"تشات جي بي تي" الذي هزّ عرش "غوغل"

ChatGPT المذهل والمخيف في آن واحد

غيتي
غيتي

"تشات جي بي تي" الذي هزّ عرش "غوغل"

بشرّنا العديد من أفلام الخيال العلمي بما نحن مقبلون عليه اليوم، وسال حبر كثير في العقد الأخير على موضوع الذكاء الاصطناعي و"الروبوتات الاستعراضية"، لكن قلما تجرأت الأقلام على القول بأن الذكاء الآلي سيطرق باب الرسم والشعر والتأليف والصحافة من خلال روبوت خالٍ (مبدئيا) من الأحاسيس والمشاعر التي يحتاجها هذا النوع من التعبير.

ليس أدل على مدى أهمية منتج "تشات جي. بي. تي." والشركة المالكة له، "أوبن إيه. آي."، سوى "حالة الرعب" التي تعيشها شركة "غوغل" منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فهي لم تشعر بخطر شديد لمنافسة أعمال محرك البحث الأول في العالم منذ عقدين مثل اليوم. تبلغ قيمة نشاطاتها 149 مليار دولار، وهي التي تعالج نحو 100 ألف عملية بحث في الثانية وتقدم إجابات مهمة ومباشرة ودقيقة بفضل خوارزميتها الذكية، فيما بالكاد تمثل جميع محركات البحث الأخرى مجتمعة عُشر الباحثين على موقع "غوغل" يوميا.

لعل العشرة مليارات دولار التي استثمرتها شركة "مايكروسوفت" في شركة "أوبن إيه. آي." هي التي أجبرت رئيس "غوغل" التنفيذي سوندار بيتشاي على إعلان "الرمز الأحمر" (Code Red) في الشركة، أي حالة تأهب قصوى، ودفعت مؤسسَي "غوغل" لاري بيدج وسيرجي برين، المبتعدَين عن الإدارة اليومية منذ 2019، الى عقد اجتماعات مكثفة مع المديرين الكبار للشركة آخر العام المنصرم لتبديل خطط العمل.

فمنذ أن تسرب الخبر عن نية شركة "مايكروسوفت" في ديسمبر/ كانون الأول الماضي ضخ مليارات جديدة في شركة "أوبن إيه. آي." (إضافة الى المليار دولار يوم تأسيسها قبل ثماني سنوات)، وضعت الشركة ومشروعها الجديد-القديم تحت الأضواء والاهتمام الاستثماري والإعلامي والشبابي الطالبي والأكاديمي خصوصا.

لم يكن خبرا عاديا استثمار "مايكروسوفت" اللافت، في وقت كان العالم يشهد خسائر غير مسبوقة لنجوم شركات التكنولوجيا وعمليات صرف جماعي دراماتيكية لعشرات الالآف من الموظفين في القطاع، من "ميتا" و"تويتر" الى "أمازون" و"غوغل" وغيرها، وهي لا تزال مستمرة في العديد من الشركات، ناهيك بالكوارث التي انهمرت على بورصات العملات المشفرة وشركاتها الكرتونية، لا سيما بعد زلزال إفلاس شركة "إف. تي. أكس." (FTX) وانكشاف صاحبها "امبراطور التشفير" الشاب المحتال سام بانكمان فريد.

(يمكن قراءة مزيد من التفاصيل في "المجلة" عن حكاية صعود سام بانكمان فريد، وسقوطه من عتبة بلغت 32 مليار دولار)

غيتي

في ظل هذه الأخبار والظروف، حلق نجم شركة "أوبن أيه. آي." بسرعة خارقة لتنبئ بأن الابتكار لا يزال قائما، وبأن روبوتات المحادثة الجديدة تزداد ذكاء، وبأنها تستعد للتربع على "عرش الذكاء الاصطناعي" قريبا، وكأنها تقول "الأمر لي" في 2023.

