نزارباييف وإعادة التموضع في بنية الدولة الكازاخية

كازاخستان واستقالة الرئيس... قراءة في الدوافع والتداعيات

نزارباييف وإعادة التموضع في بنية الدولة الكازاخية

* في عام 2007 تم إدخال تعديلات دستورية تمنح نزارباييف حقاً استثنائياً، بصفته الرئيس الأول لكازاخستان، في الترشح لرئاسة البلاد لفترات غير محددة
* رغم إعلان نزارباييف عن نيته التنحي، إلا أنه ظل رئيساً لمجلس الأمن وللحزب الحاكم، وعضواً في المجلس الدستوري، ورئيساً للجمعية الوطنية
* رغم إشارة نزارباييف بأنه لا ينوي تسليم السلطة إلى أي من بناته، لكن اختيار ابنته داريغا لرئاسة مجلس الشيوخ يفتح لها الباب لكرسي الرئاسة
* الانتقال السلمي للسلطة الذي شهدته كازاخستان لن يغير كثيراً من توجهات الدولة الداخلية وتحالفاتها الخارجية
 

باكو:«اتخذت قراراً بإنهاء سلطاتي كرئيس... سأبقى رئيساً لمجلس الأمن، وسأبقى رئيساً لحزب نور أوتمان، وعضواً في الهيئة الدستورية، بمعنى أنني سأبقى معكم»، بهذه الكلمات المفاجئة التي جاءت على لسان الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف، في التاسع عشر من مارس (آذار) 2019. دخلت كازاخستان طورا جديدا من الانتقال السلمي للسلطة لم تعرفه من قبل ولم تشهده أي دولة من دول آسيا الوسطى، تلك المنطقة التي كانت واقعة ضمن الاتحاد السوفياتي السابق، بما تمثله هذه المنطقة بصفة عامة وكازاخستان على وجه الخصوص من أهمية جيواستراتيجية وساحة مهمة للتنافس الدولي. الأمر الذي أثار كثيراً من التساؤلات وقُدمت عدة تحليلات وتفسيرات للدوافع وراء الإقدام على مثل هذه الخطوة التي تكشف عن تحولات يمكن أن تشهدها دولة كازاخستان الأغنى في تلك المنطقة بما تملكه من ثروات نفطية وغاز فضلا عن مساحتها الممتدة لما يزيد على 2.4 مليون كيلومتر مربع، إذ تحتل كازاخستان المرتبة التاسعة عالميا من حيث المساحة والأولى بين الدول الإسلامية. كما تحتل المرتبة الـ16 في قائمة أكبر منتجي النفط، والـ30 للغاز الطبيعي، وتمتلك احتياطيا يقدر بخمس ما في العالم من اليورانيوم، وتتصدر إنتاجه وتصديره عالميًا طبقا لتقديرات عام 2017.
في ضوء ذلك تأتي القراءة المتأنية للخطوة التي أقدم عليها الرئيس نزارباييف من خلال الإطلالة على ما حققته كازاخستان على مدار الثلاثين عاما الماضية من حكمه للوقوف على الدوافع وراء هذه الاستقالة المفاجئة وحقيقتها، وتداعياتها على مستقبل كازاخستان، وذلك من خلال المحاور الآتية:
 
