SVB الدروس والعبر

هل تستدرك الإفلاسات أم لا صوت يعلو فوق صوت رفع الفوائد ولجم التضخم وجموح فلاديمير بوتين

SVB الدروس والعبر

أطلق إفلاس "سيليكون فالي بنك" (SVB) الأسبوع الماضي، جرس التحذير والانذار من مغبة استمرار الاحتياطي الفيديرالي الأميركي في رفع الفوائد على النحو الحاصل منذ ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، من دون التحسب لمفاجآت من هذا النوع.

فقد سقط المصرف في مهب رياح أسعار الفائدة، وتوظيفاته غير المتكافئة التي ألحقت به خسائر كبيرة غير محققة من ضمنها ما يتعلق بالسندات المدعومة بالرهن العقاري (Mortgage-backed securities)، وهو الذي لم يشهد خسائر منذ ثلاثة عقود، وذلك على الرغم من خصوصيته كمصرف متخصص بتمويل شركات التكنولوجيا الناشئة.

كان لافتا "التنمر" الروسي على إفلاس المصرف الأميركي الذي يحمل اسم وادي التكنولوجيا الأشهر، إذ تهكمت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا على واشنطن قائلة: "بالورق والألوان سوف تطبع واشنطن المزيد من الدولارات غير المضمونة، الأمر الذي سيؤدي إلى المزيد من المشاكل في العالم".

يكتسب هذا التنمر صدقية أكبر عندما نعلم أن الدين العام الأميركي بات يناهز 32 تريليون دولار، فيما تواجه الولايات المتحدة حاليا ورطة رفع سقف الدين لوفاء التزاماتها في حلول يونيو/حزيران المقبل، ولا يزال التضخم مستمرا ومؤشر أسعار المستهلكين الى ارتفاع، بحيث لم تظهر النتائج المتوخاة من رفع الفوائد. ناهيك بالتشكيك في اختبارات "الإجهاد المصرفي" (Stress Test)، التي صممت بعد أزمة عام 2008، لضمان قدرة النظام المصرفي الأميركي على الصمود في وجه أي أزمة مقبلة، ومنها التهديدات الناتجة من زيادة أسعار الفائدة على السندات الأميركية تحديدا، والركود الذي يمكن أن ينجم عن ذلك.

إفلاس SVB مؤشر سلبي إلى اقتراب موعد البركان الاقتصادي العالمي، وهو يصب الزيت على نار التوقعات المتشائمة مذ قلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حسابات اقتصاد الكوكب. 

بين مطرقة رفع الفوائد وسندان الاخفاقات المصرفية، لعل "SVB" كان الأول الذي أخفق في هذا الاختبار، البالغ حجمه 212 مليار دولار، تمثل قيمة أصوله، حيث كان لزيادة أسعار الفائدة أثران رئيسيان على الأقل أديا إلى انهيار مصرف رواد الأعمال:

أولا، هزت تكاليف الاقتراض المرتفعة القطاعات الهشة في الاقتصاد الأميركي كما تبين، مثل قطاع التكنولوجيا الذي يشكل صلب عمل المصرف، إضافة الى إقراض ممولي شركاته. فودائع المصرف التي تقدر بـ 174 مليار دولار، والتي انخفضت من 200 مليار دولار في مطلع العام المنصرم، يعود جزء كبير منها إلى شركات "سيليكون فالي" ولا سيما الناشئة منها، حيث يخدم المصرف نحو نصف شركات التكنولوجيا، التي تعاني منذ نحو سنة، والشركات العلمية الأميركية التي تعتمد على التمويل، ولا سيما التي تعنى بقضايا المناخ وهي التي تلقت الضرر الأكبر.

 ثانيا، أدت زيادة أسعار الفائدة إلى تقويض قيمة سندات الخزانة المشتراة سابقا، لآجال طويلة، والتي تعتمد عليها المصارف كمصدر رئيسي لرأس المال.

عندما يبدأ الاحتياطي الفيديرالي برفع أسعار الفائدة، فهو يستمر بذلك الى أن يتحطم شيء ما.

حكمة من "وول ستريت"

يحتل "إس. في. بي." المرتبة 16 على لائحة أكبر المصارف الأميركية، وبذلك يفسر وصفه بأكبر انهيار لمصرف منذ 2008 وفقدانه 60 في المئة من قيمته السوقية خلال ساعات، بعد يوم واحد من بيعه لبعض الأصول والسندات، تخطت قيمتها 20 مليار دولار، بسبب نقص السيولة، مما أثار شكوكا ومخاوف لدى عدد كبير من شركات التكنولوجيا التي عمدت الى سحب ودائع قدرت بـ 42 مليار دولار في يوم واحد. 