فإذا كانت "غوغل"، التي بلغت عائداتها في السنة المالية الأخيرة 256 مليار دولار، قد شعرت بتهديد من روبوت المحادثة (chatbot) الذكي الجديد، واستعجلت الكشف عن نحو 20 منتجا جديدا وإظهار نسخة من محرك البحث الخاص بها مع ميزات مماثلة وربما متفوقة في السنة الجارية، فلا عجب أن يكون "تشات جي. بي. تي." الذي صار العنوان الأكثر إثارة للجدال والقلق، يهيمن على عمالقة التكنولوجيا وشركاتها وعناوين كبرى وسائل الإعلام منذ مطلع السنة الجارية، وقد تلقفه الشباب والطلاب خصوصا بلهفة، واستقبل هجمة عليه وصلت الى مليون مستخدم خلال خمسة أيام فقط من إطلاقه، محطما كل الأرقام القياسية السابقة لـ"فايسبوك" و"تويتر" و"نتفليكس" و"إنستغرام" و"تيك توك".

لم يكن خبرا عاديا استثمار "مايكروسوفت" اللافت، في وقت كان العالم يشهد خسائر غير مسبوقة لنجوم شركات التكنولوجيا وعمليات صرف جماعي دراماتيكية لعشرات الالآف من الموظفين في القطاع.

وكانت "غوغل" تسرعت في 7 فبراير/ شباط الماضي تحت ضغط صعود نجم "تشات"، وأطلقت روبوت المحادثة "بارد" (BARD) الذي يعمل وفق نموذج اللغة "لامدا" (LaMDA)، وحصد نتائج مخيبة ما دعا بيتشاي الى توجيه مذكرة الى موظفيه من المبرمجين لتخصيص نحو 4 ساعات يوميا لتحسين المنتج.

سبق ذلك إعلانها استثمار 300 مليون دولار في برنامج منافس آخر لـ"تشات جي. بي. تي."، حيث ستستحوذ على حصة 10 في المئة في شركة "أنثروبيك" (Anthropic)، التي أسسها باحثون سابقون في "أوبن إيه. آي."، ونموذجها "إيه. آي. كلاود" (AI Claude)، وفقا لتقارير "فايننشال تايمز". 

إلا أن مقطعا ترويجيا لـ"بارد" شارك معلومات غير دقيقة تسبب على إثرها بعملية بيع واسعة لأسهم شركة  "ألفابت"، الشركة الأم لـ"غوغل"، لتخسر بذلك 100 مليار دولار من قيمتها السوقية في جلسة واحدة، مما أثار مخاوف في شأن خسارة ثالث أكبر شركة تقنية في العالم من حيث القيمة السوقية موقعها أمام منافستها "ماكروسوفت".
وكانت "رويترز" أول من أشار إلى خطأ في إعلان "غوغل"عن برنامج "بارد"، حول القمر الاصطناعي الذي التقط صورا لأول مرة لكوكب خارج النظام الشمسي للأرض.

يذكر أن عملاق التكنولوجيا "غوغل" يعمل على تقنية مماثلة لسنوات، ولكن بحذر أكبر في خصوص توقيت إعلانها وكيفيته والأخذ في الاعتبار تأثيرها على عائدات الإعلانات والتجارة الإلكترونية لمحرك البحث، والاخطار المرتبطة باستخدامها. 

والفرق الجوهري بين محرك البحث "غوغل" و"تشات"، هو أن الأول يعطي مئات النتائج للبحث المطلوب وليس بالضرورة أن يجد الباحث ضالته فيها، بينما يقدم "تشات جي. بي. تي." نتيجة أكثر دقة في شكل صياغة جواب واضح ومتماسك، يختصر الوقت والجهد على الباحث، الذي يخيل إليه وكأن شخصا ما صاغ الجواب وأرسله، خصوصا عندما يسترسل الباحث في السؤال والاستفسار، فيتلقى أجوبة وكأنه يحادث بشريا على الجانب الآخر من الشاشة.
(يمكن قراءة نموذج للحوار السياسي مع "تشات جي بي تي" هنا في "المجلة")

وحديثا، أعلن الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا" مارك زوكربيرغ أن الشركة دربت نموذجا جديدا واسعا للغة (Large Language Model – LLM) ستصدره قريبا كخدمة للباحثين.
يهدف النموذج، المسمى "LLaMA"، إلى مساعدة العلماء والمهندسين على استكشاف تطبيقات الذكاء الاصطناعي مثل الإجابة عن الأسئلة وتلخيص المستندات.

