حرب أوكرانيا ترمي روسيا في "الحضن الصيني"

قدرات محدودة لموسكو في السباق بين بكين وواشنطن

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبنغ في سمرقند، عاصمة اوزبكستان في سبتمبر الماضي ( رويترز)

حرب أوكرانيا ترمي روسيا في "الحضن الصيني"

ما هو موقف روسيا من التنافس الاميركي الصيني؟ لنفهم كيف نجيب بشكل صحيح، يجدر بنا أن نربط سلسلة منطقية من الموضوعات التي قد تبدو للوهلة الأولى وكأن لا علاقة لها بعضها ببعض، بل ومتناقضة أحيانا. لا يوجد مكان هنا للسفسطة، فهذا الأسلوب المزخرف له حقّا ما يبرره، ذلك أن فبراير/شباط 2022 قلب نظام القوة الروسية السابق رأسا على عقب.

العامل الاوكراني

مرّ عام كامل على غزو روسيا لأوكرانيا، ولا يزال الكرملين يحتفظ بموقف متماسك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي اتسمت استجابتها لبدء ذاك النزاع العسكري الواسع النطاق في وسط أوروبا بنوع من ضبط النفس، فلم تدعم العقوبات ضد روسيا ولم تقطع العلاقات معها.

"إن العالم العربي يحب القوة"، كما يشرح لنا بعض الديبلوماسيين الروس بوضوح وإيجاز الموقف العربي تجاه الهجوم على اوكرانيا، الذي "يتفهم بالتالي صراع بوتين مع الغرب، على الرغم من أنه كان لدينا في كثير من الأحيان في عام 2015 وجهات نظر مختلفة جدا حول رؤيتنا للأمور". إنهم، أي العرب، يفضلون التزام الصمت حيال حقيقة أن مسار الحرب الأوكرانية يؤثر بطريقة ما على تصور العالم لفاعلية السياسة الخارجية الروسية.

Getty images
جنديان يقومان بدورية في ضواحي كييف في 22 فبراير 2023.

يعتقد محللون الآن أن السبب الحقيقي لعودة موسكو إلى الشرق الأوسط في عام 2015 كان على وجه التحديد الأحداث الأوكرانية، فقد شعر الكرملين بعد "اتفاقية مينسك الثانية" أنه في وضع يسمح له بالتدخل في الحرب الأهلية في سوريا لإثبات قوته العسكرية على الساحة الدولية، باستخدامه ما يملك من رأس مال القوة المتراكم، بما في ذلك "مرتزقة فاغنر" الذين قاتلوا في دونباس في عام 2014.

ويمكن إجمال السياق العام بالقول إن الحملة الروسية في سوريا سمحت للكرملين بأن يلعب أطروحة "العودة" بنجاح كبير: فمنذ إطلاقها، تمكنت موسكو من تكثيف اتصالاتها مع الجهات الفاعلة الإقليمية والخارجية الرئيسية بطريقة غير مسبوقة واللعب على توترات الحلفاء التقليديين والتدخل في أزمات أخرى من خلال توسيع النشاط الاقتصادي، على سبيل المثل، في كردستان العراق أو لبنان.

السبب الحقيقي لعودة موسكو إلى الشرق الأوسط في عام 2015 كان على وجه التحديد الأحداث الأوكرانية، فقد شعر الكرملين بعد "اتفاقية مينسك الثانية" أنه في وضع يسمح له بالتدخل في الحرب الأهلية في سوريا لإثبات قوته العسكرية على الساحة الدولية

نصيحة ومواجهة

وأدّى ذلك، في عام 2020، إلى أول عملية إعادة تقييم جادة لقدرات كلّ  طرف. وبدّدت أزمة النفط التي أثارتها موسكو وسط جائحة "كوفيد-19"، الأسطورة القائلة بأن البلاد كانت تنتهج سياسة خارجية واقتصادية محسوبة ومحسوبة بعناية. وبناء على نصيحة شركات النفط المملوكة من الدولة، رفض الكرملين تمديد اتفاق "أوبك +" وسط انخفاض الطلب على النفط بسبب تفشي "كوفيد-19".

وحين سئمت الرياض من رؤية روسيا تبدي احتراما شكليا فقط لالتزاماتها خفض الإنتاج، دخلت في مواجهة معها، معلنة استعدادها لزيادة إنتاج النفط وتقديم حسومات للعملاء الأوروبيين والآسيويين. نتيجة لذلك، تكبدت موسكو خسائر أكبر بكثير مما كانت ستخسره لو أنها مددت الاتفاق وبذلت جهدا حقيقيا للشروع في خطة كارتل النفط في أوائل مارس/آذار. وقتذاك، دفعت الإجابة بـ"لا" نفط الأورال الروسي إلى مستوى عام 1998، قبل سنة من تنحي الرئيس بوريس يلتسين، وخفض قيمة الروبل.

