هل تكون السعودية نواة «الكتلة الوسيطة» في العالم الجديد؟

ترتيب أوضاع المنطقة وتطبيعها استعداداً لملء الفراغ الأميركي

العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان. (AP)

هل تكون السعودية نواة «الكتلة الوسيطة» في العالم الجديد؟

جدة: لم يكن الموقف السعودي المتوازن من الحرب الروسية- الأوكرانية، مفاجئاً للمتابعين السياسيين، فقد كان حصيلة سنوات طويلة من العمل السياسي السعودي القائم على قراءة موازين القوى العالمية بدقة وتنويع الشركاء والحلفاء، إلى جانب «تخبط السياسية الأميركية والنهج المؤدلج منذ عهد الرئيس أوباما، حيث مارست سياسة تخريبية بدعم الثورات التي مزقت عدداً من الدول العربية وتبني فكر تنظيم الإخوان وإيران» بحسب المحلل السياسي السعودي الدكتور أحمد الشهري.


وبحسب ما يدور في الأوساط السعودية، فإن الإدارة الديمقراطية الحالية هي استكمال للمسيرة الأوبامية عبر تدخلها في الشؤون الداخلية للدول الخليجية والعربية؛ بأسلوب يتنافى مع ثوابت الشراكة السعودية- الأميركية منذ 8 عقود نحو التحول من علاقة التحالف إلى التبعية.


ليس الأمر مقتصراً على ذلك، فالسياسة الروسية توجهت نحو العرب، وبخاصة السعودية، بأسلوب أكثر توازناً وتكافؤاً؛ حتى في الأوقات الصعبة. فلا تصدر الخارجية الروسية تقارير حول الشؤون الداخلية للدول العربية والحريات الدينية والسياسية وغيرها، لتوجهها سيفاً مسلطاً في التعامل مع الدول العربية كما يفعل الأميركيون.


لقد أظهر الموقف السعودي من الحرب السلافية الدائرة بين الروس والأوكران، مقاربة جديدة، يمكن التعويل عليها لتكوين نواة «الكتلة الوسيطة» في العالم الجديد، الذي يولد الآن. فما هي تلك الكتلة؟ وكيف يمكن أن تقوم بدور فاعل على الساحة السياسية العالمية؟ وكيف لنواتها أن تساهم في تعديل التشوه السياسي العالمي المتمثل بانفراد قوة واحدة، الولايات المتحدة، بإدارة العالم، بالتعاون مع الأصدقاء والشركاء والحلفاء؟  

لا شرقية ولا غربية
ليست «الكتلة الوسيطة» انحيازاً لطرف دون آخر، بل إنها تمثل النزوع نحو علاقات متوازنة مع الجميع، بما يخدم مصالح تلك الكتلة. ولا يعد الأمر تنظيراً، فقد أكدت السعودية استعدادها للوساطة بين روسيا وأوكرانيا في النزاع الدائر حالياً، مما يعني أنها لم تتخذ طرفاً لتقف معه دون آخر؛ رغم أن المصالح السعودية- الروسية أكبر بكثير من السعودية- الأوكرانية. لم تفرض السعودية ومعها شركاؤها وحلفاؤها، أية عقوبات على روسيا كما يريد الطرف الغربي، كما أنها لم تعترف بالجمهوريتين اللتين أعلنتا من جانب روسيا.


من الصعب تخيّل حصول حالة عداء مفتوح مع الولايات المتحدة، فالتنسيق بين الدولتين جار على قدم وساق، كما أن «هناك تواصلاً يومياً تقريباً بين مسؤولين سعوديين ونظرائهم الأميركيين، وهناك تنسيق وثيق على قائمة طويلة من المسائل بما فيها الأمن والدفاع ومكافحة الإرهاب وتقوية التعاون الاقتصادي والاستثمار» كما أوضح حديثاً المتحدث باسم السفارة السعودية في الولايات المتحدة، فهد ناظر.


وعلى الطرف الآخر، حافظ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على علاقات دافئة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مع فتح باب التواصل باستمرار. كما أن التنسيق بشأن أسواق النفط متواصل عبر اتفاق «أوبك بلس» حتى الآن.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ضيافة الملك سلمان بن عبد العزيز بالرياض، 14 أكتوبر/تشرين الأول 2019. (رويترز)


«لا شرقية ولا غربية! إن تموضع السعودية سياسياً في موقع وسيط، ليس بالضرورة موجهاً ضد أحد أو مع أحد ضد آخر. لا يمكن تخيّل أن تنتقل حالة اختلاف وجهات النظر بين السعودية والولايات المتحدة إلى حالة من العداء. وفي الوقت نفسه، ليس من الواقعي تحول السعودية إلى الدعم العلني لروسيا أو الانضمام إليها في تحالف معلن»، يوضح المحلل السياسي العربي عبد الرحمن عبد الجبار، الذي قضى فترة من حياته بين روسيا والولايات المتحدة.