التعلم الذاتي وتجربة مع "الزميل تشات"
"تشات جي. بي. تي." المتحدث الآلي، هو روبوت محادثة (Chatbot) يتبع نموذجا لغويا معروفا طورته شركة "أوبن إيه. آي." يرتكز على نسخة "GPT-3.5"، أي ما يعرف بـ"المحولات التوليدية المدربة مسبقا" (Generative Pre-Trained Transformer)، وهو نسخة مطورة من "GPT-3"، أشهر نموذج للذكاء الاصطناعي لمعالجة اللغة على الإنترنت، والأحدث تطورا في عالم الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI).

"تشات جي. بي. تي." (شخصيا) يعرّف عن نفسه بأنه مدرب على "مجموعة بيانات ضخمة بما فيها البيانات النصية مثل الحوارات والدردشات والإجابة عن الأسئلة والنصوص من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها. وذلك بما يسمح بفهم اللغة البشرية والاستجابة لها بطريقة طبيعية، وإنشاء محتوى يشبه ما ينتجه الإنسان بدرجة كبيرة". وهو أخبرني حرفيا أن "البيانات المستخدمة لتدريب النموذج تتضمن مجموعة متنوعة من النصوص من مصادر مختلفة ولغات مختلفة (...) بحيث يمكن للنموذج التعلم والتكيف مع أنماط اللغة الجديدة".

وسألت العديد من المستخدمين والمبرمجين والجامعيين الشباب عن تجربتهم معه فكانت معظم الأجوبة ما بين: "مدهش" و"إنه يعطيني أجوبة مرضية" في سقف سنة 2021 كحدود زمنية، ومنهم من استخف بأجوبته المبرمجة سلفا وتوقع له الفشل.   
بعد تجربة شخصية مع "الزميل تشات جي. بي. تي."، لم تكن أجوبته شافية على مستوى العمل التحريري، خصوصا عندما أطرح أسئلة معقدة، لكنه كان متميزا بمقدرة غير مسبوقة على فهم الأسئلة والاستجابة لها، وطباعة إجابات منمقة في ثوان معدودة مباشرة أمام ناظري على شاشة رمادية وسوداء، أجوبة يمكن أن تبدو أحيانا بشرية على نحو مدهش وتذكّر بالأفلام السينمائية أمثال "إكس ماشينا" (Ex Machina) عام 2014، "أي روبوت" (I, Robot) عام 2004، و"سفير" (Sphere) عام 1998. 
ينضوي "تشات جي. بي. تي." في نموذجي التعلم الخاضع للإشراف (Supervised Learning)، نظرا إلى آليته القائمة على تزويده البيانات مع تدريبه على إعطاء الإجابات، ليتمكن بعدها من توقع الإجابات ذاتيا عند حقنه ببيانات جديدة، وكذلك التعلم غير الخاضع للإشراف (Unsupervised Learning) حيث يعمل ذاتيا على ترتيب البيانات وتصنيفها، وهذا قمة استقلاليته المنشودة مستقبلا، التي تحتاج الى وقت.

هي خطوة سبقتها خطوات وستتبعها خطوات، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وستأتي شركات في المستقبل القريب لتدرس مكامن نجاح "تشات جي. بي. تي." وفشله وتقدم لنا نموذجا أكثر تطورا وجديرا بالثقة.

هنا تأتي أهمية الإشارة الى الوقت أو الزمن الضروري لتكتسب نماذج كهذه من الذكاء الأصطناعي قدرات لا محدودة. يقول المهندس والخبير في المدن الذكية مهند سلام لـ"المجلة" إن مسألة التعلم الآلي ستحتاج الى وقت، وبمقدار ما نمنح هذه الآلات الوقت الكافي للتعلم، والأهم للتجربة والخطأ وتصحيح الأخطاء (Machine Learning) تتطور إمكانات الذكاء الإصطناعي المدهشة، لكن ذلك لن يكون متاحا ين ليلة وضحاها كما يظن البعض، بل المسألة ستحتاج الى وقت كاف، وربما أجيال، تماما كما احتاجت الأجيال السابقة، بدءا بالبرامج والخوارزميات، الى هندسات الكومبيوترات كآلات تحولت من أحجام بمقاسات غرف كبيرة الى الرقاقات الإلكترونية والنانو تكنولوجي. 