لم يكن هناك أي سبب منطقي وراء رفض الدولة توقيع اقتراح السعودية الحفاظ على استقرار الأسعار من طريق خفض 300,000 برميل من النفط من السوق العالمية اليومية. ولا يمكن تفسير قرار الابتعاد عن الصفقة، الذي جاء في لحظة غير مناسبة بشكل خاص، إلا من خلال حسابات القيادة الروسية بأنها جمعت قوة كافية لجعل أعضاء "أوبك" يحدّون من إنتاج النفط من جانب واحد ويخرجون من سوق النفط الصخري للمنتجين الأميركيين، الذين، على الرغم من مرونتهم، اقترضوا الكثير من خطوط الائتمان الخاصة بهم.

جرى حلُّ الموقف في الدرجة الأولى على أساس الاعتبارات الاقتصادية التي فضلتها الخلفية السياسية، وهي خصوصيات العلاقات الأميركية - السعودية في السنوات الأخيرة. وسمحت مشاركة روسيا في صفقة النفط لـ"أوبك +" بزيادة نفوذها في السوق بشكل كبير، حيث باتت العلاقات مع روسيا تسهم في تحقيق التوازن بين السعوديين ونفوذ الولايات المتحدة، التي أصرت دوريا، في عام 2022 وقبله في عام 2021، على زيادة الكارتل لإمدادات النفط.

AFP
قافلة جنود روس تمر أمام جندي أميركي حيث تتقاطع مسارات دوريات الطرفين في الحسكة القريبة من الحدود التركية في 8 أكتوبر 2022.

تقارير خاطئة

في عام 2022، بالغ الكرملين مرة أخرى في تقدير قدراته، بالاعتماد على بيانات استخباراتية خاطئة وتقارير كاذبة عن الاستعداد القتالي لقواته المسلحة، وأطلق حربا في أوكرانيا، التي سرعان ما تحولت إلى معارك موضعية معتادة. وعلى الرغم من أن موسكو تحاول الآن إظهار صلابة مواقفها السابقة في المنطقة والعالم، فإن الحرب التي طال أمدها تؤثر، إذا أردنا استخدام عبارة ملطفة، على القدرات الحقيقية، للديبلوماسية والقوات المسلحة الروسية. ولكن يبدو أن من الصعب على المنخرطين فيها دعم المساعي اللفظية بأفعال حقيقية، نظرا الى الخسائر الفادحة في القوات والموارد على الجبهة الأوكرانية.

وإذا كانت الحربان في سورية وليبيا قد دفعتا الديبلوماسية الروسية إلى الهامش، مما أجبر الجيش والخدمات الخاصة على التقدم إلى الواجهة، فإن الحرب في أوكرانيا جلبت تحديات إلى جسد السلطة، وهي العمود الفقري للنظام الروسي، فإن الديبلوماسية التقليدية ليس لديها فرصة حقيقية للانتعاش.

قد لا يغير العالم العربي نهجه تجاه روسيا، بسبب التناقضات الحالية مع الولايات المتحدة والحاجة إلى تنويع الاتصالات، لكن نتائج حملة الكرملين العسكرية ستؤثر بلا شك على قوة العلاقات معها.

سمحت مشاركة روسيا في صفقة النفط لـ"أوبك +" بزيادة نفوذها في السوق بشكل كبير، حيث باتت العلاقات مع روسيا تسهم في تحقيق التوازن بين السعوديين ونفوذ الولايات المتحدة، التي أصرت دوريا، في عام 2022 وقبله في عام 2021، على زيادة الكارتل لإمدادات النفط

العامل الصيني

غالبا ما يُنظر إلى العلاقات الروسية - الصينية في روسيا نفسها من خلال نظارات وردية. وقد لوحظ منذ فترة طويلة أن الجيش الروسي غالبا ما يدلي بتصريحات غير متوقعة عن الأحداث في الصين. على سبيل المثل، اختارت موسكو المنتديات الصينية لكي "تكشف أولا عن معلومات" حول تورط مزعوم لطائرة "بوسيدون -8" أميركية في هجوم على قاعدة جوية روسية في سوريا، أو تعترف بأن وزارة الدفاع قللت قدرات نظام أميركي مضاد للصواريخ.

قد يكون الصينيون يرغبون في سماع أخبار عن مثل هذه التهديدات الأميركية. مع ذلك، ليس لدى الصين أوهام حول التفاعل مع روسيا: من الواضح أن بكين لا تعتبر موسكو حليفا.

يلاحظ الخبير الروسي ألكسندر خيرامشيخين، عن وجه حق، أن الديبلوماسيين الروس يذكرون باستمرار روسيا والصين كهدفين محتملين لأفعال الغرب العدوانية، في حين أن الديبلوماسيين الصينيين لم يذكروا روسيا تقريبا في مثل هذا السياق، متهمين السياسات العدوانية الغربية باستهداف الصين حصرا. وصرّح الخبير الروسي أن البلدين لن يستسلما للضغط من أطراف ثالثة وأضاف على الفور أن العلاقات بين روسيا والصين ليست موجهة ضد أي طرف ثالث.

