2023 عام الرهانات والتحديات للاقتصاد المغربي

الجفاف والتضخم يقلق المغاربة والصراع بين دول شمال إفريقيا يضيع فرصا هائلة للنمو

 أكسيل رانغيل
أكسيل رانغيل

2023 عام الرهانات والتحديات للاقتصاد المغربي

أنهى الاقتصاد المغربي العام المنصرم بأفضل من بدايته، التي ارتبطت بتداعيات جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية على أوكرانيا، وتسجيل موجة جفاف استثنائية، وارتفاع غير مسبوق في التضخم والأسعار، وتقلص في الانفاق والاستهلاك، وعجز في الموازنة الحكومية، وقلق اجتماعي وشعبي، ونمو في الناتج المحلي الاجمالي لم يتجاوز 1,1 في المئة، بعدما كان سجل 7,9 في المئة عام 2021.

لكن تحسنت الصورة كثيرا في نهاية العام 2022، وساهم في ذلك بلوغ المنتخب الوطني المغربي المربع الذهبي في كأس العالم في قطر، وواكبها انتعاش في قطاع السياحة والسفر، وامتلأت الفنادق وتجاوزت الحجوزات عدد الغرف والأسرة. وتناسى موظفو السياحة أن فنادقهم كان بعضها مغلقا، والآخر شبه فارغ على امتداد زمن كوفيد-19، الذي عمّر سنتين ونصف السنة. تماما كما تناسى المزارعون جفافا قاسيا دام شهورا طويلة شحت فيها التساقطات المطرية، وساد الكساد وتراجع الانتاج الفلاحي، وتفاقمت أزمة المياه العذبة في المناطق الأقل حظا.

يقال في المغرب "إن التنوع الاقتصادي في مصادر الدخل، ضروري لمواجهة الأزمات الخارجية، وإن عودة المطر تساعد على اخضرار الطبيعة وتحسين مزاج المستثمرين، ورفع معنويات السياسيين". دليلهم أن موروثا شعبيا كان يقول "إن المطر يساعد على تدبير شؤون الناس وإطعامهم، مما يزيد في رضاهم على الحاكم".

وكثيرا ما تصف المؤسسات المالية الدولية الاقتصاد المغربي بأنه بين الأكثر تنوعا في شمال إفريقيا والشرق الاوسط، لكنه أيضا بين الأكثر تضررا من ارتفاع أسعار الطاقة، والتغيرات المناخية، والأزمات الدولية، وهذا ما حدث عام 2022 حين تألّب التضخم مع الجفاف، ليبلغ السيل الزبى مع تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا.

وأفاد المصرف المركزي في تقريره الأخير قبل نهاية السنة المنصرمة، "أن القيمة المضافة تراجعت في أكثر الأنشطة الزراعية وبلغ انخفاضها 15 في المئة، بسبب ظروف مناخية غير مساعدة"، وتوقع أن تعاود الزراعة انتعاشها عام 2023، وتحقق فائض قيمة بنسبة 7 في المئة مع فرضية العودة الى موسم زراعي متوسط في إنتاج القمح يبلغ 8 ملايين طن.

وكان مناخ عام من الجفاف كلّف خزينة المغرب ثلاثة مليارات دولارلاستيراد القمح والشعير والذرة في عشرة أشهر، بحسب تقرير مكتب الصرف المشرف على التجارة الخارجية، الذي قال: "إن فاتورة الطاقة زادت 100 في المئة، ووصلت الى نحو 13 مليار دولار، كما زادت كلفة واردات القمح 90 في المئة"، وغطت صادرات الفوسفات نحو 80 في المئة من كلفة شراء النفط والغاز والقمح المدفوعة بالدولار، بفضل زيادة الطلب على الأسمدة الفوسفاتية التي يعتبر المغرب أول منتج ومصدّر لها عالميا.

وبدأ الحديث إعلاميا عن ديبلوماسية الأسمدة الزراعية، بعدما قاطعت دول غربية عدة الأسمدة الروسية بسبب الحرب، وظهر المغرب فاعلا دوليا حتى داخل أسواق القارة الأميركية من كندا إلى البرازيل.

