المبعوث الأمـمي بالسودان متفائل بعد "حرب كلامية" بين العسكر

فولكر بيرتس يتحدث الى "المجلة" عن تنفيذ "الاتفاق الإطاري" واصلاح الجيش

JeRoen Murré
JeRoen Murré

المبعوث الأمـمي بالسودان متفائل بعد "حرب كلامية" بين العسكر

إحدى الميزات الرئيسية لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس، أنه يسمي الأشياء بأسمائها. منذ تسلمه منصبه قبل أكثر من سنتين، سمى الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير بـ "الدكتاتور" وحكمه بـ "النظام الدكتاتوري". كما أنه سمى ما حصل في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 بـ "الانقلاب".

بيرتس يجمع بين أمرين: خبرة بحثية أكاديمية اكتسبها من الأبحاث الميدانية عن سوريا وغيرها وتدريسه في جامعات كبرى وقيادته "المركز الألماني للعلاقات الدولية والأمنية"، إضافة إلى عمل استشاري ثم مباشر مع الأمم المتحدة على سوريا والسودان.

كان سباقا في وضع النقاط على الحروف في السودان. ويقول: "أعتقد أن ذلك يجعل مهمتي ذات مغزى أكثر. لقد تعلمنا استخدام اللغة الديبلوماسية ونفعل ذلك، لكن في بعض الأحيان يتعين عليك تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية". ويضيف أنه "تحدث وعمل" مع "الأشخاص الذين قادوا الانقلاب" مثل الجنرالين عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) و "أوضحنا أننا رأينا أحداث 25 أكتوبر 2021 على أنها انقلاب غير دستوري وخطأ يحتاج إلى تصحيح".

بيرتس، منذ وصوله إلى السودان، يتنقل بين الفاعلين من عسكر ومدنيين، بين المكاتب والشوارع، في شمال البلاد وجنوبها وباقي أنحائها. يدرك صعوبة المهمة. التحديات كثيرة، أحد تجلياتها كانت "الحرب الكلامية" أو "الجدال" بين قطبي المجلس العسكري، البرهان وحميدتي، وتباين الآراء حول اصلاح المؤسسة العسكرية وتنفيذ الاتفاق الإطاري والمرحلة الانتقالية للوصول إلى الحكم المدني، لكن لديه "شعورا معينا بالتفاؤل في أن السودان اليوم هو في مكان أفضل بكثير مما كان عليه قبل عام".

وهنا نص الحديث الذي جرى عبر تطبيق "تيمز" في 27 فبراير 2023:

Getty Images
مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس يتحدث إلى وسائل الإعلام في الخرطوم، 10 يناير 2022.

لقد مر ما يقرب من شهرين على توقيع "الاتفاق الإطاري"، هل أنتم واثقون من تنفيذه؟

تصف عبارة "الاتفاق السياسي الإطاري" بالضبط جوهر هذا الاتفاق. إنه إطار عمل، ما يعني أن خطوات أخرى يجب أن تتلو ذلك، ولا بدّ من أن يكون هناك اتفاق نهائي، يحدد إطار العمل الذي نأمل من خلاله أن توافق فيه الأطراف التي وقّعته، وأطراف أخرى، على انتقال السلطة من الحكم العسكري إلى حكومة مدنية.

ثمّ لا بدّ من تحديد مهام الحكومة المدنية الجديدة بتفصيل أكبر وتدقيق الأطر الزمنية وخرائط الطريق لهذه المهام المحددة للحكومة الانتقالية التي لن تكون منتخبة، إضافة إلى القضايا الرئيسية والحاسمة، مثل المسائل الأمنية والعدالة الانتقالية وسبل التعامل مع شرق البلاد وكيفية تنفيذ اتفاق جوبا للسلام، وأفضل الطرق لتفكيك النظام القديم.

هذه القضايا الخمس التي ذكرتها، هي مواضيع ورش عمل نقوم بتيسيرها مع شركائنا في الإتحاد الأفريقي والإيقاد منذ بداية هذا العام.

يبدو أن ثمّة الكثير على المحك هنا، وليس مجرد انتقال عادي من الحكم العسكري إلى الحكم المدني، لأن أمامنا مسائل أعقد بكثير؟

بالتأكيد، لكن لنكن واضحين. لم يكن انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 العسكري مفاجئا. لم يكن سبب الانقلاب مجرّد خلاف بين الجنرال عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي) مع الآخرين، بل كان ثمّة صراعات سياسية قبل ذلك لم يتمّ حلها.

