أدلة جديدة تؤكد أن نيرودا مات مسموما

خمسون عاماً على وفاة شاعر أميركا اللاتينية

Getty Images
Getty Images
يونيو 1966: الشاعر والناشط التشيلي بابلو نيرودا خلال الجولة السنوية الـ 34 في القارب PEN حول مدينة نيويورك.

أدلة جديدة تؤكد أن نيرودا مات مسموما

"ثمة مقابر موحشة،

قبور صامتة ملأى بالعظام،

القلب يعبر نفقاً،

وفيه ظلمة، ظلمة، ظلمة،

مثل حطام سفينة نموت ماضين إلى أنفسنا،

كأننا نغرق داخل قلوبنا،

كأننا عشنا في رحلة السقوط من الجلد إلى الروح"

في هذه القصيدة، المعنونة "لا شيء سوى الموت" للشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904-1973)، يطرح الشاعر السؤال الوجودي المؤرق عن الموت، بل عن الحياة، إذ أن صورة الموت تبدو بلا معنى ما لم تكن مقترنة بالسؤال عن جدوى الحياة.

مزاعم عائلية

وإذا كانت المقابر موحشة أو وحيدة مثلما يقول نيرودا، فإن بعض قاطنيها لا يذهبون إلى الغفلة أو النسيان، ومنهم بكل تأكيد الشاعر الفائز بجائزة نوبل للآداب (1971)، والذي يعود اليوم إلى الواجهة، بعد التسريبات التي أدلى بها ابن شقيقه لوسائل الإعلام، مؤكداً فيها أن عمه قتل بالفعل مسموماً، ولم يمت بسرطان البروستات مثلما كان يعتقد لفترة طويلة.

Getty Images
مكتب التشيلي بابلو نيرودا في منزله في أتلانتيدا، في الأوروغواي، 21 سبتمبر 2003.

وبحسب رودولفو رييس، ابن شقيق نيرودا (اسم الشاعر الأصلي نفتالي ريكاردو رييس باسولاتو)، فإن الشاعر لم يمت بالسرطان، بل بحقنة قاتلة بعد اثني عشر يوماً فقط من انقلاب الجنرال أوغوستو بينوشيه في بلده تشيلي والذي أطاح الرئيس اليساري المنتخب سلفادور الليندي الذي كان نيرودا صديقه ومن أشدّ داعميه، وأدى بالنتيجة إلى انتحار الليندي الذي حكم البلاد ثلاث سنوات فقط منذ العام 1970.

إلا أن "اغتيال" نيرودا، إن صحّ بصورة جازمة، كان ليصبح في طيّ النسيان، لو لم يثر المسألة سائق الشاعر في ذلك الحين، مانويل أريا والذي تولى نقله مع زوجته، إلى مستشفى سانتا ماريا الخاص في العاصمة سانتياغو، حيث فارق الشاعر الحياة قبل نصف قرن، في 23 سبتمبر 1973. أريا خرج في العام 2011 ليؤكد أن الشاعر سُمّم خلال معالجته في المستشفى، ليرفع الحزب الشيوعي التشيلي الذي كان نيروداً أحد أبرز أعضائه، دعوى قضائية، شكلت على إثرها ثلاث لجان تحقيق متتالية تضم عناصر وخبراء تشيليين ودوليين (من كندا والمكسيك والسلفادور والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا والدنمارك)، تكمل هذا العام 12 عاماً على البدء بتحقيقاتها.

بحسب ابن شقيق نيرودا، الشاعر لم يمت بالسرطان، بل بحقنة قاتلة بعد اثني عشر يوماً فقط من انقلاب أوغوستو بينوشيه في بلده تشيلي

بكتيريا قاتلة

ولعلّ مزاعم ابن شقيق نيرودا، تتخذ أهميتها اليوم، مع توقعات قرب إعلان اللجنة نتائج تحقيقاتها، وفي ظلّ المنع القانوني لأعضائها بالتصريح للإعلام بأي معلومة تتعلق بماجريات التحقيق، وخلاصة تصريحاته الأخيرة جاءت لتؤكد ما وجدته لجنة التحقيق عام 2017 من أنه تم العثور على بكتيريا قاتلة في جسد نيرودا، لكنّ الجديد اليوم تأكيده أن تلك البكتيريا (من نوع كلوستريديوم بوتولينوم) لم تكن داخلية المصدر، بل هي خارجية، أي أنه تمّ حقن الشاعر بها، وكانت السبب المباشر في وفاته.

