مهرجانات الكرة مختبرا للولاءات والهويات

مهرجانات الكرة مختبرا للولاءات والهويات

تشكل كرة القدم اليوم إحدى النوافذ الأساسية التي يمكن أن نطل منها على الحياة المعاصرة. لسنا نقصد فحسب الأهمية الاقتصادية والإعلامية والسياحية التي أصبحت تتخذها هذه "اللعبة"، وإنما أساسا دورها السياسي والآيديولوجي.

كرة القدم التي تعنينا هنا "لعبة" في غاية الجدّ، حيث غدا لاعبوها اليوم مهووسين بقضايا لا علاقة لها إطلاقا بـ"اللعب"، أو على الأقل، لا علاقة لها مباشرة بالكرة، إذ المطلوب منهم أولا وقبل كل شيء، أن يحققوا الانتصار، ومن الأفضل أن يكون "انتصارا ساحقا"، وهذا الانتصار يقدَّر كمّيا قبل كل شيء، فهو عدد من الإصابات.

لا يهمّ، لبلوغ ذلك، مختلف أشكال التحايل التي لم تعد تعبأ كثيرا بـ"الروح الرياضية"، فهي التي ستبرز الوطن الذي ينتمي إليه اللاعبون، وترفع "رايته" بين الأعلام الدولية. بل إنها قد توجِد ذلك الوطن إيجادا فلا يعود "بقعة صغيرة منسية على خريطة العالم". "اللاعبون" إذن لا يلعبون، ولا يحق لهم حتى ابتكار أساليب جديدة، بل عليهم أن "ينضبطوا" ويمتثلوا للخطط المرسومة، و"الأهداف" المتوخاة. وهي أهداف تتجاوزهم كلاعبين وأفراد، ما داموا يمثّلون بلدا بأكمله، إنهم ليسوا لاعبين، بل هم أقمصة لها لون بعينه. إنهم "جنود" في معركة. إنجازهم سيتخذ قيمة اقتصادية وسياحية، لكن أيضا دلالة سياسية وآيديولوجية. لذا فهم متيقنون من أنهم يقدّمون لبلدهم أنجع الخدمات الدبلوماسية، وهم ليسوا سفراءها في وطن بعينه، إنهم سفراء في العالم بأكمله.

هذه الرياضة لم يكن لها وجود حتى وقت قريب. قد يقال إن الألعاب الرياضية مغرقة في القدم، هذا صحيح، لكنها بالضبط كانت "ألعابا"، ولم تكن تخضع لقواعد دولية، تسهر عليها مؤسسة دولية هي التي تدبر الشؤون وتسن القواعد التي يقوم بتنفيدها حكام دوليون. المباريات تُنظّم على صعيد دولي، وتتبارى فيها الدول والأنظمة، بل وتتصارع الآيديولوجيات، وتتنافس لنقلها كبريات القنوات كي تخلق النجوم، وترسّخ العلامات، وتحتكر الإعلانات، وتشعل لهيب الولاءات.

بل إن بإمكاننا أن نذهب أبعد من ذلك بكثير، ونقول إن لهذه الرياضة اليوم بعدا ميتافيزيقيا من حيث إنها تروّج الفانتاسمات وتخلق الهويات، أو تكرّسها على الأقل، فتؤجج الانتماءات، وتسوّق وهْم الولاءات، وتحدد موازين قوى وتضبط علائق.

يبرز صاحب كتاب "كرة القدم في الشمس وفي الظل" ما كانت هذه اللعبة قد اتخذته عند النازيين منذ الثلاثينات من القرن الماضي "عندما صارت كرة القدم قضية دولة"، فكانت هزيمة الفريق الألماني تعني هزيمة النازية، فكأن الكرة كانت تعني بالنسبة إليهم استمرارا للحرب داخل ميادين اللعب.

لهذه الرياضة اليوم بُعد ميتافيزيقي من حيث إنها تروّج الفانتاسمات وتخلق الهويات، أو تكرّسها على الأقل، فتؤجج الانتماءات، وتسوّق وهْم الولاءات

وفي المعنى ذاته ما زلنا نذكر ما راج في فرنسا عندما نظمت المونديال سنة 1998 حيث تحدّث البعض عن المفعول السياسي البعيد لذلك المونديال الذي قيل إنه أنزل مكانة زعيم الحزب اليميني المتطرف لوبان وقتئذ درجات كثيرة، بل قيل "إن مونديال 1998 عمل على توحيد الفرنسيين وصيانة هويتهم التعددية" لما شملته الفرقة الفرنسية من نجوم ذوي أصول متنوعة.

ربما بإمكاننا أن نذهب إلى القول بأننا نعيش هذا التعدد، هذه الولاءات المتعددة، عند كل مونديال، حيث يعرف كل منا تجربة هوية لا محدودة. وهذا لا يقتصر على اللاعبين أو المدربين وحدهم، بل يطال الجمهور المتفرج كذلك. فقد يجد الواحد منا نفسه اليوم مع هذا البلد وهذا الفريق، كي ينتقل في الغد القريب إلى فريق آخر ربما كان هو خصم الأمس. لا يعود هذا فحسب لما يسمى عادة روحا رياضية بقدر ما يرجع إلى "تعدد الألوان" التي تتسم بها الهوية بما هي كذلك، حيث تكشف الولاءات أن كلا منا باستطاعته أن يغير بين يوم وآخر موقعه داخل دوائر متمركزة فيخرج من إحداها ليقتحم أخرى، الأمر الذي يجعلني أنتصر للفريق العربي ضد الفريق الأفريقي اليوم، لكنني سأجد نفسي مع الفريق الأفريقي غدا ضد بلد أوروبي، بل مع البلد الأوروبي مرة أخرى ضد بلد أوروبي آخر.

بل إن هذا التحوّل قد يعاش عند اللاعبين حتى على المستوى الفردي، وليس في ما يخص الفريق بأكمله. لا يمكن أن نتمثل مدى الحرج، حتى لا نقول التمزق، الذي يشعر به اللاعب عندما يجد نفسه يلعب ضد أبناء بلده، وربما هو التمزق ذاته الذي يستشعره المدرب إن وجد نفسه يواجه مدربا من البلد نفسه. هل نقول إن اللاعب أو المدرب، أصبح ينتمي إلى الفريق أكثر مما ينتمي إلى بلد بعينه؟ فقد يتغلب التزامه الأخلاقي على انتمائه السياسي، فينحاز "لأسرته" الكروية حتى إن اقتضى الأمر اللعب ضد الوطن.

الكرة تحدد اليوم الجغرافيا السياسية والعلائق الدولية والولاءات للأوطان، إلى حد أن بإمكاننا الذهاب إلى القول بأن الفرق الكروية قد تغدو "أوطاننا الجديدة".

فكأن الكرة غدت "بنية تحتية" لا تكتفي بأن تحدد التراتبيات الاجتماعية وترسم العلائق الدولية، وتعلي من دول وتحط من أخرى، وإنما تذهب حتى إلى أن تحدد الهويات وترسم الأوطان. وهي لا تكتفي بأن تفعل في السياحة والاقتصاد، وإنما هي التي تحدد اليوم الجغرافيا السياسية والعلائق الدولية والولاءات للأوطان، إلى حد أن بإمكاننا الذهاب إلى القول بأن الفرق الكروية قد تغدو "أوطاننا الجديدة".

font change