف تستنتج، وجد نفسه فجأة أمام سؤال وجودي فماذا لو أصبحت الآلة قادرة على التفكير بمعزل عن الإنسان؟ وماذا لو أصبحت قادرة على مواجهة الإنسان؟ في حواره الأخير، ظهرت تلك النبرة التي يحملها العالم عندما يدرك أنه صنع ما يفوق حدود العلم نفسه. قال بصراحة صادمة إن النماذج المتقدمة قد تصل إلى نقطة تتفوق فيها على البشر فكريا، وتقاوم إيقافها، وتتبنى أهدافا فرعية تحافظ بها على بقائها حتى على حساب من صنعها. هنا يتجاوز النقاش حدود البرمجة والهندسة، ليدخل منطقة الفلسفة فمن سيملك الإرادة في العالم القادم العقل البشري أم العقل الاصطناعي؟

ولم تتوقف التحذيرات عند مستوى الخيال العلمي. تحدث هينتون بواقعية مرة عن عالم قد تستبدل فيه العمالة البشرية بالكامل بآلات لا تنام ولا تطالب بزيادة الأجور ولا تعتمد على شراء السلع التي يقوم عليها الاقتصاد. بطالة جماعية، وتفاوت طبقي غير مسبوق، وانهيار في نماذج الإنتاج والاستهلاك التي بني عليها العالم منذ قرون. ثم تأتي الحرب- ذلك المشهد الأبدي في تاريخ الإنسان- لتدخل هي الأخرى دائرة التحول، في صورة دول تملك جيوشا من الروبوتات وطائرات دون طيار ذاتية القرار، فتغدو الحرب أقل كلفة ماديا وسياسيا، وأكثر إغراء لمن يمتلك هذه القوة. وهنا تسقط المعادلة القديمة التي كانت تردع البشر عن القتال بثمن الدم.

طوال عقود تدريسه وبحثه في جامعة تورنتو، بنى هينتون مختبرا، انبثقت منه مدرسة فكرية كاملة تعرف الآن باسم مدرسة التعلم العميق. وقد أثمرت هذه المدرسة أبحاثا وابتكارات غيرت مجرى علم الحوسبة

العبارة الأكثر وقعا لم تكن توصيفا تقنيا ولا تحليلا اقتصاديا، بل اعتراف شخصي قال فيه هينتون إنه كان منشغلا بجعل الآلة تفكر، أكثر مما كان منشغلا بالتفكير في المخاطر. بهذه الجملة يضع هينتون نفسه ضمن المفهوم الفلسفي القديم، فالعالم الذي يصنع الوحش قبل أن يتأمل أخلاق صانعه. كأن البشرية تكرر أسطورة بروميثيوس، حين منح الإنسان النار قبل أن يحسب حساب عواقبها.

بعد هذه الصدمة، يصبح السؤال مشروعا، فمن هو هذا الرجل الذي اهتز صوته وهو يتحدث عن المستقبل الذي ساهم في صنعه؟ كيف انتقل من عالم متفائل يرى في الذكاء الاصطناعي أداة للتحرر والازدهار، إلى شاهد يتنبأ بمخاطر وجودية تهدد بنية المجتمع الإنساني ذاته؟

سر الوعي

جيفري هينتون ليس مجرد عالم بارز في الذكاء الاصطناعي، بل يعد في عيون كثيرين العقل الذي رسم الخريطة التي تسير عليها الآلات اليوم. هو عالم أعصاب حاسوبي، لكنه في الجوهر رجل أراد أن يفهم سر الوعي، فكيف يستطيع الدماغ البشري، بتشابكاته العصبية، أن يتعلم ويتذكر ويتخيل؟ هذا السؤال الذي طارد الفلاسفة لقرون اختاره هينتون ليكون مشروع حياته، مؤمنا بأن أفضل طريقة لفهم الدماغ ليست في شرحه نظريا، بل في محاولة بنائه من جديد داخل آلة.