ويضيف: «تستخدم الولايات المتحدة لغة مستفزة أحياناً في الحديث عن حلفائها، ومنهم السعودية. فهناك حديث عن استخدام العصا والجزرة، وهي لغة غير لائقة. كما سينظر المشرعون الأميركيون هذا الأسبوع في مشروع قانون NOPEC الذي يتيح رفع دعاوى احتكار لرفع أسعار النفط ضد الدول المنتجة في منظمة أوبك ودول متحالفة معها من خارجها مثل روسيا. إن مقترحات هذه القوانين وغيرها، بغض النظر عن صحة ادعاءاتها، لا تبني علاقات جيدة بين الدول».

انعكاس الوقع الاقتصادي
تقترب السعودية هذا العام من تحقيق ناتج إجمالي يصل إلى تريليون دولار مع نمو هائل في الاقتصاد، بلغ نحو 10 في المائة في الربع الأول من العام الجاري. ويبدو أن مسيرة النمو متواصلة في المدى المنظور.


إن الواقع الاقتصادي للسعودية، يتيح لها مساحة أوسع واستقلالاً أكبر فيما يخص تحديد موقعها في العالم الجديد. إنها سوق كبيرة للشرق والغرب، وتنتج سلعاً يحتاجها الشرق والغرب، سيما النفط والمنتجات البتروكيماوية. وكما هو الحال مع دول نامية مثل الهند والبرازيل والمكسيك، التي أصبحت تضطلع بدور أكبر في السياسات العالمية مع نمو نواتجها المحلية خلال العقود الماضية، فإن السعودية لها الامتياز ذاته عبر تحولها إلى نواة الكتلة الوسيطة، التي تتعاون مع الجميع من أجل عالم أكثر استقراراً، وبخاصة من بوابة الاقتصاد.


ويقول الصحافي الاقتصادي السعودي فهد البقمي: «فيما يتجه الاقتصاد الوطني إلى تحقيق نمو هائل، يتصاعد ترتيب صندوق الاستثمارات العامة إلى المرتبة الخامسة عالمياً بحجم إجمالي يبلغ 620 مليار دولار. ومن المتوقع تحقيق فوائض مالية ضخمة هذا العام، يمكن ضخها في الداخل والخارج، الأمر الذي يعزز النفوذ الاقتصادي السعودي حول العالم».

الواقع الاقتصادي للسعودية، يتيح لها مساحة أوسع واستقلالاً أكبر فيما يخص تحديد موقعها في العالم الجديد، مدينة «نيوم» الصناعية أكبر تجمع صناعي عائم في العالم.


ومن هنا، يعزز الوضع الاقتصادي السعودي المتين، مرونة وحرية أكبر وقدرة أكبر على تكوين نواة الكتلة العالمية الوسيطة، ذات العلاقات الاقتصادية المتوازنة مع الجميع.

التطورات السياسية
«فيما تستعد الولايات المتحدة لمغادرة المنطقة والتفرغ للمواجهة مع روسيا والصين، تشير الحركة السعودية النشيطة إلى ترتيب أوضاع المنطقة وتطبيعها استعداداً لملء الفراغ الأميركي. إن المحادثات مع إيران وتركيا والعراق والتحرك الأخير في الشأن اليمني وعودة السفير السعودي إلى بيروت، توضح أن المملكة تستعد لتحمل دور المهدئ وداعم الاستقرار؛ بعيداً عما يحصل في الغرب وروسيا والصين»، يوضح المحلل عبد الجبار.
من هنا، يمكننا استنتاج أن الكتلة الوسيطة، التي تشكل السعودية نواتها، هي داعمة للسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بشكل خاص. وتستفيد هذه النواة من مكامن القوة السعودية السياسية والاقتصادية والدينية.

جندي سعودي في موقع على الحدود مع اليمن (غيتي)


«قد يتطور الأمر، وبخاصة مع انضمام المزيد من الدول الحليفة والصديقة، إلى أن تكوين قوة ثالثة تلعب دور الموازن بين عالم متعدد القوى، فالانخراط في الحروب والصراعات لا يحمل الخير للبشر، في ظل تحديات الغذاء والطاقة واستدامة الموارد»، يختتم عبد الجبار.  

font change