وقال مكتب الصرف المشرف على الاحتياط النقدي "إن الرباط صدّرت ما قيمته تسعة مليارات دولار من مبيعات السيارات حتى أكتوبر/ تشرين الأول، كما حصلت على عائدات بقيمة 176,6 مليار درهم، أي نحو 18 مليار دولار، من صادرات الخدمات المالية والسياحية والرقمية وتكنولوجيا العمل عن بعد (offshoring)، ولأن للمغرب جالية في خارج البلاد تفوق 5 ملايين نسمة، فهي حولت الى بلادها 89 مليار درهم أي قرابة تسعة مليارات دولار. ونمت الاستثمارات الأجنبية المباشرة (Foreign Direct Investment - FDI) 50 في المئة، وتجاوزت التدفقات الاستثمارية الخارجية 32 مليار درهم، أي نحو 3 مليارات دولار في عشرة شهور، جعلها الأولى في شمال إفريقيا.

لا تخفي هذه الأرقام على أهميتها صعوبات ماكرو-إقتصادية، وتحديات اجتماعية، ونسب بطالة مرتفعة لدى الشباب والنساء، لكنها تبقى أقل سوءا في ظل وضع دولي مضطرب، تتجاوز فيه عدم اليقينية معدلات قياسية.

وقال رئيس الحكومة عزيز أخنوش أمام البرلمان في مناقشة الأسئلة الشهرية "إن الرهان الأساس الذي تعمل عليه الحكومة، هو تجنب أي تأثير خارجي مفاجئ مناخيا أو دوليا، لذلك هي تعمل في سباق مع الزمن لأجل إنتاج 52 في المئة من الكهرباء الذاتية من الطاقات المتجددة، واستثمار 15 مليار دولار في مشاريع ضخ المياه لتزويد المدن وحاجيات الزراعة من أجل توفير الأمن الغذائي ومواجهة التغيرات المناخية، وأيضا الاستثمار في الإنسان عبر قطاعات التعليم والرياضة، والصحة وبناء المستشفيات، والرعاية الاجتماعية تحسبا لكل طارئ اقتصادي بكلفة اجتماعية، أو أوبئة بكلفة صحية". وكان المغرب خسر نحو 6 في المئة من الناتج الإجمالي، وتضررت نحو أربعة ملايين أسرة من تداعيات أزمة كوفيد عام 2020.

وكان الملك محمد السادس دعا الحكومة في افتتاح دورة البرلمان في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إلى الإعداد لمواجهة التغيرات المناخية ونقص الموارد المائية، وتعزيز الاحتياطات الضرورية في ظل شح المياه، وتسريع المشاريع الاستراتيجية والاستثمارات في مجالات الطاقات المتجددة والمياه والاقتصاد الأخضر، وتحسين مناخ الاستثمار والأعمال لخلق مزيد من فرص العمل، والاهتمام بالعنصر البشري خاصة الشباب والنساء.

ويبدو أن الحكومة (الليبيرالية من وسط اليمين) وضعت ضمن أولوياتها هذه "الوصفة الملكية وشرعت في تنفيذ خطة "الحماية الاجتماعية"، وهو برنامج طموح ينطوي على رهانات كبيرة، ويمتد على خمس سنوات، كان الملك محمد السادس أطلقه غداة جائحة كورونا. ويكلف البرنامج نحو خمسة مليارات دولار سنويا، لتعميم التأمين الصحي على جميع سكان المغرب بزيادة 11 مليون شخص إضافي، وضمان راتب دائم لفئة واسعة من غير الأجراء والموظفين، وتحويل برامج الدعم التي بلغت أربعة مليارات دولار في العام المنصرم، إلى مساعدات مباشرة للفئات الفقيرة والهشة، لتقليص معدلات الفقر، ضمن أهداف التنمية المستدامة المصادق عليها في الأمم المتحدة.

 تصف المؤسسات المالية الدولية الإقتصاد المغربي بأنه بين الأكثر تنوعا في شمال إفريقيا والشرق الاوسط، لكنه أيضا بين الأكثر تضررا من إرتفاع أسعار الطاقة، والتغيرات المناخية والأزمات الدولية.

 57 مليار دولار موازنة عام 2023

لا أحد في المغرب يختلف حول الأهداف التي دافعت عنها الحكومة أمام البرلمان لمناسبة مناقشة موازنة 2023، بقولها إنها تعتمد نموذجا تنمويا جديدا، يسعى إلى تأهيل المغرب ليكون ضمن الاقتصادات الخمسين الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة. لكن الوصول إلى تلك الأهداف يحتاج إلى جهد وتمويل وكلفة ونفس طويل.