وفي انتظار أن تعلن القاضية باولا بلازا التي تتولى هذه القضية، نتيجة حاسمة للتحقيق، في الأيام المقبلة، فإن السؤال حول حقيقة موت نيرودا يظلّ لغزاً، وفي تسريبات نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" أكدت أنها اطلعت على جزء من التقرير الذي رفع إلى القاضية، ويتضمن نقطة تكاد تكون حاسمة، وهي ترجيح فرضية الاغتيال، بعد أن ثبت أن الحكم العسكري في تشيلي أقدم عام 1981 على قتل عدد من المعتقلين السياسيين باستخدام الطريقة نفسها، أي الحقن ببكتيريا سامة.

وثائق

في كتابه المهم "قصة موت متنبأ به: الانقلاب على سلفادور الليندي" (2012)، يروي الباحث والكاتب الكولومبي أوسكار غوارديولا ريفيرا، تفاصيل لم تكن معروفة من قبل عن ملابسات موت نيرودا. فيسرد بناء على وثائق في الأرشيف الوطني السويدي، قصة الزيارة التي قام بها السفير السويدي إلى تشيلي في ذلك الحين هارالد إدلستام، رفقة السفير المكسيكي غونزالو مارتينيز كوربالا، إلى نيرودا على سرير المرض في سانتياغو. وبحسب تلك الوثائق يقول إدلستام إنه وجد الشاعر "مريضاً للغاية ورغم ذلك فقد كان مستعداً للسفر إلى المكسيك". وفي مذكرة إلى الخارجية السويدية يقول السفير إنه "في ساعاته الأخيرة لم يكن نيرودا يعرف أنه يعاني من مرض قاتل. اشتكى من أعراض الروماتيزم التي تجعله عاجزاً عن تحريك ذراعيه ورجليه... كان يستعد للسفر إلى المكسيك حيث سيعلن على الملأ بياناً ضد النظام العسكري".

Getty Images
حرس الشرف حول نعش الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في سانتياغو، في 25 أبريل 2016 ، بعدما أمرت محكمة تشيلية بإعادة رفات الشاعر نيرودا إلى قبره، بعد استخراجها لتحديد إن كانت الوفاة ناتجة عن تسمم من عدمه.

ويروي الكاتب أن ثمة تسجيلات لأحاديث جرت بين أعضاء في المنظومة العسكرية التي قامت بالانقلاب على سلفادر الليندي، يؤكدون فيها صبيحة 22 سبتمبر، أنه في حال حاول نيرودا السفر إلى المكسيك فسوف يتم إسقاط طائرته في البحر، "وبعد ظهر ذلك اليوم أعلنت المحطات الإذاعية التي باتت تحت سيطرة الحكم العسكري "توقعات بأن يموت الشاعر خلال ساعات"، وذلك في حين كان نيرودا ما زال يقظاً على سرير المستشفى، ليفارق الحياة في اليوم التالي"، وذلك بحسب تقرير نشرته صحيفة "ذي غارديان" في 10 أبريل 2013، بعد أشهر من إعلان فتح تحقيق في ملابسات موت نيرودا.

وتضيف الصحيفة في عرضها لكتاب ريفيرا أن السفير السويدي زار منزل نيرودا لتقديم واجب العزاء، فوجده مدمراً "كان رجال بينوشيه مصممين على إزالة كلّ أثر لوجوده مثلما فعلوا مع الآلاف غيره خلال حكم الرعب الذي استمر عقدين من الزمن".

طوال نصف قرن وحتى منحه جائزة نوبل عام 1971، ظلّ نيرودا يتنقل بين الأدوار السياسية، ناشطاً أحياناً ومتولياً أدواراً رسمية في أحيان أخرى، ومنفياً خلال الشطر الأكبر من حياته

شاعر الناس

ينتمي نيرودا الذي وصفه غابرييل غارسيا ماركيز بأنه "أعظم شعراء القرن العشرين" إلى سلالة الشعراء الذين لا تنفصل مسيرتهم الأدبية عن تلك السياسية أو "النضالية"، فطوال نصف قرن، وحتى منحه جائزة نوبل عام 1971، ظلّ نيرودا يتنقل بين الأدوار السياسية، ناشطاً أحياناً ومتولياً أدواراً رسمية في أحيان أخرى، ومنفياً خلال الشطر الأكبر من حياته، إلا أن إرثه الأكبر والأهم يظلّ الشعر، إذ نجح على غرار قلة من الشعراء حول العالم في أن يكون، ليس فقط صوت الناس في بلده تشيلي بل صوت أميركا اللاتينية برمتها، ليصبح رمزاً عالمياً، و"نجماً" لا منازع له، في زمن كان الشعراء والأدباء ما زالوا يصنعون جوهر الخطاب الثقافي والأخلاقي، وينافحون عن قيم الحرية والعدالة والمساواة.

