الأرمن... جدل «الحقيقة التاريخية» و«الجدارة الأخلاقية»

بايدن يدين... وإردوغان يحتج وآذربيجان تعلق!

اللقاء بين إردوغان (يسار) وبايدن على هامش قمة مجموعة العشرين (رويترز)

الأرمن... جدل «الحقيقة التاريخية» و«الجدارة الأخلاقية»

القاهرة: في رد فعل متوقع هاجم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان نظيره الأميركي جو بايدن بسبب تكراره استخدام مصطلح «إبادة الأرمن» لوصف ما تقول أنقرة إنه حوادث وقعت شرق الأناضول عام 1915 في زمن الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى راح ضحيتها أتراك وأرمن. إردوغان دعا بايدن إلى «تعلم التاريخ» قبل الإدلاء بدلوه بشأن ما يسميه إردوغان «مزاعم» الأرمن حول أحداث 1915، منتقدًا بشدة تعبيرات تستخدمها حكومات وبرلمانات بعض الدول. وجاء رد إردوغان بعد إعلان رسمي أميركي من بايدن بمناسبة ذكرى الحوادث (24 أبريل/ نيسان) من كل عام، وصف الموقف الرسمي الأميركي قائلًا: «لا نرى أنها تستحق حتى التوقف عندها لأنها مبنية على أكاذيب ومعلومات خاطئة بشكل كامل».

وهكذا كان المشهد الأخير في سجال طويل تقاطعت فيه معايير كل من: «الحقيقة التاريخية»، و«الجدارة الأخلاقية».

لعبة: قل ولا تقل!
في سلسة شهيرة من التنويهات اللغوية القصيرة في الإعلام المصري كانت هناك رسالة- ربما كانت لها مثيلاتها في الإعلام العالمي- تنبه الناطقين بالعربية إلى الأخطاء اللغوية الشائعة، ولم يكن في الأمر سجال ولا خلاف بين المتحدث والسامع، وكان مرد انتفاء الخلاف «وحدة مرجعية الطرفين»: المعاجم اللغوية، لكن السياسة الدولية اليوم تدفع- جزئيًا- ثمن غياب «وحدة المرجعية» في العلاقات الدولية (!)


وإلى جانب التسييس (وهو ما لم يغب يومًا عن العلاقات الدولية)، يشهد العالم حالة من الاهتمام المتزايد بفكرة «الجدارة الأخلاقية» للدول (وربما الشعوب والثقافات والحضارات)، ما يفسر حالة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية تنشب فيها صراعات حول «معايير التكريم والتجريم»، وقبل سنوات قام مثقفون غربيون بجولة رمزية للاعتذار لشعوبنا العربية عن الحملات الصليبية بعد أن مرت عليها قرون، واليوم تضاف إلى قائمة مشاجرات «التجريم والتكريم» قضية إبادة الأرمن.

مذابح الأرمن حكايات القتل التي يُتهم الأتراك بارتكابها (غيتي)


والحساسية المستجدة، أو ربما المتصاعدة، في العلاقات الدولية إزاء صورة كل دولة في الخطاب الرسمي لغيرها من الدول من ثمار الانفتاح العالمي الكبير على التواصل الجماهيري الواسع، بعد أن كانت مثل هذه القضايا، إلى حد كبير، جبيسة أروقة مؤسسات الدبلوماسية. وقد أصبحت هناك جملة من القضايا في العلاقات الدولية يدور النقاش بشأنها على قاعدة «قل ولا تقل»!