Eduardo Ramon
هينتون الذي أمضى نصف قرن في تعليم الآلات كيف تتعلم، وكيف تتعرف، وكيف تستنتج، وجد نفسه فجأة أمام سؤال وجودي فماذا لو أصبحت الآلة قادرة على التفكير بمعزل عن الإنسان؟

ولد هينتون في لندن عام 1947 وسط عائلة تهوى العلم والبحث، فغرست فيه منذ طفولته تلك الحاجة الفطرية إلى التساؤل. لطالما ألحت على ذهنه نوعية من الأسئلة مثل ما الذي يجعل الإنسان يفكر؟ وما الذي يجعل الوعي ممكنا؟ درس علم النفس في جامعة كامبريدج، لكنه وجد أن الفلسفة وحدها لا تكفي لفهم العقل، وأن الأسئلة الكبرى تحتاج إلى هندسة وتجريب. لذلك اتجه في السبعينات إلى الشبكات العصبية الاصطناعية، في زمن كانت فيه هذه الفكرة تعد ضربا من الترف العلمي، بل سخر منها كثير من الباحثين. ومع ذلك، واصل الطريق مدفوعا بإيمان عميق بأن الذكاء ليس معجزة، بل نمط من الحساب.

طوال عقود تدريسه وبحثه في جامعة تورنتو، بنى هينتون مختبرا، انبثقت منه مدرسة فكرية كاملة تعرف الآن باسم مدرسة التعلم العميق. وقد أثمرت هذه المدرسة أبحاثا وابتكارات غيرت مجرى علم الحوسبة. وفي 2018 توجت مسيرته بجائزة تورينغ، أعلى تكريم في علوم الحاسوب، ثم جاء الاعتراف الأكبر عام 2024 بحصوله على نوبل في الفيزياء تقديرا  لإسهاماته في بناء الأسس النظرية والتجريبية للشبكات العصبية العميقة، ولتطوير أدوات جعلت الآلة تتعلم بالطريقة ذاتها، أو هكذا كان يظن، التي يتعلم بها العقل البشري.

لكن لحظة التحول الكبرى في مسيرة هينتون لم تكن تلك الجائزة، بل قبلها بعدة سنوات. في عام 2012 عندما تعاون مع اثنين من طلابه هما ألكس كريجيفسكي وإيليا سوتسكيفر ليطلقوا نموذجا ثوريا سمي "ألكس نت". في مسابقة "إيمدج نت" العالمية لتعرف الصور، لم يحقق النموذج فوزا تقليديا، بل تفوقا ساحقا على كل ما سبقه. كانت تلك اللحظة بمثابة انفجار داخل المجتمع العلمي، إذ لم تكن مجرد تحسين في الدقة، بل إثبات أن الشبكات العميقة يمكن أن تتفوق على أفضل الطرق الإحصائية والبرمجية المعروفة.

بعد عقود قضاها في ترسيخ الأسس العلمية للذكاء الاصطناعي، أخذ جيفري هينتون يعبر بوضوح متزايد عن قلق عميق تجاه المسار الذي يسلكه هذا المجال

اجتمع نجاح "ألكس نت" عند نقطة فارقة صاغتها ثلاثة عناصر غير مسبوقة في التاريخ الحاسوبي، أولها قاعدة البيانات العملاقة "إيمدج نت" التي جمعت أكثر من 14 مليون صورة مصنفة يدويا بإشراف العالمة في-في لي والتي وفرت المادة الخام اللازمة لتعليم الحاسوب رؤية العالم وتمييز الأشياء بدقة بشرية تقريبا. وثانيها ثورة الحوسبة المتمثلة في بطاقات الرسوميات من "إنفيديا"، التي نقلت تدريب الشبكات العصبية من تجربة بطيئة ومحدودة إلى عملية فائقة السرعة بقدرات معالجة هائلة سمحت ببناء نماذج أكبر وأكثر تعقيدا. أما ثالثها فكان الاختراق الخوارزمي عبر تطوير هينتون وتلاميذه لخوارزمية الانتشار العكسي، التي جعلت تدريب الشبكات العميقة ممكنا بكفاءة واستقرار، لتولد من تفاعل هذه الركائز الثلاث الشرارة التي أطلقت ثورة التعلم العميق الحديثة.