في إشارته الى الزمن المطلوب وصولا الى النتائج المتوخاة من التعلم، أكان تلقينيا أم ذاتيا، قال سلام: "اعتبره طفلا صغيرا ويحتاج الى سنين ليصبح طبيبا أو مهندسا أو فيلسوفا ينصح الناس ويكتب عنهم بمعرفة عميقة ونجاح". 

هي خطوة سبقتها خطوات وستتبعها خطوات، لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، وستأتي شركات في المستقبل القريب لتدرس مكامن نجاح "تشات جي. بي. تي." وفشله وتقدم لنا نموذجا أكثر تطورا وجديرا بالثقة.

المثير في "تشات جي. بي. تي." أنه مدرب على استخدام ردود الفعل البشرية، وهي تقنية تسمى تعزيز التعلم مع ردود الفعل البشرية (Reinforcement Learning with Human Feedback) بحيث يدرك ما يتوقعه البشر عند طرحهم الأسئلة. وهو يستخدم مزيجا من روبوتات المحادثة ومعالجة اللغة الطبيعية المعروفة بـ (Natural language processing – NLP) والتعلم الآلي، كما يستخدم تقنية "التعلم العميق" (Deep Learning) لإنشاء نصوص جيدة شبيهة بما ينتجه الإنسان.
ووفقا لجامعة ستانفورد، يحتوي GPT-3 على 175 مليار بينة تعريف (parameter) وتم تدريبه على نصوص يصل حجمها الى 570 غيغابايت، وهو ما لا يقارن بسلفه، GPT-2، الأصغر بأكثر من 100 مرة لاحتوائه على 1,5 مليار بينة تعريف فقط.

غيتي

سام ألتمان لنحفظ هذا الإسم

تعود الإنطلاقة العاصفة لمشروع "تشات جي. بي. تي." للشركة الأم "أوبن إيه. آي." التي تأسست في سان فرانسيسكو أواخر عام 2015، ويديرها سام ألتمان، رجل الأعمال الذي يبلغ من العمر 37 عاما، وهو الرئيس السابق لحاضنة الشركات الناشئة، "واي كومبينيتر" (Y Combinator). ثبتت الشركة أقدامها منذ البداية من خلال اعتمادها على الدعم المالي لمساهمين بارزين من وادي السيليكون، بينهم المؤسس المشارك لشبكة "لينكد إن"، ريد هوفمان، والمستثمر بيتر ثييل وغريغ بروكمان وإيليا سوتسكيفر وجون شولمان، وويتشاك زارمبا، إضافة إلى إيلون ماسك الذي شارك في مجلس إدارتها حتى عام 2018 قبل أن يعود إلى التركيز على مسؤولياته في تيسلا، الذي وصف روبوت المحادثة بالـ"جيد بشكل مخيف". 

وأعرب ماسك في مناسبات عدة عن مخاوفه من السيطرة السلبية للذكاء الاصطناعي قائلا إن "هدف 'أوبن إيه. آي.' إضفاء الطابع الديموقراطي على الذكاء الاصطناعي"، منطلقا من مفهوم أن "الحرية تنبع من توزيع السلطة فيما الاستبداد ينتج من حصرها". "من المهم إذا ألا ترتكز قوة الذكاء الاصطناعي المدهشة في أيدي قلة من الناس".

استنفار جامعات ... و"جي بي مورغان" تحظره 
من الواضح أن لدى "تشات جي. بي. تي." إمكانات استثنائية على مساعدة المستخدمين في إنتاج محتوى أكثر تماسكا وحرفية ونصوصا قد تكون مناسبة لبعض وسائل التواصل الاجتماعي الخفيفة أو التجارية، ما سيسمح لها بجني إيرادات طائلة من خلال الإعلان والتسويق. إلا أن قدراته تتخطى ذلك بكثير لتشمل تصميمات هندسية وإنجاز دراسات واستراتيجيات أعمال طويلة الأجل وخطط تسويق وأبحاث السوق، وفقا لمجلة "فوربس"، من خلال الاستعلام عن المنافسين الرئيسيّين في أيّ قطاع.

تبين قدرة "تشات جي. بي. تي." على اجتياز امتحانات جامعية عالية المستوى في مختلف الاختصاصات من طب ومحاماة وغيرها من اختبارات ماجستير إدارة الأعمال كما صرحت جامعة "وارتون" في بنسلفانيا التي عمدت إلى إخضاع روبوت المحادثة لاختبار كهذا، وكذلك ابتكار محتوى ونصوص لمقاطع الفيديو والبودكاست والترجمة. 