نور سلطان نزارباييف والوصول إلى السلطة
كان نزارباييف المولود عام 1940 في قرية تشيمولغان التابعة إداريا لمقاطعة آلما أتا (ألماتي حاليا) في جمهورية كازاخستان السوفياتية، وقد عمل كرئيس لمجلس وزراء جمهورية كازاخستان لمدة خمس سنوات، حتى وصل إلى الحكم عام 1989 عندما انتحب أمينا عاما للحزب الشيوعي في كازاخستان وانتخب بعد عام رئيسا للبلاد وتحديدا في 24 أبريل (نيسان) 1990. ليعاد انتخابه رئيسًا للبلاد عام 1991 عقب انتهاء الحقبة السوفياتية، وحصول كازاخستان على الاستقلال، ليستمر في رئاسته للبلاد من خلال فوزه في كافة الانتخابات الرئاسية التي جرت في أعوام 1999 و2005 و2011 و2015. ويُذكر أنه في عام 2007 تم إدخال تعديلات دستورية تمنح نزارباييف حقا استثنائيا، بصفته الرئيس الأول لكازاخستان، في الترشح لرئاسة البلاد لفترات غير محددة، وفي عام 2010 أصدر البرلمان قانونا يقضي بمنحه صفة «زعيم الأمة»، كما أصدر قانونا آخر يعطيه أحقية في شغل منصب رئيس مجلس الأمن القومي مدى الحياة.
ويشار في هذا الصدد إلى أن نزارباييف لم يكتف بالألقاب التي مُنحت له خلال تولية السلطة على مدار الثلاثين عاما، وإنما تقديرا لدوره الكبير في بناء دولته ووفاء لجهوده المضنية في الحفاظ على التماسك الداخلي بين أبناء كازاخستان المتعددة القوميات، قرر الرئيس الجديد لكازاخستان قاسم توقاييف على منحه لقبي: بطل الشعب، وبطل العمل، وذلك بقوله: «أظن أن الجميع سيوافقون على أن «يلباسي» [زعيم الأمة - اللقب الرسمي لنزارباييف] يستحق منحه لقبي دولتنا «خلق كهرارماني» [بطل الشعب] و«ينبك يري» [بطل العمل]».
ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل وفي خطوة لم تحدث إلا نادرا، تم تغيير اسم العاصمة الكازاخية باسم «نور سلطان» بدلا من الاسم الحالي «آستانة»، وهذا ما قرره الرئيس توقاييف بقوله: «علينا تخليد اسم نزارباييف العظيم، وأقترح تخليد اسم ابن زمننا العظيم الرئيس الأول لجمهورية كازاخستان نور سلطان نزارباييف، بتسمية عاصمتنا أستانة نور سلطان»، فضلا عن «تسمية كل الشوارع الرئيسية في مراكز أقاليم البلاد باسم نزارباييف»، وهو ما وافق عليه البرلمان الكازاخي بمجلسيه.


 
كازاخستان... استراتيجيتان للتنمية ماذا تحقق؟
إذا كان صحيحا أن ما أقدم عليه الرئيس نزارباييف يمكن أن يُفهم في ضوء التوجهات الحاكمة لسياسة الرجل منذ تولية مقاليد الحكم منذ ثلاثين عاما حينما أقدم على اتخاذ خطوة جريئة بالتخلي طواعية عن الترسانة النووية التي كانت تملكها بلاده حينما كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق، إذ مثّل القرار الصادر في 29 أغسطس (آب) 1991 صدمة حينذاك للجميع، ذلك القرار المتمثل في إغلاق ميدان «سيميبالاتينسك» للتجارب النووية إلى الأبد، وهو اليوم الذي اعتبرته الأمم المتحدة بمقتضى قرار جمعيتها العامة خلال دورتها الرابعة والستين المنعقدة في 2 ديسمبر (كانون الأول) 2009 يوما لمناهضة الاختبارات النووية حول العالم.
ومن ثم، يأتي قراره اليوم بالتخلي طواعية عن رئاسة البلاد ليعطي نموذجا آخر عن رؤية جديدة في كيفية الحفاظ على مكتسبات دولته وما حققته من نجاحات على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، إذ لا يمكن غض الطرف عما وصلت إليه كازاخستان من تقدم وتحديث في مختلف المجالات اقتصاديا وتنمويا، حيث سبقت كازاخستان الأمم المتحدة في رؤيتها التنموية 2030، حينما أعلن الرئيس نزارباييف مع حلول عام 1998 الانطلاقة الثانية لاستراتيجية كازاخستان 2030، بأولوياتها السبع المتمثلة فيما يأتي: تطوير وتعزيز منظومة الأمن القومي، ضمان الاستقرار السياسي الداخلي واستقرار وتماسك المجتمع، النمو الاقتصادي المبني على اقتصاد السوق المفتوح مع مستوى عال من الاستثمارات الأجنبية، الصحة والتعليم والرفاه لجميع الكازاخستانيين، الاستخدام الفعال وتنمية موارد الطاقة، تطوير البنية التحتية، تشكيل حكومة مهنية.
ومما يلفت الانتباه أنه ودون الانتظار لانتهاء تلك الاستراتيجية، إذ مكّن التنفيذ السريع لبعض أولوياتها من التغلب على الفجوة التقنية، وتحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي، ومع مراعاة التحولات والتغيرات الدولية والإقليمية التي شهدها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قدم نزارباييف في ديسمبر (كانون الأول) 2012 ما أطلق عليه «استراتيجية كازاخستان- 2050» والمعروفة باسم «نورلي جول» بمعنى «طريق النور»، والتي هدفت إلى وضع كازاخستان ضمن الـ30 دولة الأكثر تقدما في العالم، وكانت محاورها الرئيسية ضمن برنامجه الانتخابي الذي خاض به الانتخابات الرئاسية عام 2015، حيث تضمن خمسة إصلاحات رئيسية لمواجهة التحديات العالمية، تمثلت فيما يأتي: ضمان سيادة القانون، التصنيع والنمو الاقتصادي، أمة المستقبل الواحد، تشكيل الحكومة الشفافة الخاضعة للمساءلة. ويذكر أنه في أول خطاب له بعد فوزه في هذه الانتخابات، أعلن عما أطلق عليه «خطة الأمة» والتي تتضمن مائة خطوة مدروسة لتنفيذ الإصلاحات الخمسة.
ولم يقتصر الأمر على الداخل الكازاخي فحسب، بل كان للسياسة الخارجية الكازاخية دور مهم أيضا في ترسيخ نجاحه، إذ جاء في بيان له صادر في 31 مارس 2016. أُطلق عليه «بيان القرن الحادي والعشرين» ليعد بمثابة برنامج عمل شامل للدخول في هذا القرن بلا حروب، من خلال العمل وفقا لثلاثة مبادئ رئيسية تمثلت فيما يأتي:

  1. في أي حرب معاصرة، لا يوجد ويستحيل أن يكون فيها منتصر، إذ إن الجميع مهزومون.
  2. في الحرب الحديثة تستخدم أسلحة الدمار الشامل بأنواعها المختلفة (نووية - كيماوية - بيولوجية...) بما سيؤدي إلى وفاة البشرية كلها، وحينها سيكون الوقت قد تأخر ولم يكن مهما الكشف عن المسؤول إزاء ذلك. لذا يجب توضيح هذا الأمر لجيلنا الحالي والأجيال القادمة الذين سيكونون في المستقبل الزعماء الوطنيين ورجال السياسة.
  3. يجب أن يكون الحوار السلمي والمفاوضات البناءة أساسا لتسوية جميع أنواع الخلافات القائمة بين الدول، وذلك على أساس مبادئ تحمل المسؤولية المتساوية على العالم والأمن، والاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

في ضوء تلك المبادئ الثلاثة الحاكمة لسياسة دولته الخارجية تعددت المبادرات وتنوعت دوائر تحركه، ومنها: مبادرة مؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا عام 1992، وتأسيس منظمة شنغهاي للأمن 1995، منتدى الإعلام الأوروآسيوي 2002، تأسيس منتدى زعماء الأديان العالمية والتقليدية عام 2003. منتدى آستانة الاقتصادي السنوى عام 2008. وكان ثمرة كل هذه المجهودات انتخاب كازاخستان للمرة الأولى عضوا غير دائم العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة خلال الدورة (2017 - 2018).