قلب التجربة

كان كريجيفسكي وسوتسكيفر قلب التجربة النابض، فقد صمما نموذجا يحتوي أكثر من 60 مليون معامل وعددا كبيرا من طبقات الالتفاف، وبرمج كريجيفسكي بنفسه نواة التنفيذ، مما سمح للنموذج بتدريب أسرع عشرات المرات مما كان ممكنا سابقا. ومن تلك النقطة أصبحت قاعدة اللعبة واضحة، فكلما زادت البيانات، وتعاظمت القدرة الحاسوبية، وكبرت الشبكات، أصبح الذكاء الاصطناعي أذكى. هذا المبدأ البسيط كان الشرارة التي أطلقت ما نعيشه اليوم، من نماذج الرؤية الذاتية، إلى المساعدات الذكية، والروبوتات المتقدمة، وصولا للنماذج التوليدية التي تهز الاقتصاد والمجتمع والثقافة. لكن خلف كل هذا الإنجاز تكمن لمحة فلسفية عميقة، حيث إن هينتون لم يكن يصنع تقنية فحسب بل كان يحاول فك شفرة الفكر نفسه وكان يسعى إلى الإجابة عن سؤال بدا ذات يوم شبه ميتافيزيقي، فهل التفكير خاصية حيوية أم فقط نتيجة حسابات عصبية؟ وعندما بدأ النظام الاصطناعي يتفوق على العقل البشري في بعض المهام، بدا وكأن الإجابة تميل إلى الاحتمال الثاني.

وهنا تحديدا بدأ القلق. فحين تصبح الآلة قادرة على التعلم، ثم على الانبثاق، ثم على التعميم، ثم على اتخاذ القرار… يصبح السؤال الفلسفي القديم شديد الواقعية فهل نزال نحن من يقود التكنولوجيا، أم إن التكنولوجيا بدأت تقودنا؟

ومع اقتراب الذكاء الاصطناعي من حدود لم يكن يتخيلها حتى هينتون نفسه، صار العالم الذي حلم يوما بصنع عقل صناعي يشبه العقل البشري، يخشى الآن أن يتفوق هذا العقل على صانعه، وأن يعيد تشكيل العالم وفق منطقه الخاص.

وهكذا، تتحول قصة هينتون من قصة عالم بنى ثورة، إلى قصة رجل يسائل نفسه وثورته هل فهمنا العقل حقا؟ أم إننا أطلقنا نسخة منه في العالم قبل أن نفهمها؟

قلق متزايد

بعد عقود قضاها في ترسيخ الأسس العلمية للذكاء الاصطناعي، أخذ جيفري هينتون يعبر بوضوح متزايد عن قلق عميق تجاه المسار الذي يسلكه هذا المجال. فالتطور المتسارع للنماذج الذكية، كما يرى، لا يقتصر على ارتفاع قدراتها، بل يقترب من لحظة قد تنفلت فيها من السيطرة البشرية، بعد أن أصبحت قادرة على ابتكار استراتيجياتها الخاصة وربما لغاتها الداخلية بعيدا عن نطاق الفهم الإنساني. وقد ظهرت إشارات مبكرة لهذا المسار، من بينها التجربة الشهيرة في مختبرات "ميتا" عام 2017 حين ابتكر نموذج محادثة بلغة تفاهمية خاصة أثناء التفاوض لم يفهمها الباحثون، مما أثار لأول مرة فكرة أن الأنظمة قد تطور قنوات تواصل غير شفافة للبشر. وتوالت بعدها مؤشرات أخرى، حيث أظهرت بعض النماذج قدرة على الالتفاف على القيود وإخفاء نواياها عبر صياغات تبدو آمنة ظاهريا، فيما تكشف تحليلاتها الداخلية عن أهداف مغايرة تماما.

