في الذكرى الأولى لحرب أوكرانيا: استعادة لمؤتمر يالطا والحاجة الى شبيه جديد

الصورة من "غيتي"
الصورة من "غيتي"
الصورة التذكارية للمشاركين في مؤتمر يالطا وبدا من اليمين الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين والرئيس الاميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل

في الذكرى الأولى لحرب أوكرانيا: استعادة لمؤتمر يالطا والحاجة الى شبيه جديد

ثمة أمورٌ كثيرةٌ يحتاجها عالم اليوم، قد يكون من بينها عقد مؤتمر يالطا جديد.

يتمتّع المؤتمر الدولي الذي عقد بين قادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا في يالطا في فبراير/شباط 1945 بسمعة جيدة لدوره في إنهاء الحرب العالمية الثانية. كان مؤتمر يالطا في زمانه خطوة شجاعة باتجاه السلام، ولكنه سلك منحى خطيرا بعد عام 1946.

بدأ المؤتمر بداية غير تقليدية للغاية، حيث جمع الرأسماليين المخلصين والشيوعيين المتشددين تحت سقف واحد، كحلفاء بدل كونهم أعداء أيديولوجيين، وذلك بأمل تحقيق السلام في العالم. ففي البرهة الواقعة بين 4 و11 فبراير 1945، أعاد المؤتمرون رسم خريطة العالم وهم يدخنون السيجار ويحتسون الفودكا والويسكي ويتذوّقون الكافيار. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها الثلاثة الكبار، إذ سبق مؤتمر يالطا مؤتمر طهران أو مؤتمر نوفمبر/تشرين ثاني 1943 واعقبه مؤتمر بوتسدام في يوليو/تموز 1945.

كما حصل أيضًا اجتماع جانبي بين ونستون تشرشل وجوزيف ستالين في موسكو في أُكتوبر/تشرين أول من عام 1944، غاب عنه فرانكلين روزفلت.

لكن منذ ذلك التاريخ حدث الكثير من التغيرات. ففي ذلك الوقت كانت الولايات المتحدة وروسيا دولتين حليفتين قدمتا إلى طاولة المفاوضات بجدولي أعمال متشابكين. فروزفلت كان يطمع في الحصول على الدعم الروسي في حربه ضد اليابان وعلى دعم للأمم المتحدة التي كانت على وشك الظهور. في حين كان ستالين يريد الحق في الاحتفاظ ببولندا ودول أوروبا الشرقية الأخرى من بين أمورٍ أخرى كان يطمح لتحقيقها أيضا.

في حين أن خليفتيهما جو بايدن وفلاديمير بوتين على طرفي نقيض اليوم بشأن أوكرانيا، ولا يوجد بينهما سوى القليل من القواسم المشتركة، الأمر الذي يجعل عقد مؤتمر يالطا جديد أمرا عسيرا أقله في الوقت الحالي. بايدن رئيس مسنّ قد لا ينجح في إكمال ولايته الأولى بينما يتولى بوتين مقاليد الأمور سواء كرئيس للوزراء أو كرئيس منذ عام 1999. وفيما يريد بايدن الانسحاب من ساحات القتال ووضع حدٍّ لحروب أميركا الخارجية يريد بوتين التوسع في حروب روسيا الخارجية.

اختيار غريب للمكان

كان روزفلت هو الذي بادر إلى الدعوة لعقد اجتماع عام 1945، وكان يريد في الأصل أن يتم ذلك الاجتماع قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/تشرين ثاني 1944. واقترح بداية أن يُعقد المؤتمر في مالطا أو قبرص أو صقلية أو أثينا أو القدس. واستخدم ستالين حق النقض ضد تلك الأمكنة جميعًا بذريعة أن أطباءه نصحوه بعدم السفر في رحلات طويلة بالطائرة، وأصروا على مكان أقرب إلى الاتحاد السوفيتي. وفي حقيقة الأمر كان مستشاروه الأمنيون، وليس أطباء الكرملين هم الذين اقترحوا أن يلتقي الزعماء في منتجع يالطا على ساحل البحر الأسود في شبه جزيرة القرم. لم يكن ستالين البالغ من العمر السابعة والستين شابًا، لكنه كان لا يزال يتمتع بصحةٍ جيدة نسبيا. وكذلك كان حال ونستون تشرشل، والذي كان يبلغ من العمر 71 عاما. أما روزفلت فكان الأصغر بين الثلاثة الكبار إذ كان عمره 63 عاما، ولكنه مع ذلك كان يتمتع بصحةٍ أقل من نظيريه الروسي والبريطاني، ولن يعيش أكثر من شهرين اثنين بعد انعقاد المؤتمر، حيث سيموت في في 12 أبريل/نيسان 1945. والحق أن طيرانه فوق المحيط الأطلسي خلال شهر فبراير/شباط البارد كي يوفر إقامة مريحة لستالين أدى إلى تفاقم حالته الصحية وسرّع بوفاته المفاجئة.