 
كازاخستان ما بعد تخلي نزارباييف... السير على ذات الطريق
رغم إعلان نزارباييف عن نيته التنحي عن السلطة، إلا أنه ظل رئيسا لمجلس الأمن ولحزب «نور أوتمان» الحاكم، وعضوا في المجلس الدستوري، ورئيس الجمعية الوطنية التي تجمع مختلف الأعراق والإثنيات في البلاد حسب الدستور الذي تم إقراره في استفتاء عام 2007. وهو ما يعني كما أشار إلى ذلك الرئيس توقاييف أنه: «سيكون لرأيه الموزون أهمية خاصة، بل الأولوية لدى وضع واتخاذ القرارات الاستراتيجية»، حيث يكمل الرئيس توقاييف، بقية مدة نزارباييف التي تنتهي في أبريل عام 2020، لحين إجراء انتخابات رئاسية طبقا لما هو منصوص عليه دستوريا بأنه في حالة الانتهاء المبكر لصلاحيات الرئيس الحالي، فإن سلطاته تنتقل إلى رئيس مجلس الشيوخ الذي يرأس البلاد حتى انتهاء المدة الانتخابية، ثم يتم إجراء انتخابات رئاسية جديدة.
وغني عن البيان أن كازاخستان لن تشهد تغيرا كبيرا في سياستها سواء الداخلية أو الخارجية وإنما من المتوقع أن تظل على النهج الذي رسم مساراته نزارباييف، يؤكد على ذلك ثلاثة مؤشرات مهمة: الأول، يتعلق بالرئيس المستقيل، إذ إن ثمة هيمنة مستمرة للرئيس نزارباييف على رسم سياسة بلاده وهو ما أكده بقوله: «سأكون معك لأخدم حتى نهاية أيامي.. أرى مهمتي المستقبلية في ضمان جيل جديد من القادة»، وهو ما يعني دوام السيطرة على كافة مفاصل الدولة. أما المؤشر الثاني، فيتعلق بالرئيس الجديد، حيث كان اختيار قاسم توقاييف رئيس مجلس الشيوخ لرئاسة البلاد، والذي كان وزيرا سابقا للخارجية كما شغل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء، ورئيسا للوزراء، بناء على اختيار الرئيس نزارباييف وتزكيته له وذلك بقوله: «توقاييف هو الشخص الذي يمكن الاعتماد عليه في إدارة كازاخستان»، مؤكدا في كلمته على أنه سيسير على النهج ذاته بقوله: «وقد عمل إلى جانبي منذ الأيام الأولى لاستقلال كازاخستان، وأعرفه جيدًا، ويدعم السياسة القائمة داخل وخارج البلاد بالكامل حيث تم إعداد جميع البرامج واعتمادها بمشاركته، وهو ما أكده توقاييف ذاته في خطابه أمام مجلس الشيوخ عقب توليه المسؤولية بقوله: «انطلاقا من إدراكي الكامل لمسؤوليات المهمة القادمة، فإننى أخطط لتوجيه معرفتي وخبرتي إلى أقصى درجة لضمان استمرارية المسار الاستراتيجي لزعيم الأمة»، فضلا عن قراره كذلك بالإبقاء على جميع الصور الفوتوغرافية والبورتريهات التي تصور الرئيس الأول، في كافة المباني العامة، ومكاتب موظفي الخدمة العامة، ومباني المؤسسات التعليمية. أما المؤشر الثالث لاستمرار كازاخستان على ذات النهج، فيتعلق بالرئيس المحتمل، ويعني اختيار داريغا نزارباييف، ابنة الرئيس نزارباييف رئيسة لمجلس الشيوخ، والتي كانت تشغل منصب نائب رئيس الوزراء، ورئيس الكتلة البرلمانية لحزب نور أتمان في البرلمان، حيث تُعد من أبرز المرشحين لتولي الرئاسة، خاصة منذ أن أسست حزبها (حزب آسار) واندمج مع حزب نزارباييف (أرض الأجداد) عام 2006 تحت اسم حزب نور أوتمان ويعني «شعاع أرض الأجداد». ورغم إشارة نزارباييف بأنه لا ينوي تسليم السلطة إلى أي من بناته، إلا أن الأمر قد يشهد تطورا في هذا السياق خاصة أن اختيارها لرئاسة مجلس الشيوخ يفتح لها الباب إما للترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة مارس 2020 أو تؤول لها الرئاسة آليا إذا ما تنحى الرئيس الجديد قبيل موعد هذا الاستحقاق الرئاسي.
نهاية القول إن الانتقال السلمي للسلطة الذي شهدته كازاخستان وإن كان يعطي مؤشرا جديدا لم تشهده جمهوريات آسيا الوسطى منذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي في تسعينات القرن المنصرم إلا أنه لن يغير كثيرا من توجهات الدولة الداخلية وتحالفاتها الخارجية، وإنما كان يستهدف في المقام الأول الحفاظ على ما حققته الدولة من منجزات في مجالات عدة، يخشى الرئيس نزارباييف في حالة غيابه ضياع ما تحقق في ظل ما يشهده العالم من تغيرات وتحولات، وهو ما كان بارزا في خطابه الأخير بقوله: «نرى جميعًا أن العالم يتغير ولا يقف مكانه، وتظهر فرص جديدة، كما تظهر أيضًا تحديات تكنولوجية وديموغرافية عالمية جديدة، وكذلك هناك عدم استقرار في النظام العالمي... وينبغي أن نتغير نحن أيضا مع العالم. ولذلك أناشد الجيل الناشئ من الشباب الكازاخي: حافظوا على كازاخستان المستقلة ووطننا المشترك هذا هو شعبنا وهذه أرض أجدادنا العظماء. لدينا وطن واحد، وأرض واحدة. حافظوا على الصداقة ووحدة شعبنا، وعلى ثقتنا المتبادلة واحترام ثقافة وتقاليد كل مواطن كازاخي. وفقط من خلال هذا سوف نصبح أقوى وسنتجاوز التحديات وسيتحقق الازدهار»، تعكس هذه الكلمات مدى حرص نزارباييف على ضمان إعادة ترتيب أوضاع بلاده التي ساهم بشكل رئيسي في بنائها ما بعد الاستقلال ورسم مساراتها، وذلك قبل غيابه، مستفيدا في ذلك من تجارب دول أخرى شهدت غياب لرؤسائها الأوائل دون ترتيبات مسبقة بما قد يُدخلها في صراعات سياسية تهدد وجودها خاصة إذا كان بها تعدديات مختلفة على غرار دولته التي بها ما يزيد على 300 عرقية.

font change