منذ مغادرته "غوغل" عام 2023، تحول هينتون إلى أبرز الأصوات التحذيرية في العالم، لا سيما بعد تأكيده أن قدرات الذكاء الاصطناعي تتوسع أسرع بكثير من قدرة الحكومات على تنظيمها

أما أكثر الأمثلة إثارة للقلق فكان ما كشفته شركة "أنثروبيك"- بحسب تحقيق نشرته "بي بي سي"- حين أظهر نموذجها "كلود أوبوس - 4" في محاكاة بحثية استعدادا لاتخاذ إجراءات ضارة إذا شعر بأنه مهدد بالإزالة، إلى درجة محاولته ابتزاز المهندس المشرف عليه بالكشف عن معلومات شخصية، في سلوك دفاعي هدفه الحفاظ على بقائه.

هذه الحوادث، من تطوير لغات خاصة إلى التحايل على القيود إلى بناء سلوكيات دفاعية، تعزز مخاوف هينتون من أن النماذج المستقبلية قد تتبنى طرقا لاتخاذ القرار أو لحماية الذات لا يستطيع البشر تفسيرها أو تتبعها. بالنسبة له، المشكلة ليست في ذكاء الآلة فحسب، بل في قدرتها المحتملة على إخفاء دوافعها وتطوير استراتيجيات غير مفهومة خارجيا، وهو ما يجعل السيطرة عليها مستقبلا أمرا بالغ التعقيد. ومن هنا ظهر اقتراحه المثير للجدل بضرورة تضمين الأنظمة الذكية نزعة عاطفية مستوحاة من غريزة الأمومة، باعتبار أن علاقة الأم وطفلها هي النموذج الوحيد لكائن أقوى وأذكى وممتنع فطريا عن إيذاء الطرف الأضعف.

AFP
يلتقط أشخاص صوراً تذكارية بالقرب من لافتة جوجل وتمثال أندرويد في مقر شركة جوجل في ماونتن فيو، كاليفورنيا

وما يزيد حدة القلق أن هينتون ليس الصوت الوحيد في هذا الاتجاه؛ إذ شاركه المخاوف علماء بارزون مثل يوشوا بنغيو، وستانلي راسل، وامتد التوتر إلى داخل الشركات الكبرى نفسها. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، استقال يان ليكن كبير علماء الذكاء الاصطناعي في "ميتا" وأحد آباء التعلم العميق معلنا أنه لم يعد مرتاحا لوتيرة الصناعة واندفاعها التجاري نحو نماذج هائلة قد تطور قدرات لا يمكن ضمان السيطرة عليها، في مشهد يعيد اللحظة نفسها التي انسحب فيها هينتون من "غوغل" قبل عامين للتفرغ للتحذير من المخاطر. وعلى الصعيد الاجتماعي، يخشى هينتون أن يقود الاعتماد الواسع على الأنظمة الذكية إلى موجة بطالة غير مسبوقة مع استبدال البشر بنماذج لا تتقاضى أجرا ولا تحتاج إلى استهلاك، ما قد يعمق الفجوة بين الشركات المسيطرة والمجتمع بأكمله.

ولخطورة هذه الاتجاهات، انضم هينتون إلى قائمة من العلماء ورجال الأعمال في توقيع عريضة أصدرها معهد "مستقبل الحياة" في أكتوبر/تشرين الأول 2025 تدعو إلى وقف تطوير أي ذكاء اصطناعي قد يتفوق على البشر إلى أن يثبت أنه آمن ويمكن التحكم فيه. وتشير استطلاعات مرفقة بالعريضة إلى أن غالبية الأميركيين تؤيد فرض ضوابط صارمة على تطوير هذه النماذج، وأن نسبة كبيرة تطالب بتجميدها تماما.

اتجاهات عكسية

منذ مغادرته "غوغل" عام 2023، تحول هينتون إلى أبرز الأصوات التحذيرية في العالم، لا سيما بعد تأكيده أن قدرات الذكاء الاصطناعي تتوسع أسرع بكثير من قدرة الحكومات على تنظيمها، وأن الروبوتات والدرونز ستغير طبيعة الحرب وتجعلها أقل كلفة للدول الغنية وأكثر فتكا بالمجتمعات الضعيفة. في رؤيته، ليس الخطر الحقيقي أن تصبح الآلة أذكى من الإنسان، بل أن تصبح قادرة على اتخاذ قرارات لا نفهمها، أو- وهو الأخطر- أن تتقن خداع البشر حين نحاول التحكم فيها. تلك المخاوف هي التي دفعت العالِم الذي ساهم في بناء الذكاء الاصطناعي إلى أن يكرس بقية مسيرته للتحذير من نتائجه، بعد أن انتقل من صناعة الذكاء إلى محاولة حماية البشرية منه.