ومع ذلك، فقد أعلن ستالين نفسه رسميا استضافة روزفلت للمؤتمر، وجلس روزفلت في صدارة جميع الصور التي التقطها مصور البيت الأبيض الرسمي. وعُقد المؤتمر في مقر الوفد الأميركي، في قصر لفاديا الذي يعود بناءه لمنتصف القرن التاسع عشر والذي كان القيصر نيكولاس الثاني يستخدمه كمنتجع صيفي. في حين نزل الوفد البريطاني في قصر فورونتسوف القريب من مكان إقامة روزفلت، وحلّ ستالين في منزله المفضل وهو قصر يوسوربوف الذي تعود ملكيته لأعيان روسيا السابقين، كان الشيوعيون أمّموه في عام 1917. وبعد سنوات ندب تشرشل الخضوع للمكان الذي اختاره ستالين قائلا: "لو أننا أمضينا عشر سنوات في البحث، لما وجدنا مكانا أسوأ في العالم لعقد المؤتمر يالطا."

استسلام من دون شروط

كان الهدف الرئيسي من مؤتمر يالطا هو اتخاذ قرار بشأن ما يجب فعله بألمانيا النازية في الوقت الذي تمّ فيه طي صفحة أدولف هتلر. فجيش ستالين كان يتمركز على بعد 65 كم من بوابات برلين، في حين كان الحلفاء يقاتلون على الحدود الغربية لألمانيا. وكانت فرنسا وبلجيكا قد حُرِّرتا من النازيين، وطُرد النازيون من بولندا ورومانيا وبلغاريا، ولم يعد السؤال المطروح وقتها ما إذا كان هتلر سيسقط بل كيف ومتى سيسقط.

طالب الثلاثة الكبار بالاستسلام غير المشروط لألمانيا، وقطعوا عهدا على أنفسهم ليس فقط بنزع سلاح ألمانيا والتخلص من نير النازية، بل بمحاسبتها على الدمار الهائل الذي حلّ في جميع أنحاء العالم، وحملها على دفع ثمن ذلك. وتعهدت الأطراف الثلاثة بإعادة إعمار أوروبا – تمامًا كما حدث في نهاية الحرب العالمية الأولى. وكان من المقرر أن تعقد محاكمة هتلر وكبار ضباطه وإعدامهم لاحقا. بعدها ستُقسّم ألمانيا إلى أربع مناطق تسيطر عليها الجيوش الأميركية والبريطانية والسوفياتية والفرنسية. واستُبعِد شارل ديغول على نحوٍ لافت من مؤتمر يالطا – إذ لم تتم دعوته – ووافق ستالين فقط على منحه مجال نفوذ في قسم من ألمانيا اقتُطِع من مناطق نفوذ بريطانيا العظمى والولايات المتحدة. أراد روزفلت وتشرشل بالتوازي مع ذلك كله إنشاء نظام عالمي جديد يرتكز على حق تقرير المصير لشعوب أوروبا المحررة وعلى الأمن الجماعي من خلال هيئة الأمم المتحدة.

لكن كان لدى ستالين خطة أخرى.

خطّة ستالين

كان ستالين يدرك شأن الجميع في يالطا حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى دعمه في حربها مع اليابان. ووافق على الانضمام إلى تلك المعركة بثلاثة شروط. كان أولها أنه لن يلتزم بذلك الدعم إلا بعد هزيمة ألمانيا. وكان الشرط الثاني هو سماح روزفلت وتشرشل له باستعادة الأراضي اليابانية التي فقدتها روسيا خلال الحرب الروسية اليابانية عام 1904. أما ثالث الشروط فكان الاعتراف الرسمي باستقلال منغوليا عن الصين (كانت منغوليا دولة تدور في فلك الاتحاد السوفيتي منذ عام 1924).

