جذور الصبار إذ تعانق الضوء في لوحات كريم أبو شقرا

فنان يعيش الهوية وتناقضاتها

صبار كريم ابو شقرا

جذور الصبار إذ تعانق الضوء في لوحات كريم أبو شقرا

قدم الفنان التشكيلي الفلسطيني كريم أبو شقرا معرضه الجديد في صالة "زاوية" برام الله، جامعا ما يقارب ثمانية وثلاثين عملا فنيا، أنجز معظمها بالألوان الزيتية وعلى القماش والورق والكرتون. وقد شكلت هذه الأعمال معا تجربة بصرية متماسكة تدور حول محور واحد هو النباتات البرية التي تنمو من تلقاء نفسها، أو تلك التي تزرع في الكروم، مثل الخرفيش والصبار وأشجار الزيتون والصعتر.

ولا يظهر الصبار في لوحات أبو شقرا بوصفه نباتا وحسب، بل باعتباره كائنا حيا وصامتا، دائم التحول والانتقال من حالة إلى أخرى، من دون الاستقرار على هيئة نهائية.

كائن شائك

رغم أن الصبار ليس موضوعا جديدا في الفن الفلسطيني والعربي عموما، فإن كريم أبو شقرا لا يتعامل معه بالطريقة التي يتناوله بها العديد من الفنانين الآخرين، إذ يستحضره إلى عالمه الفني بوصفه كائنا صعب المراس، غرائبيا ومألوفا في آن واحد. فبعد "استدراجه" ـ إذا صح التعبير ـ إلى لوحاته، يبدأ الفنان في نسج صلة معه، قوامها التشابه الكبير بينه هو كإنسان وفنان، وبين نبات الصبار كعنصر طبيعي حامل طبائع تبدو بشرية.

كل من أتيحت له فرصة لقاء نبات الصبار، ولا سيما ذلك الشاهق ذو السيقان والأغصان التي تشبه الأذرع، يشعر بوطأة حضوره ووقار صمته المثقل بالمعنى. ومن خلال ما رأيناه من أعمال جديدة في المعرض، إلى جانب لوحات سابقة وأخرى يواظب الفنان على نشر صورها في صفحته الخاصة على "فيسبوك"، نستنتج أن الفنان، إلى جانب معرفته العميقة بالنباتات البرية التي تنتشر في أرجاء فلسطين المحتلة، ومنها تحديدا نبات الصبار، اختبر يوما أثر شوكه إذا ما انغرز في الجلد، إذ يشعر المصاب به أن الشوكة أوغلت عميقا حتى العظام، رغم أنها في الواقع لم تتخط حدود آخر طبقة من الجلد. ولعل ذلك الشعور يعود إلى تشعب أشواكه، خصوصا القصيرة والدقيقة، التي تتخذ أشكالا لولبية أو دائرية. ومن هذا المنطلق يصبح الصبار أداة لتظهير كيف يكون الألم عميقا وصامتا، ظاهرا لكنه مخفي تحت بضعة مليمترات من مسامات الجلد.

يصبح الصبار أداة لتظهير كيف يكون الألم عميقا وصامتا، ظاهرا لكنه مخفي تحت بضعة مليمترات من مسامات الجلد

نطيل الوقوف أمام الصبار خارج حدوده وتعريفاته العلمية، فهو يتيح مقاربة أكثر عمقا لفهم لوحات الفنان، التي تجمع بين واقعية صادقة ونزوع واضح نحو الغرابة/السوريالية. وتكمن خصوصية منجزه الفني في قدرته على تحويل الصبار إلى عنصر بصري وفلسفي معا، إذ نجح في استثماره كمدخل لطرح أسئلته الوجودية، وتجسيد التجارب التي عاشها ولا يزال يعيشها كفنان فلسطيني يمارس فعل الإبداع في قلب فلسطين المحتلة.

عمل للتشكيلي الفلسطيني كريم أبو شقرا

في حوار مقتضب حول المعرض قال الفنان: "تشدني كثيرا النباتات الموجودة في الطبيعة الفلسطينية، فمن خلالها أطرح أسئلة كثيرة، وأحاول تأصيل الترابط بين التاريخ والحاضر والماضي. إضافة إلى ذلك، تمتلك هذه النباتات جمالية عالية تشدني إليها، وأشعر أنها تخاطبني. وجمالها ممزوج ومتأثر بالتقلبات السياسية وصراع الوجود، مما يضفي على هذه النباتات مسحة من الكآبة يشعر بها كل فلسطيني يعيش على أرض فلسطين المحتلة". وأضاف: "نبات الصبار يمثل ما أشعر به.  فأنا أحب الحياة. أنا متفائل وأنظر لمستقبل مشرق من خلاله". وتخاطب نبتة الصبار البشرية جمعاء قائلة: أنا ثابتة .أنا موجودة. أنا أؤكد  للأجيال أن الصراع موروث. ليس مهما إن اقتلعتني أو أحرقتني او هددت كياني فأنا ولادة ومتجددة".