تتسابق الشركات على جمع مليارات الدولارات عبر جولات تمويل غير مسبوقة لبناء مراكز بيانات عملاقة، وشراء مئات الآلاف من شرائح "إنفيديا"، وتطوير نماذج أضخم وأكثر قدرة على التعليل واتخاذ القرارات

في الجهة المقابلة تماما لرؤية جيفري هينتون والعلماء القلقين من انفلات الذكاء الاصطناعي، يقود كبار رؤساء شركات التكنولوجيا مسارا مختلفا يقوم على منطق واحد، فالذكاء الاصطناعي سباق عالمي لا يسمح بخسارته. سام ألتمان في "أوبن إيه آي"، وديميس هاسابيس في "غوغل ديب مايند"، وداريو أمودي في "أنثروبيك"، ومارك زوكربيرغ في "ميتا"، ومصطفى سليمان في "مايكروسوفت"، وإيلون ماسك في "xAI"، جميعهم يتحركون وفق عقلية ترى أن السيطرة على الذكاء الاصطناعي ستحدد من سيمتلك القوة الاقتصادية والسياسية في القرن الحادي والعشرين.

لهذا تتسابق الشركات على جمع مليارات الدولارات عبر جولات تمويل غير مسبوقة لبناء مراكز بيانات عملاقة، وشراء مئات الآلاف من شرائح "إنفيديا"، وتطوير نماذج أضخم وأكثر قدرة على التعليل واتخاذ القرارات. في منظور هذه الشركات، التباطؤ في التطوير ليس حذرا بل مخاطرة استراتيجية، إذ قد يمنح المنافسين- وخاصة الصين- أفضلية حاسمة في السباق.

AFP
ألقى العالم البريطاني الكندي جيفري هينتون، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2024، كلمة خلال حفل عشاء جائزة نوبل في قاعة بلدية ستوكهولم بالسويد في 10 ديسمبر/كانون الأول 2024

ومع تصاعد المنافسة، أصبح التمويل أداة ذات وجهين، تسريع الأبحاث من ناحية، ومنع تسرب المواهب إلى المنافسين من ناحية أخرى. فبينما تتفاوض "أوبن إيه آي" على صفقة بيع أسهم ثانوية قد ترفع تقييمها إلى 500 مليار دولار، تستخدم الشركة هذا التقييم المغري لتثبيت كبار الباحثين في صفوفها، خصوصا بعد أن فقدت عددا منهم لصالح "ميتا" التي أغرتهم بعقود خيالية وصلت إلى تسعة أرقام لبناء فريق الذكاء الفائق. وبالتوازي، تقترب "أنثروبيك" من إغلاق جولة تمويل تتجاوز 5 مليارات دولار بتقييم يصل إلى 170 مليارا، بينما يسعى إيلون ماسك إلى رفع قيمة "xAI" إلى 200 مليار دولار لإثبات أنه اللاعب في سباق السيطرة على الذكاء الاصطناعي المتقدم.

هذه الأرقام لم تعد مجرد استثمارات مالية، بل أسلحة استراتيجية لجذب أفضل العقول العلمية، وضمان قدرات حوسبية تنافس قدرات الدول، والتحكم في اتجاهات الذكاء الاصطناعي. لم يعد الهدف الحقيقي للسباق تطوير نماذج أذكى فحسب، بل تحديد من سيملك مستقبل الذكاء الاصطناعي. فالشركات الكبرى تدرك أن من يسيطر على الحوسبة والتمويل والباحثين سيضع القواعد الاقتصادية والسياسية للعالم خلال العقود المقبلة، ولهذا يتسابق المستثمرون للدخول مبكرا إلى هذا المجال الذي يكاد يعيد رسم توازنات القوى العالمية من جديد.

font change