وقالت وزيرة الاقتصاد والمال نادية فتاح العلوي لـ"المجلة" إن موازنة 2023 تسعى الى تحقيق ثلاثة أهداف استراتيجية: "1- إستكمال تنفيذ خطة الرعاية الاجتماعية. 2- إطلاق برامج استثمارية كبيرة لإنعاش الاقتصاد وتحفيز سوق العمل. 3- تحسين الحسابات الماكرو-إقتصادية لتجنب أي استدانة خارجية للمحافظة على السيادة المالية لمواصلة الاصلاحات".

لأجل ذلك رصدت الحكومة  موازنة قيمتها 599 مليار درهم، أي نحو 57,27 مليار دولار، هي الأكبر من نوعها في تاريخ المغرب، جزء مهم منها سيغطي نفقات قطاع الصحة والتعليم بقيمة 10 مليارات دولار عام 2023، تضاف إليها نفقات اجتماعية أخرى بقيمة 1,6 مليار دولار بمثابة مساعدات مباشرة لنحو سبعة ملايين تلميذ من أسر فقيرة .

 وقال رئيس فريق الحركة الشعبية المعارض إدريس السنتيسي لـ"المجلة": "إننا نعمل من أجل دفع الحكومة الى ترجيح التوازنات الاجتماعية في هذه الظروف الاستثنائية، بينما الحكومة منشغلة أكثر بالتوازنات المالية ولو على حساب قضايا اجتماعية". وكان موضوع الضرائب لتمويل النفقات الإضافية، فجر صراعا مع الحكومة قادته بعض المهن مثل الأطباء والمحامين والموثقين والمحاسبين، وأساتذة القطاع الخاص، انتهى بحلول وسطى من الطرفين.

تفادي الإملاءات الخارجية

الحقيقة أن الرباط تتفادى منذ سنوات السقوط في شروط صندوق النقد الدولي، في حال أي اخفاق مالي، كما حدث قبل أربعين سنة خلال برامج الإصلاح (Plan d'Ajustement Structurel)، أو كما يحدث حاليا مع دول في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، من تونس الى لبنان مرورا بمصر والأردن. لذلك يحرص المغرب على الحفاظ على معدلات عجز الموازنة في الهوامش المسموح بها مع صندوق النقد والبنك الدوليين، وإبقاء النفقات الاجتماعية.

وأعلن الملك خطة استثمارية قيمتها 55 مليار دولار، لتطوير الاقتصاد الخاص وزيادة انخراطه في الأسواق الدولية، وتوفير نصف مليون وظيفة جديدة  للمتخرجين الجدد من الجامعات وللشباب. وتراهن الرباط على خطة النموذج التنموي الجديدة التي تمتد الى سنة 2035، لمضاعفة الدخل الفردي وتقليص بطالة الشباب والنساء، وترجيح كفة الاستثمار الخاص المحلي والدولي، مقارنة مع الوضع الحالي حيث الغلبة للقطاع العام.

ويفضل المغرب صيغة تشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي على فكرة الإقتراض، إلا في حال الضرورة. وارتفعت موازنة الإستثمار العمومي الى 300 مليار درهم أي نحو 28,68 مليار دولار في سنة 2023، وهي الأكبر من نوعها في سنة واحدة، تشارك فيها الحكومة بالثلث، وتساهم الشركات التابعة للدولة، وصندوق محمد السادس للإستثمار، وهو صندوق سيادي، بالثلثين.

وتوقع البنك المركزي أن تسجل التدفقات الاستثمارية الأجنبية المباشرة (FDI) 3,2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي خلال عامي 2023 و2024، وأن ترتفع الأصول الاحتياطية الرسمية والاحتياط النقدي بالعملات الأجنبية والذهب الى 36,3 مليار دولار في السنة الجارية و37 مليار دولار في سنة 2024.

تعتمد الحكومة المغربية نموذجا تنمويا جديدا، يسعى إلى تأهيل المغرب ليكون ضمن الإقتصادات الخمسين الأولى في العالم في السنوات القليلة المقبلة. لكن الوصول إلى تلك الأهداف يحتاج إلى جهد وتمويل وكلفة ونفس طويل.