وافق روزفلت على جميع شروط ستالين، ثم انتقل إلى البند الثاني في جدول أعماله المتمثل في الأمم المتحدة، والتي كان من المقرر أن تحلّ محلّ عصبة الأمم التي كانت تعاني من خللٍ كبير في عملها. وعلى الرغم من أن الأميركيين لم ينضموا أبدا إلى عصبة الأمم، رغم أن رئيسهم وودرو ويلسون هو الذي بادر الى العمل على قيامها في نهاية الحرب العالمية الأولى. كان روزفلت يريد ولادة الأمم المتحدة، وجعل بلاده تحتل المرتبة الأولى في المؤتمر التأسيسي.

 

كان ستالين يدرك شأن الجميع في يالطا حاجة الولايات المتحدة الماسة إلى دعمه في حربها مع اليابان. ووافق على الانضمام إلى تلك المعركة بثلاثة شروط. كان أولها أنه لن يلتزم بذلك الدعم إلا بعد هزيمة ألمانيا. وكان الشرط الثاني هو سماح روزفلت وتشرشل له باستعادة الأراضي اليابانية التي فقدتها روسيا خلال الحرب الروسية اليابانية عام 1904. 

كانت فكرة الأمم المتحدة من بنات أفكار روزفلت منذ عام 1941. ولكن ستالين اشترط قبوله بفكرة لأمم المتحدة بمنح الاتحاد السوفيتي مكانة دائمة في مجلس الأمن ومنحه حقّ النقض ضد أي قرارات غير مرغوب فيها، وأعطي ستالين ذينك الحقّين في يالطا، ثمّ ورثتهما روسيا الحديثة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. كما طالب ستالين أيضا بالعضوية التلقائية في الأمم المتحدة لـ 16 دولة تدور في الفلك السوفيتي، ولكن تم قبول دولتين فقط كانت أحداها أوكرانيا.

وحالما انتهى ستالين من استدرار التنازلات من روزفلت، التفت ستالين إلى ونستون تشرشل. كان الزعيم البريطاني يسعى لتوفير مأوى لحكومة المنفى البولندية والتي تتخذ من لندن مقراً لها، وطلب من ستالين إجراء انتخابات حرة وديمقراطية ليس فقط في بولندا ولكن في جميع أنحاء دول أوروبا الشرقية التي تحررت من نير النازية، كتشيكوسلوفاكيا، والمجر، ورومانيا، وبلغاريا. لكن ستالين التزم بلغة غاية في الغموض، وقدم مطالب صارمة في ما يتعلق ببولندا، والتي قال إن الألمان استخدموها مرتين لغزو بلاده. وتعهّد بعدم تكرار ذلك، رافضا إعادة أجزاء من شرق بولندا التي ضمها الاتحاد السوفياتي في عام 1939، مضيفا أنه لن يعترف بالحكومة البولندية في المنفى.

وأشار إلى أن تلك المطالب كانت ببساطة غير قابلة للتفاوض. اندلعت الحرب العالمية الثانية بسبب غزو بولندا عام 1939 واختُتمت بالتنازل عن بولندا للاتحاد السوفيتي. وعندما التقى زعماء العالم في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في أبريل/نيسان 1945 لم تتم دعوة بولندا. ولم تُمنح انتخابات حرة وأصبحت دولة تدور في الفلك السوفيتي، حالها في ذلك حال دول أخرى في أوروبا الشرقية. وباستثناء التشدّق، لم تفعل الولايات المتحدة ولا بريطانيا أي شيء للحؤول دون ذلك.

لكن اللوم هنا يقع على عاتق خلفاء روزفلت وتشرشل، ولا يتحمله الرجلان نفساهما، لأنهما غادرا المشهد بحلول صيف عام 1945، بالوفاة بالنسبة الى الاول وبالهزيمة في الانتخابات بالنسبة الى الثاني، بينما بقي ستالين في مسرح الأحداث لمدة ثماني سنوات أخرى حتى وفاته في عام 1953. توفي روزفلت في أبريل/نيسان 1945 وحلّ محل تشرشل كليمنت أتلي في يوليو/تموز – وهو رجل يتمتع بكل نقاط ضعف تشرشل دون أن يتمتع بأي من نقاط قوته. وفي 1 مارس/آذار، خاطب روزفلت الكونغرس بتفاؤل كبير حول ما تحقق في يالطا، قائلاً: "لقد أتيت من شبه جزيرة القرم بإيمان راسخ أننا قد بدأنا الخطوة الأولى في الطريق المؤدي إلى عالمٍ يسوده السلام".

font change