لا نبالغ إن قلنا إن كلماته تكاد تنطبق على معظم الأعمال التي قدمها حتى الآن، إذ أن ما يحاول الفنان اختراقه وتظهيره أمام ذاته أولا، وأمام جمهوره ثانيا، شديد التشعب، ومعجون بصمت مدو يرافق عادة كبرى المسائل الوجودية المتعلقة بالحياة والموت، وبالاستمرارية والإذعان، وبالهوية والأرض. إنه ثبات شائك على استنطاق الصبار، ذلك الكائن المتصالح مع أشواكه التي تحميه وتضفي عليه سحرا مميزا.

بعض لوحات الفنان تبدو فيها جذور النباتات تتسلق السماء، وفي بعضها الآخر يبدو أنها تزهر من دون جذور واضحة. وكيف لا يكون ذلك، وهو قد أطلق على معرضه الأخير عنوان "حيث تلامس الجذور الضوء".

بورتريهات كريم أبو شقرا

وتحضر لوحات أخرى يصفها الفنان بأنها بورتريهات ذاتية رغم أنها تجسد الصبار بأسلوب سوريالي/غنائي، بينما اللوحات التي تجسد ملامحه الشخصية لا يطلق عليها جميعها لقب البورتريه الذاتي. ويحضر في الذهن أكثر من عمل ذاتي، بدا فيه الفنان بلحيته المشتعلة كالنار، والشائكة كالصبار.

أهوال الصبار

أول ما يذكر عند الحديث عن طبيعة متأقلمة مع ظروف بيئية قاسية هو نبات الصبار، الذي تستحضر طبيعته وهيئته صورا من الوحشة والخوف على استمرارية الحياة. ومع ذلك، ليست هذه الصور هي التي تغذي دائما جميع الأعمال الفنية، سواء كانت تشكيلية أم سينمائية أم شعرية، التي احتوت نبات الصبار. فعلى سبيل المثل، تراكم حضور الصباريات في أفلام الغرب الأميركي، غير أن معظم هذا الحضور لا يتجاوز كونه "ديكورا" يشير علميا إلى طبيعة الأرض والمناخ.

نذكر، على نقيض ذلك، ما حضر في أفلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا، الذي كان أول ما تذكرناه عند رؤية مجمل لوحات الفنان كريم أبو شقرا وأجوائها. ولمناسبة كتابة هذا المقال، عدنا إلى أفلامه، ولا سيما فيلم "أحلام" فدهشنا أمام ما برز في المشهد. لم يكن الصبار حاضرا بقدر ما كانت مجموعة من الأشكال الغرائبية والغامضة، كأنها ظلال لتلال ونباتات مجهولة وسامة نمت من تلوث الأرض. وفي هذا المشهد، برزت الهندباء البيضاء والصفراء، وهما نوعان متغايران من الفصيلة نفسها، مع  اختلافات في اللون وفترة الإزهار. فالأولى تحمل بتلات صفراء كثيرة، بينما الثانية تميل إلى البياض وتندثر بتلاتها لمجرد ملامسة النسائم لها.

صوّر كريم أبو شقرا نبات الصبار ككائن حي ومتحول، يصرخ تمردا دمويا أحيانا، ويبكي بصمت مطبق أحيانا أخرى

المفارقة ذات المغزى التي تجمع بين الفنانين، كريم أبو شقرا وأكيرا كوروساوا، هي أنهما استطاعا أن يلويا مفهوم الزمن، فما ينبت صيفا، ينبت إلى جانبه ما ينبت شتاء. وهذا ما يدفع المشاهد، ربما من دون أن يدري، إلى الحيرة، والحيرة بدورها تدعو إلى التأمل ومحاولة تفكيك الرموز وإرجاعها إلى منبعها: أرض الواقع.

لوحتان لكريم ابو شقرا

نعود إلى أعمال الفنان كريم أبو شقرا في هذا المعرض وخارجه، حيث اكتسب الصبار أشكالا وهيئات مختلفة، منها ما هو قريب من الواقعية مثل الطيور والديكة، ومنها ما هو سوريالي وغرائبي، كأنه آت من عوالم كابوسية تحفر بعيدا في روح الناظر إليها، ليس لأنها أشكال غريبة فحسب، بل لأنها رموز بصرية معقدة عن الشر والألم والتوق والأمل والصراع والثبات والتخطي. وفي حين أظهر المخرج في هذا المقتطف تلوث الأرض وموتها إثر استخدام الأسلحة النووية وغيرها من الأسلحة الفتاكة بأسلوبه الخاص، صور الفنان كريم أبو شقرا نبات الصبار ككائن حي ومتحول، يصرخ تمردا دمويا أحيانا، ويبكي بصمت مطبق أحيانا أخرى.