ومنذ سنوات ترد تركيا على خطاب الإدانة بدعوة الباحثين والأكاديميين لزيارة مكتباتها الوطنية والاطلاع على أرشيف يضم أكثر من مليون وثيقة تاريخية تتعلق بالقضية. وبحسب الأرشيف العثماني قتل قرابة 47 ألف شخص في مجازر ارتكبتها الجماعات الأرمينية المسلحة، وقد اكتشفت عدة مقابر جماعية للضحايا الأتراك بدءًا من العام 1991. واستنادًا إلى وثيقة فإن هناك 185 مقبرة جماعية في مناطق شرق الأناضول وجنوبه الشرقي. والرئيس التركي رجب طيب إردوغان في رده على الموقف الأميركي الرسمي سعى إلى «تصحيح» الأخطاء المتداولة فتحدث عما سماه: «عصابات أرمنية» ارتكبت مجازر في الأناضول بدعم وتحريض من دول أجنبية، بينما كانت الدولة العثمانية تخوض حرب مصير، وفي سجال الأرقام قال إردوغان إن عدد الضحايا المسلمين الذين قتلهم الأرمن أضعاف القتلى الأرمن. وتقرّ تركيا بوقوع قتلى، لكنّها ترفض استخدام مصطلح «الإبادة الجماعية»، معتبرة ما حدث «حربا أهلية في الأناضول مصحوبة بمجاعة قضى خلالها ما بين 300 و500 ألف أرمني وما يعادلهم من الأتراك». وكان الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي جاء من كاليفورنيا، أحد معاقل المهاجرين الأرمن، الرئيس الأميركي الوحيد الذي يصف ما حدث من أعمال القتل علنا بأنها إبادة جماعية. ورغم أن الإعلان الرسمي الأميركي في 2021 لم يؤسس لمساءلة فإنه بقي مدانًا في الخطاب التركي، بايدن قال: «نحن نفعل ذلك لا لإلقاء اللوم ولكن لنضمن أن ما حدث لن يتكرر أبدًا»، لكن الحساسية المتزايدة المشار إليها سلفًا تفسر استمرار «الشجارات الرسمية» بين الحليفين.

مفارقات تركية أرمنية راهنة
وكالة الأنباء السويسرية (سويس إنفو) توقفت في تقرير حديث لها (24 أبريل 2022) أمام جانب يعكس مفارقات حسابات المصالح السياسية الداخلية المتصلة بالملف المثير للجدل، وحسب التقرير، ألغيت أنشطة لإحياء الذكرى في تركيا، فيما تحاول أنقرة ويريفان تطبيع العلاقات. وبعد أن قرر الرئيس الأميركي جو بايدن أن يكون أول رئيس أميركي يصدر إدانة رسمية تستخدم وصف «الإبادة الجماعية» تخلت تركيا عن سماحها لسنوات بإحياء الذكرى، وبدأ مثقفون أتراك إحياء الذكرى منذ العام 2005، واعتبارًا من العام 2010 كانت الحكومة تسمح بتجمعات علنية شرط عدم استخدام الوصف. ومنذ العام 2014 تقدم الرئاسة التركية رسائل تعزية لأحفاد القتلى الأرمن عام 1915. والمفارقة الثانية أن غارو بايلان، النائب عن حزب الشعوب الديمقراطي، والمتحدر من أصول أرمنية قدم مشروع قانون قبل أيام للاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن.

خلال ذكرى إحياء المذابح الجماعية ضدّ الأرمن (رويترز)


وقد أضاف التعليق الرسمي الأذربيجاني على الموقف الأميركي، هو الآخر، بُعدًا مهمًا للصورة، فأذربيجان التي تعتبر الطرف الرئيسي في السجال حول ما حدث للأرمن خاضت مؤخرًا حربًا ضد أرمينيا بسبب إقليم متنازع عليه، وهي حرب أسهمت في توثيق علاقتها بتركيا. وقد أعربت أذربيجان عن أسفها إزاء الموقف الرسمي الأميركي مؤكدة رفضها لمحاولات تسييس القضية واصفة كلام بايدن بـ«العرض الخاطئ للأحداث»، وهو ما ينبغي أن يدرسه المؤرخون لا السياسيون. وفي مفاوضات تجري بين أرمينيا وتركيا لتجاوز عمره عشرات السنين لم تكن القضية على جدول أعمال المفاوضات، ما قد يجعل الموقف الأميركي يبدو تحريضيًا أو أكثر تشددًا من موقف الحكومة الأرمينية نفسها.

