في رواية "يحدث في البيوت" (منشورات المتوسط، 2025) للكاتب الفلسطيني عباد يحيى، لا نجد أنفسنا أمام نص يسعى إلى إعادة سرد التاريخ الفلسطيني أو توثيق محطاته الكبرى، ولا أمام رواية تشيد حبكتها على منطق البطولة أو الفداء أو المواجهة المباشرة، بل على العكس تماما، تنأى الرواية بنفسها عن هذا المسار المألوف، وتختار أن تنزل بالقضية من فضائها الخطابي العام إلى فضاء أكثر خفوتا: فضاء الحياة اليومية والهامش وما يحدث في البيوت.
اختيار عباد يحيى هذا، كما يبدو، هو موقف جمالي وفلسفي في آن واحد، يعيد طرح سؤال الوجود الفلسطيني من زاوية مختلفة: ماذا يحدث للفلسطيني غير المسيس حين تتحول القضية إلى خلفية ثقيلة، وحين يصبح التاريخ سجل يوميات لا ملحمة تراجيدية تليق بقضية من وزن قضية فلسطين؟
تتعامل الرواية مع القضية بوصفها ظلا دائما يتبع الشخصيات، حاضرا من دون أن يستدعى، ضاغطا من دون أن يعلن نفسه. خلفية لا يمكن الهروب منها، حتى حين يظن الأفراد أنهم نجحوا في الانفصال عنها.
من هنا تتأسس الفكرة المركزية للرواية: الانبتات الفلسطيني، أي القطع الجذري الطوعي أو القسري مع العائلة والمجتمع والهوية الجمعية، والسعي إلى بناء ذات فردية تعيش اللحظة، وتتحرك خارج منطق الامتداد والاستمرارية والسردية الملحمية.
الانبتات كحالة وجودية
لا يقدم عباد يحيى شخصيات روايته كنماذج مكتملة أو كممثلين لشرائح محددة يسهل إسقاط الرموز الفلسطينية عليها، كما هو حال الكثير من الأدب الفلسطيني، بل بوصفهم احتمالات وجودية تسبح في عالم اللامعقول والعبث.
جميل وهالة وشكري، ثلاثة أوجه لشخصية واحدة، أو ثلاث إجابات محتملة لسؤال واحد: كيف يمكن الفرد الفلسطيني أن يعيش خارج المنظومة، خارج السردية الكبرى، وخارج التوقعات المنتظرة منه، والمفروضة عليه؟
هذه الشخصيات، لا تؤسس حياة بالمعنى التقليدي: لا زواج، لا مشروع طويل الأمد، لا إيمان حقيقيا بالمستقبل. شخصيات تعيش في الزمن الحاضر بوصفه تجربة مؤقتة، وكأن الاستمرار بحد ذاته فعل مقاومة صامت، أو ربما فعل إنكار. هنا لا يبدو الانبتات حالة عجز فقط، بل أيضا محاولة واعية للهروب من ثقل الهوية، ومن التعريفات القسرية التي لا تترك للفرد مجالا للاختيار.
هالة: الخلاص عبر الفرار
تمثل هالة البعد الأكثر وضوحا للانبتات الطوعي. فرارها من زواج قسري في زمن النكبة يقدم بوصفه ولادة ثانية. إنها لحظة قطع جذري مع حياة لم تخترها، ومع اسم وتاريخ وعلاقات فرضت عليها. تختار هالة أن تتحمل ثمن هذا القطع كاملا: الوحدة، القلق الدائم، وانعدام الأمان، مقابل حرية أن تكون ذاتا غير معرفة.
أمنيتها العميقة أن تنسى ولا يعرفها أحد، وهنا تضيع الفوارق بين الشعور بوطأة العدم والرغبة في التحرر. النسيان هنا خلاص من ذاكرة جمعية تعيد إنتاج القهر. هالة لا تريد أن تكون معروفة، تريد أن تدخل في كهفها الذي لا أحد طرق بابه سوى جميل، ومن دون ترتيب مسبق. لا تريد أن تكون ضحية نموذجية. تريد أن تعيش في هامشها الخاص، حيث لا يسأل المرء عن أصله، ولا يطالب بتبرير وجوده.