هل الكائنات النباتية التي يرسمها الفنان شبيهة بالصبار، أم أن الصبار هو الشبيه بالكائنات؟ يخلق فن كريم أبو شقرا هذا اللغط المحفز للتفكير، والفاتح لحقول عديدة من التأمل، بعضها مخيف وصادق، ومن صدقه دعوة للتحلي بشجاعة المواجهة.

 

 

عمل لكريم أبو شقرا

أهوال النباتات ومشاهدها المرسومة تبدو محتشدة في نبتة واحدة ذات أشكال وأصناف متعددة، وهي الصبار. تمظهرت في أشكال ثمرات وعصافير وكائنات أسطورية، وأزهار في أعمارها المتعددة، من البراعم وصولا إلى البتلات الجافة والسيقان العارية من الأوراق. كل من ينظر إلى لوحات الفنان ويتمعن فيها، يعثر، في غالب الأحيان، على تمزق يعاند ذاته وما حوله. وحتى في تلك اللوحات التي يحضر فيها عنصر الفرح والأمل، ثمة تهديد ما يظهر، سواء من خلال الألوان أو خلفيات اللوحات، أو عبر حضور عناصر بصرية كالكتل والخطوط. وفي بعض لوحاته، يحضر عبق لا هو دخان، ولا هو تجمع غيوم، ولا خيالات لموجودات مهددة لم تفلح في إخفاء ظهورها تماما. بل هو مزيج من ذلك كله.

أمام لوحاته التي تستخدم عناصر من الواقع بأسلوب غير واقعي ينصرف المشاهد الى التساؤل "ماذا تعني حقا هذه المشاهد؟".

كائنات هجينة ومتحولة، ديكة وعصافير كأنها نباتات، وسماوات مضطربة ومتداخلة مع الأرض ونباتات برية في وعاء واحد، يبدو أنها تلتهم بعضها بعضا، وخلفيات لا تمكننا من معرفة إن كان الوقت نهارا أم ليلا أم كلاهما معا.

أما في بعض اللوحات الأخرى، فيستطيع المشاهد أن يرى تمزقات أكثر وضوحا من غيرها: تلافيف دقيقة وأخرى غليظة من الألوان، تذكر بعضها بسحنات الجلد البشري وتدرجاته اللونية. تلافيف حل رباطها الفنان وأطلقها لتحتل معظم مكامن لوحاته. هل هي أشلاء؟ لا، ليس بهذا الوضوح. هي أشلاء للنبات والحيوان والبشر والحجر، كما هي للأفكار والمشاعر المتناقضة التي تعتمل في ذاته، فتحرك ريشته وسكينه بدرامية شعرية.

الفنان التشكيلي الفلسطيني كريم أبو شقرا

أمام العمق والغموض المتجلي، والمقرون في الوقت نفسه بوضوح الأشكال الرئيسة، وأمام الرقة التي تجاور الحدة العنيفة في العديد من لوحاته، أخبرنا الفنان: "أعيش تناقضات كبيرة وكثيرة. فأنا من الفنانين الذين اقتنت متاحف داخلية وعالمية لوحاتي، كما اقتنت شخصيات عربية أعمالا عديدة، إذا نظرت إلى ذلك لأول وهلة، ترى شيئا واحدا: الإيجابية. لكن الحقيقة ليست كذلك تماما. فعندما أقيم معرضا في يافا، أو ما يسمى الآن تل أبيب، ألقى ترحيبا هائلا، وكذلك الأمر عندما أعرض أعمالي في رام الله. يخلق هذا الأمر تناقضا حادا في روحي، ولا بد أنه يظهر في لوحاتي. التأثر البليغ بهذا التناقض يخلق حالة استثنائية، وذلك من خلال المواضيع التي أتناولها. الحدة والرقة لا تفارقان أعمالي، وهما قد تكونان ترجمة واضحة لهذا النزاع الداخلي. انها دوامة كبرى، تلك التي يعيشها كل فنان فلسطيني يعيش في الداخل، أساسها الشعور المتأرجح ما بين القبول والرفض، وبين الرضا وعدم الرضا، وبين كونه فنانا عربيا/فلسطينيا وحاملا للهوية الإسرائيلية".

دوامة كبرى تلك التي يعيشها كل فنان فلسطيني يعيش في الداخل، أساسها الشعور المتأرجح ما بين القبول والرفض

يستطرد أبو شقرا: "أعيش حاضرا غير صحي وأجواء غير صحية، وعلى الدوام أحاول إثبات وجودي من خلال مسميات مثل العروبة والقومية والدين والعادات والتقاليد. كل هذه المسائل تنعكس في أعمالي. وأرى أن هذا الكلام ينطبق على كل فنان ورياضي وأديب يعيش ضمن الخط الأخضر، وأنا بالتأكيد أمثل جزءا صغيرا من هؤلاء".

font change