تشدد ديني أم قومي؟
إحدى المسائل المهمة التي تثيرها النقاشات حول الوقائع، ما إذا كانت أصابع الاتهام تشير إلى تشدد ديني أم قومي؟. موقع موسوعة الهولوكست (https://encyclopedia.ushmm.org/ar) يتحدث بوضوح عن أن «الحكومة العثمانية- التي كانت خاضعة لجمعية الاتحاد والترقي التي أُطلق عليها أيضًا الأتراك الشباب- سعت إلى ترسيخ الهيمنة التركية المسلمة في منطقة الأناضول الشرقية، من خلال القضاء على عدد كبير من الأرمن هناك». وتضيف الموسوعة أنه خلال الفترة بين 1915-1916 قُتل عدد كبير، تضيف: «ولقي كثيرون حتفهم خلال عمليات الترحيل الواسعة نتيجة للمجاعة والجفاف والتعرض للمخاطر والأمراض». وبحسب موقع الموسوعة: «في 17 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1895، استولى الثوار الأرمن على البنك الوطني في القسطنطينية، مهددين بتفجيره وقتل أكثر من 100 رهينة ما لم تمنح السلطات للأرمن حكمًا ذاتيًا». وفي ما يتصل ببنية النظام السياسي وقت الوقائع المشار إليها تقول الموسوعة إنه «في يوليو (تموز) 1908، استولى فصيل أطلق على نفسه اسم الأتراك الشباب (حركة تركيا الفتاة) على السلطة في القسطنطينية (العاصمة العثمانية). وكان الأتراك الشباب مجموعة مكونة أساسًا من ضباط عسكريين وبيروقراطيين من مواليد البلقان، استولوا في عام 1906 على مجتمع سري عُرف باسم لجنة الاتحاد والتقدم (CUP) (يقصد حركة الاتحاد والترقي)، وقاموا بتحويله إلى حركة سياسية». وكان هدف الحركة إنشاء نظام دستوري ليبرالي علماني. وبين عامي 1909 و1913، انحرف نشطاء الاتحاد والترقي بشكل متزايد نحو رؤية وطنية قوية للإمبراطورية. «لقد تصوروا دولة مستقبلية لم تكن متعددة الأعراق و(عثمانية)، ولكن ثقافية ومتجانسة تركية»، لم يكن سبب المأساة إذن «كراهية دينية»، بل كان رغبة في تأسيس دولة وطنية حديثة علمانية، وكان الأرمن يُعتبرون في نظر نخبة الاتحاد والترقي عقبة في طريق تجانسها السكاني.


إن الإبادة الجماعية تمثل وجها من وجوه ظاهرة أوسع نطاقًا هي العنف، وهي تظل صفحة سوداء من تاريخ العصر الحديث، وبخاصة منذ بداية القرن العشرين، الذي شهد مقتل ما يقترب من ربع مليار من البشر على يد بشر آخرين. وخلال النصف الأول منه قتل عشرات الملايين في الحربين العالميتين، فضلًا عن عدة ملايين قضوا في معسكرت الاعتقال النازية. وقد أحصى الباحث الأميركي المتخصص في دراسة الإبادة آر جي روميل مقتل أكثر من 160 مليونا من «المدنيين» قتلتهم «حكوماتهم» بسبب التحديث الاقتصادي- وهو رقم مرعب- فضحايا التحديث الاقتصادي في تجربة جوزيف ستالين، وتجربة ماو تسي تونغ أكثر من ضحايا أيٍّ من الحربين العالميتين، والقائمة تمتد لتشمل ضحايا حكم «الخمير الحمر» في كمبوديا وضحايا الإبادة في رواندا وغيرهم وغيرهم... لكن العالم يبدو أنه يتجه إلى أن يكون أكثر اكتراثًا.

font change