Getty images
طائرة تدريب عسكرية في معرض الصين الدولي للطيران والفضاء في مدينة تشوهاي بمقاطعة قوانغدونغ في 9 نوفمبر 2022.

اليكم مثلا توضيحيا يميز التفاعل بين موسكو وبكين على خلفية ما يبدو أنه تعميق لأشكال مؤسساتية من التعاون العسكري الصيني – الروسي. فقد حوّلت بكين التمرين البحري، الذي قام به الجانبان منذ عام 2012، لصالحها، حيث تقام في الأعوام المزدوجة المناورات على الأراضي الصينية، بينما تقام، في السنوات المفردة، بالقرب من فلاديفوستوك. كانت خطّة الصينيين في البداية تبديل أساطيلهم أثناء المناورات، ونتيجة لذلك كان على روسيا المشاركة في عامي 2016 و 2022 في منطقة الأسطول الجنوبية في بحر الصين الجنوبي، مع كل ما يترتّب على وقوف موسكو رسميا مع الصين في العديد من النزاعات الإقليمية حول الأراضي مع جيرانها في المنطقة. والحق أن تسيير دوريات مشتركة للقاذفات الروسية والصينية فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي ليس له أي معنى عسكري، بل معنى سياسي ليس لموسكو أي فائدة واضحة فيه.

ثمة تقارير تشكّك، في هذا الخصوص، في شحنات الأسلحة الصينية لروسيا، حيث تشتري روسيا دروعا فردية صينية وغيرها من المعدات، وكذلك طائرات استطلاع بدون طيار، ولكن فقط بقدر ما يتم تداول السلع التجارية علانية على الإنترنت.

يؤكد هذا السلوك إلى حد كبير تبعية روسيا للصين، ونظرا الى الحرب في أوكرانيا والعقوبات المفروضة على موسكو من المحتمل أن تؤدي لإعادة توجيه تصدير الغاز الطبيعي الروسي المسال قسرا تجاه الصين – إلى تعزيز بكين تبعية موسكو لها.

تحلّ الصين تدريجيا محل الولايات المتحدة، التي أفسدت علاقاتها مع بلدان أخرى في المنطقة، وتظهر زيارة الرئيس شي جينبينغ الأخيرة للرياض أن روسيا والصين تطوّران جنوبا عالما متناظرا ولا غربيا، باعتباره التيار الرئيسي في العلاقات الدولية المعاصرة

التنافس على السعودية

تحلّ الصين تدريجيا محل الولايات المتحدة، التي أفسدت علاقاتها مع بلدان أخرى في المنطقة، وتظهر زيارة الرئيس شي جينبينغ الأخيرة للرياض أن روسيا والصين تطوّران جنوبا عالما متناظرا ولا غربيا، باعتباره التيار الرئيسي في العلاقات الدولية المعاصرة. وكتب الأستاذ في كلية الاقتصاد العليا في الجامعة الوطنية للأبحاث، سيرجي لوزيانين، مقال رأي نشره على موقع المجلة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية.

وهو يعبّر في الواقع عن وجهة نظر باتت شائعة إلى حد ما بين المسؤولين الروس، مفادها أنه في حين تعمل الصين على توسيع التعاون الاقتصادي مع السعودية ودول أخرى في منطقة الشرق الأوسط، فإن لدى روسيا فرصة لتلعب دورا في القضايا الأمنية ولتحرز تقدما في الأجندة السياسية في المنطقة.

ولكنْ هنالك، أولا، شك كبير في أن تكون روسيا والصين قادرتين على العمل بشكل متكافئ إلى هذا الحدّ أو ذاك. أضف إلى ذلك أن عمليات المصالحة في المنطقة التي أطلقتها الديبلوماسية الأميركية في عهد دونالد ترمب قد حيّدت موسكو تماما. لذا، ليس من الواضح على الإطلاق ما الذي تستطيع موسكو أن تقدمه بشكل واقعي في هذا السياق، كونها البادئة بأكبر حملة عسكرية في التاريخ الحديث.

ثانيا، لم تعد الأسلحة الروسية، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، أقل فتكا في المنطقة من الأسلحة الصينية، ناهيك بأن لدى الصين ما تقدمه إلى السعودية.

 موسكو تشعر بأنها جزء من المنافسة العالمية على المنطقة، لكن مواردها في الواقع محدودة، وقد باتت، مع تطور الصراع العسكري في أوكرانيا، أكثر اعتماداً ليس فقط على الصين، ولكن حتى على إيران.

font change

مقالات ذات صلة