في انتظار انفجار البركان؟

منذ نهاية العام الماضي، تكبدت المصارف الأميركية خسائر غير محققة من الأصول التي فقدت قيمتها ولم يتم بيعها بعد، بلغت 620 مليار دولار، وفقا لبيانات "المؤسسة الفيديرالية للتأمين على الودائع". هذه الخسائر مرشحة للارتفاع إذا استمر الاحتياطي الفيديرالي في رفع أسعار الفائدة.
انه مؤشر سلبي إلى اقتراب ساعة البركان الاقتصادي العالمي الموعود، وهو مؤشر يصب الزيت على نار التوقعات المتشائمة مذ قلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حسابات اقتصاد الكوكب.

في كل الأحوال، ربّ ضرة نافعة. ها هي أبرز الدروس والعبر المستفادة من الحدث الذي خطف الاهتمامات الاقتصادية وأمضى على أثره المستثمرون والأسواق ساعات ذعر قاسية طوال عطلة نهاية الاسبوع الماضي:

أولا، يذكرنا إفلاس "SVB" مجددا، بأن القطاع المصرفي والمالي يولد وينمو ويزدهر بكلمة "الثقة"، التي متى انهزت انهارت أكبر الامبراطوريات المالية.

ثانيا، في عصر وسائل التواصل الإجتماعي، لم يعد يحدث الهلع والهجوم على طلبات سحب الودائع (Bank Run) في غضون أيام، بل تكفي ساعات قليلة لينتشر الحريق في كل الأسواق... والقارات، بسبب "تراند" واحد، وهو ما يضع البنوك المركزية والهيئات التنظيمية والرقابية وشركات التصنيف والتدقيق تحت مجهر المحاسبة مجددا، لجهة مسؤولية التقييم المسبق لهشاشة الأنظمة المصرفية والتحوط للأخطار وتجنب الأسوأ قبل حدوثه، ناهيك بسوء الحوكمة المستدامة للإدارات. 

ثالثا، الأهمية المطلقة للسرعة الفائقة في الاستجابة لإدارة أي أزمة مصرفية، تماما كما حصل في كاليفورنيا وواشنطن ولندن، وعلى أعلى المستويات بدءا من الهيئات التنظيمية المعنية وصولا إلى رؤساء الدول، مثلما فعل الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك ووزير الخزانة جيريمي هانت الذين سارعوا الى تلقف الإفلاس، وأخذ زمام المبادرة قبل أن تكر سبحة الانهيارات إلى ما لا تحمد عقباه، وطمأنوا المصارف والمودعين وشركات التكنولوجيا الناشئة، تمهيدا لإيجاد التسويات المناسبة لاحقا.

في عصر وسائل التواصل الإجتماعي، لم يعد يحدث الهلع والهجوم على طلبات سحب الودائع (Bank Run) في غضون أيام، بل تكفي ساعات قليلة لينتشر الحريق في كل الأسواق والقارات، بسبب "تراند" واحد.

استلهمت الحكمة ودروس 2008، فوضعت إدارة ودائع المصرف المنهار في عهدة المؤسسة الفيديرالية لتأمين الودائع (The Federal Deposit Insurance Corporation - FDIC) في الولايات المتحدة، وتم تأكيد تأمين ودائع المودعين وتعويضهم بشكل كامل، قبل افتتاح الأسواق الاثنين، مع تخطي المبلغ الأقصى الذي تضمنه المؤسسة والبالغ 250 ألف دولار لكل مودع، من دون تحميلهم أو تحميل دافعي الضرائب أي نوع من الخسائر. وحصرت أسباب الانهيار وتداعياته بظروف استثنائية يمكن إدارتها بابقائها تحت السيطرة، خصوصا بعد اتخاذها خطوات مماثلة في ما يخص "سيغنيتشور بنك" (Signature Bank) بسبب ظهور أخطار نظامية لدى المصرف و"سيلفير غيت" (Silver Gate) الشديد الارتباط بصناعة العملات المشفرة، ولهذا الأخير حديث آخر. 

في بريطانيا، جاءت "الاستجابة الصاروخية" للسلطات في لندن لدرء الخطر عن شركات التكنولوجيا البريطانية مهما تطلب الأمر، وتابع سوناك عروض المنقذين وهو على متن الطائرة التي كانت تقله الى سان دييغو، تمهيدا لقرار حل الفرع البريطاني لـ"سيليكون فالي بنك" وبيعه، والذي كان ملاذا لأكثر من ثلاثة آلاف شركة تكنولوجيا بريطانية، ونال مصرف "أتش. أس. بي. سي"  شرف لقب "الفارس الأبيض" لإقباله على شراء المصرف المنهار في مقابل جنيه استرليني واحد، في انتظار خطة انقاذ وتمويل بمليارات الدولارات من "بنك انكلترا" والحكومة.

في "وول ستريت"، قول رائج خلاصته: "عندما يبدأ الاحتياطي الفيديرالي برفع أسعار الفائدة، فهو يستمر بذلك الى أن يتحطم شيء ما". فهل يأخذ مسار رفع الفوائد استراحة، وتتوقف حوادث التحطم عند حدود "SVB" والشركات الناشئة التي تدور في فلكه، أم أن لا صوت سيعلو فوق صوت رفع الفوائد ولجم التضخم وجموح فلاديمير بوتين؟
 

font change