وفي مفارقة صارخة، فشل "تشات جي. بي. تي."، وهو الذي اجتاز اختبار الترخيص الطبيّ للولايات المتحدة (USMLE)، فشلا ذريعا في الإجابة عن اختبارات الصف السادس الابتدائي في سنغافورة، حيث حقق 16 في المئة في مادة الرياضيات و21 في المئة في مادة العلوم. إلا أنه عاد وحقق نجاحا في الاختبارات نفسها عند إعادتها، مثبتا قدرته على تطوير طاقته الذاتية والتعلم الذاتي من الأخطاء.
وفيما يخطط عدد من الشركات لادماج برنامج "تشات جي. بي. تي." في أعمالها، يجري حظره سريعا في نواح أخرى، كالتعليم، لا سيما في المدارس والجامعات. في نيويورك مثلا، قضت إدارة التعليم في المدينة بحظر البرنامج عبر جميع الأجهزة والشبكات في المدارس العامة في نيويورك. يعود ذلك الى الخطر الحقيقي المتمثل في استغلال الطلاب له لكتابة أبحاثهم وحل فروضهم ونسخ المحتوى المقدم إليهم. 
وحظر مصرف "جي بي مورغان" على موظفيه استخدام "تشات جي. بي. تي." مدفوعا بالمخاوف في شأن المعلومات المالية الحساسة التي تجري مشاركتها مع روبوت المحادثة، ليصبح أحدث جهة تقيّد استخدام روبوت المحادثة في مكان العمل بعد "أمازون" التي حذرت موظفيها من مشاركة أي رمز أو معلومات سرية عن الشركة مع "تشات جي. بي. تي." إذ وجدت الشركة أن بعض إجابات روبوت المحادثة تشبه بيانات "أمازون" الداخلية.

أما الصين، فكان لحظرها "تشات جي. بي. تي." سبب آخر كونه لا يمتثل لقوانين الرقابة السياسية في البلاد.

في المقابل طرحت شركة "أوبن إيه. آي." نفسها وغيرها من الشركات برامج مضادة تكشف الغش في كتابة الأبحاث والمقالات باستخدام روبوت المحادثة، مثل "جي. بي. تي. كلاسيفاير" (GPT-Classifier) و"إيه. آي. رايتنغ تشك" (AI Writing Check) و"جي. بي. تي. زيرو" (GPTZero) وغيرها. وعمد أكثر من 6 آلاف استاذ في جامعات "هارفرد" و"ييل" و"رود أيلاند" الى الاشتراك في برنامج "جي. بي. تي. زيرو" الذي يعد برصد أي نص من إنتاج الذكاء الاصطناعي، على حد تعبير ادوارد تيان، مصمم البرنامج وطالب في مرحلة التخرج في جامعة "برينستون".

يتوقع أن نشهد قريبا معارك قانونية بين الأدباء والفنانين خصوصا وشركات الذكاء الاصطناعي حول حقوق الملكية الفكرية التي تعكس فعليا قيمة الإبداع البشري.

الأخلاق وحقوق الملكية الفكرية
على الرغم من أن "تشات جي. بي. تي." مبرمج على رفض استجابة الطلبات غير القانونية أو غير الأخلاقية، فإنه قد يتفاعل أحيانا مع تعليمات مؤذية أو يُظهر سلوكا متحيزا أو يمنح إمكان الوصول الى معلومات زائفة ونظريات المؤامرة. لمعالجة هذا الأمر عمدت "أوبن. إيه. آي."، الى استخدام واجهة برمجة التطبيقات الإشرافية للتحذير من أنواع معينة من المحتوى، أو لحظر هذه الأنواع من المحتوى الذي يتم تصنيفه على أنه غير آمن، كالسؤال عن كيفية التنمر على شخص ما، أو عن قصة دموية، أو عن كيفية التلاعب بالناس أو صنع أسلحة خطرة.