السياسة تفسد فرص الاقتصاد

يعتقد محللون أن الصراع الداخلي بين دول شمال إفريقيا وخصوصا المغرب والجزائر، يضيّع على مجموع منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط فرصا هائلة للنمو، واجتذاب استثمارات أجنبية  ضخمة، في ظل التحول الجيو-إقتصادي الذي فرضته الحرب الروسية في أوكرانيا، وأزمة الامدادات الصناعية وأشباه الموصلات، وحاجة أوروبا وأميركا الى مصانع بديلة قريبة من الأسواق التقليدية.

يعمل المغرب بحسب مسؤوليين حكوميين بمنطق "ما لا يُدرَك كله لا ُيترك جزؤه". المغزى من ذلك أن يتقدم المغرب منفردا، كما يفعل، لإقناع الشركات الكبرى بالاستثمار في قطاعات له فيها خبرة، مثل صناعة السيارات بأنواعها، من المحركات التقليدية الى الكهربائية، والطاقات المتجددة، وصناعة الأدوية،  والتكنولوجيا الحديثة، والذكاء الإصطناعي، والبحث الزراعي والمائي.

وتستفيد مدن مثل طنجة والدار البيضاء والقنيطرة من تدفقات استثمارية تنفذها شركات دولية هاربة من الجحيم الروسي، في ظل العقوبات المتبادلة. كما فتحت بوابة إفريقيا شهية الشركات الصينية نحو أدغال القارة السمراء، ووقع الأميركيون في غرام مدينة الداخلة في الصحراء المغربية، وشواطئها التي لا تكاد تنتهي عند الغروب. تقع الداخلة على المحيط الأطلسي، وهي مدينة سياحية في أقصى جنوب الصحراء المغربية، في شبه جزيرة يحيطها الماء من كل جانب، ويسودها طقس معتدل طول السنة، وتشتهر بجمال الطبيعة وتحتضن سنويا مئات المؤتمرات الدولية والمنافسات الرياضية وينشأ فيها مرفأ ضخم على المحيط الاطلسي بكلفة 1,5 مليار دولار.

التضخم يقلق المغاربه

يبقى التضخم الهاجس الأكبر في اهتمامات المواطنين، بعدما تجاوز معدلاته 8 في المئة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بحسب البنك المركزي، الذي رفع سعر الفائدة 50 نقطة أساس الى 2,50 في المئة في ديسمبر/كانون الأول الماضي لكبح جماح التضخم، كما تفعل غالبية المصارف المركزية في العالم.

لم يعش الجيل الحالي محنة إرتفاع الأسعار منذ أربعين سنة، وعلى مدى العشرين سنة الأخيرة بقي الإقتصاد المغربي من دون تضخم تقريبا، مما ساعد في الحفاظ على القدرة الشرائية والارتقاء الاجتماعي وقيمة العملة المحلية.

لكن الأزمات الدولية دفعت الأسعار إلى الارتفاع، وفي مقدمها أزمة الطاقة التي يستورد المغرب 92 في المئة من حاجاته إليها. ويجمع المحللون على أن التضخم في المغرب مستورد من الخارج إذ إن كل أزمة في أسواق الإتحاد الأوروبي مثلا تكون لها تبعات على المغرب الذي يرتبط بأوروبا بنحو 60 في المئة من تجارته الخارجية.

ولا يستبعد البنك المركزي المغربي أن تتواصل جولات التضخم لفترة تمتد على سنوات، ترتفع معها أسعار فوائد المصارف، وكلفة القروض وشراء المنازل، إذا لم يتعاف العالم من كل أمراضه وخلافاته وحروبه الصغيرة والكبيرة.

في كل الحالات، يُظهر الاقتصاد المغربي قدرته على تحمل  واحدة من بين ثلاث أزمات، ويفضل الناس ألا تكون التغيرات المناخية من بينها. لذلك المطر والماء والخضرة  له أسبقية، على كل الإجراءات الاحترازية الأخرى مصرفية أكانت أم حكومية، فالماء يوفر العمل لثلث العمال المزارعين، ويضمن الغذاء للباقين، ويعفي الخزينة من كلفة واردات القمح، وما يرافقها من صراعات جيوساسية لا تهم الفلاح الذي يبدأ عالمه وينتهي بين تربة الأرض وقطرات السماء.

font change