هذا الصوت الثائر، المنشق، المناهض للخطاب الفاشي في أوروبا الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وفي الوقت نفسه لسياسات الولايات المتحدة الأميركية التي، في حربها على الشيوعية، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، دعمت أسوأ الالذي جسده نيرودا في حياته وبعد رحيله، لا يلغي مكانته الشعرية، بالمعايير الفنية الخالصة، على الرغم من أن جزءاً كبيراً من المنجز الشعري لنيرودا، مثلما يقول الشاعر اللبناني بول شاوول (أحد مترجمي نيرودا إلى العربية، ومنهم أيضاً الكاتب والمترجم الراحل محمد عيتاني)، شوّهه "اليسار العربي" من خلال التركيز على الجانب الثوري أو العام أو الشعبوي في شعره، وإهمال الجوانب الفنية الرفيعة والمواضيع الأخرى التي شغلت الشاعر، ومنها اللغة والحب والموت والذاكرة والمخيلة والفلسفة، وأيضاً الجانب الملحمي في شعره الذي يحفر عميقاً في الإرث الثقافي والحضاري لأميركا اللاتينية، "ليبث الحياة في مصير قارة وأحلامها" مثلما جاء في مسوغات منحه جائزة نوبل عام 1971.

Getty Images
الشاعر والسفير التشيلي لدى فرنسا بابلو نيرودا مع الناشر الفرنسي لوسيان سيف، الذي نشر آنذاك ثلاثة كتب جديدة عن الوضع في تشيلي، 13 أكتوبر 1972.

محمود درويش ونيرودا

ربما لا يعرف كثر أن الشاعر محمود درويش، الذي بات يحتلّ مكانة وجدانية عربياً مشابهة لمكانة نيرودا، بسبب عمق ارتباطه بالقضية الفلسطينية، رثى نيرودا في قصيدة، لم تجد طريقها إلى أيّ من دواوينه، رغم أنها كانت من القصائد الأثيرة إلى قلبه، لكنه لم يستطع أن يجد لها مكاناً مناسباً في دواوينه.

القصيدة حملت عنوان "ذاهبون إلى القصيدة – إلى نيرودا" ونشرها الشاعر عام 1975 في مجلة "شؤون فلسطينية"، وهي للمفارقة من قصائده الطويلة نسبياً، ويرى بعض النقاد أهميتها في أنها تحمل صوت درويش الذي سيرسخه في مسيرته الشعرية لاحقاً.

يقول درويش:


كان نيرودا يغنّي

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

دمُ الشعراء محراثٌ

ويحتفلُ الترابْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ بين أيدينا.

لأجلك يرجعُ البطّ المخيِّمُ في جنوب البحرِ

نيرودا! لأجلكَ نكتفي بالعمر أغنيةً وكأساً من سحاب.

مدنٌ تنام على السلالم في انتظاركَ. آه نيرودا. شواطئ هذه

الأرض الصغيرة - عبر صوتك - قبلةٌ مفتوحةٌ للنورس الباكي وللبجع

الذي يتعلّم الرقص المميتَ

آه نيرودا! حدودُ الأرض في ليمون صوتكَ ملعبُ الكرةِ،

المظاهرةُ، احتفالُ الذاهبين إلى الجحيم. لك اعترافاتُ النساء العاشقاتِ.

لك النشيدُ الأزرقُ... الحريةُ الزرقاءُ... أبعدُ قريةٍ في الأرض

لكنْ / بعد موتك

عبر موتك

قرب موتكَ

كلُّ فجرٍ كان ينتظرُ انطفاءك كي يضيءْ

وكلُّ صوت كان ينتظر اختفاءك كي يجيءْ.

ها نحن نتّفقُ: الغزالةُ لا تحبّ الشعرَ في الزمن الرديءْ.

font change

مقالات ذات صلة