وبرزت مسألة حقوق الملكية الفكرية كأحد أهم الجوانب الأخلاقية الواجب التعامل معها، ليس فقط لجهة ابتكار محتوى من دون ذكر مالكيه الأصليين، بل أيضا لعمل البرنامج على اختلاق دراسات بحثية ومصادر زائفة وإقرانها بأسماء خبراء أو أدباء لا علاقة لهم بها عملا بآليته لجمع المعلومات. مثل ذلك، ما أورده الأستاذ المساعد في الاقتصاد في جامعة "كوينزلاند"، ديفيد سميردون، على حسابه على "تويتر" عند سؤاله "تشات جي. بي. تي." عن أكثر بحث اقتصادي جرى الاستشهاد فيه على مر العصور، ليتبين زيف العنوان الوارد في الإجابة واختلاقه من خلال سرقة عنوان مطابق لكتاب فعلي دون التحقق من المؤلفين الحقيقيين.

وقد نشهد قريبا معارك قانونية بين الأدباء والفنانين خصوصا وشركات الذكاء الاصطناعي حول حقوق الملكية الفكرية التي تعكس فعليا قيمة الإبداع البشري.

منافسة طاحنة منتظرة
في العودة الى "غوغل"، لنتذكر قصة طرد أحد مهندسيها، بلايك ليموان (Blake Lemoine)، بسبب وصفه الروبوت "لامدا" (LaMDA) الخاص بـ"غوغل" والذي تصدر عناوين الصحف في ذلك الوقت (يوليو/ تموز 2022)، بأنه واقعي للغاية إلى درجة اعتقاده بأنه واعٍ. هناك أكثر من 300 ألف روبوت محادثة قيد الاستخدام على "فايسبوك ماسنجر" (Facebook Messenger) وحده. كما أن هناك العديد من الأمثلة الأخرى لبرامج مماثلة طورتها "مايكروسوفت" و"أمازون" وجامعة "ستانفورد" وحظيت جميعها باهتمام أقل بكثير مقارنةً بـ"أوبن إيه. آي." أو "غوغل".

وفي تميز "تشات جي. بي. تي."، على الرغم من كونه حديث العهد نسبيا في عالم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، فإنه سيشكل تحديا لمحرك البحث "غوغل"، اذ تتوقع "أوبن أيه. آي." جني 200 مليون دولار من نظامها الجديد في السنة الجارية ومليار دولار في 2024 كما افادت "رويترز".

وفي خطوة منافسة أخرى لـ"غوغل"، أعلنت "مايكروسوفت" أيضا دمج "تشات جي. بي. تي." في محرك البحث التابع لها "بينغ" (Bing). إلا أن الأداء السيئ دفعها إلى الحد من المحادثات إلى خمسة أسئلة فقط عند كل استخدام، و50 سؤالا في اليوم. وأثارت الأجوبة غير الدقيقة والمريبة والمشوشة التي حصل عليها بعض المستخدمين الشكوك حول نجاح هذه الخطوة. 
وتتوقع "مايكروسوفت" أن إيراداتها الإعلانية السنوية ستنمو بمقدار 2 مليار دولار، مقابل كل نقطة مئوية إضافية ستكتسبها من حصتها في السوق جراء محرك البحث.

ذكاء الأجيال المقبلة؟
ربما من المبكر الحكم على ما سيحمله "الذكاء الاصطناعي التوليدي" في المستقبل، فالحديث عما يرتقب من النسخة المحترفة (ChatGPT Professional) قد يكون قاصرا عن الإحاطة بتداعيات ذلك على حياتنا كأفراد وشركات. فحتى الآن لا تزال "أوبن إيه. آي." نفسها غير مدركة حجم التفاعل والمشاركة الذي ستحصده النسخة الجديدة، إذ ليس متاحا بعد التمييز بين المستخدمين الجادين وأولئك المتحمسين والمشاهدين الفضوليين. 

لربما تستطيع هذه "الآلة" الجديدة طباعة أو سرد أو تجميع ملايين الروايات، وتحقيق المليارات، لكنها لن تستطيع أبدا تأليف رواية واحدة بنفس إنساني، أو كتابة قصيدة كونية عظمى، وستبقى الكلمات المخطوطة بهواجس الحبر والدم والعرق والمشاعر واللاوعي أقوى من أي آلة مهما بلغ ذكاؤها حدة... والأهم هو التنبه إلى الأخطار الضمنية لهذه الخوارزميات على خصوصية الانسان والمجتمعات، ومستقبل ذكاء الأجيال المقبلة.

font change


مقالات ذات صلة