صحيح أن حكومة عبد الله حمدوك أنجزت الكثير من الأمور، ولكن كانت هناك أيضا صراعات واختلالات وظيفية. المهم الآن – في حال توصلنا إلى اتفاق نهائي لتعيين رئيس وزراء مدني وتعيين رئيس مدني للدولة – أن تكون الفترة الانتقالية الجديدة أفضل استعدادا من سابقتها.

لا أحد يبحث عن إجماع مطلق، لكنّ هناك اتفاقا كبيرا بين المشاركين المعنيين في العملية السياسية حول القضايا الرئيسية التي يتعين على الحكومة الانتقالية التعامل معها. هذا الأمر لم يكن موجودا تماما في الفترة الانتقالية الأولى، من 2019 إلى انقلاب 2021، بل كان يسود الكثير من الخلاف حول ما يحقّ للحكومة الانتقالية القيام به بالفعل، وحول تقسيم الأدوار في الشراكة بين الجيش والمدنيين.

الآن، يُستحسن أن يكون السودانيون أكثر وضوحا في الاتفاق حول ما ينبغي القيام به في المرحلة الانتقالية الجديدة. ويبدو أن هناك اتفاقا واسعا يضم طيفا واسعا من الأطراف بمن فيهم بعض من لم يوقّع أساسا "الاتفاق السياسي الإطاري" على أن يكون للحكومة الانتقالية مهمات محدودة، كونها حكومة انتقالية وغير منتخبة.

لم يكن انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 العسكري مفاجئا. لم يكن سبب الانقلاب مجرّد خلاف بين الجنرال عبد الفتاح البرهان والجنرال محمد حمدان دقلو (المعروف باسم حميدتي) مع الآخرين، بل كان ثمّة صراعات سياسية قبل ذلك لم يتمّ حلها

ماهي هذه المهمات؟

 هذه بعض من تلك المهام الرئيسية:

1 - تصحيح وضع الاقتصاد في البلاد

2- تقديم المساعدة للفقراء والفئات الضعيفة من المجتمع

3- استكمال عملية السلام مع الأطراف الذين لم ينضووا تحت الاتفاق بعد، مثل عبد العزيز الحلو وعبد الواحد النور

4- تنفيذ اتفاق جوبا للسلام

5- سلوك مسلك الحكم الرشيد

6- التحضير لانتخابات ذات صدقية في غضون 24 شهرا بعد تعيين رئيس وزراء جديد.

 في مناسبة الحديث عن الاتفاق والخلافات، شهدنا في الفترة الأخيرة ما سمّاه صحافيون "حربا كلامية" بين شخصيتين رئيسيتين في المؤسسة العسكرية، البرهان وحميدتي. ما قراءتك لذلك؟

أطلق عليها البعض "حربا كلامية". أما أنا فأسميها جدالا. المهم أنها ليست حربا بالسلاح. لا ريب مطلقا في أن هناك قضايا خطيرة خاصة في ما يتعلق بطرق تحقيق الاندماج النهائي لـ "قوات الدعم السريع" في جيش وطني واحد.

لكنّ كلاً من الجنرال حميدتي والجنرال البرهان التزما الاتفاق السياسي الإطاري بما لا يدع مجالا للشك، وعلينا أن نكون واضحين للغاية في شأن ذلك، أنه لا يمكن أن يكون هناك في النهاية إلا جيش وطني واحد. لا يمكن أن يكون هناك جيشان أو خمسة أو سبعة. منذ وصولي إلى السودان منذ أكثر من عامين، كنت أقول إنه لا يمكن أن يكون لديك بلد مسالم ولا يمكن أن يكون لديك تحول سلمي إذا كان لديك خمسة أو ستة أو سبعة جيوش.

Getty Images
الجنرال عبد الفتاح البرهان أثناء حضوره ختام مناورة عسكرية في منطقة المعقل، في 8 ديسمبر 2021.

يتعلق الأمر، إذن، بدمج "قوات الدعم السريع" في نهاية المطاف في جيش وطني واحد، لكنه يتعلّق أيضا في طبيعة الحال بالتنظيمات المسلحة التي وقّعت اتفاق جوبا وبتعزيز اتفاقات السلام للاندماج في الجيش أو المرور في عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج(DDR) من أجل تفكيك نفسها والاندماج في المجتمع بدلا من الاندماج في الجيش، وهذا ما يتقرّر خلال العملية نفسها.

وعلى الرغم من "الحرب الكلامية"، يتفق كل من البرهان وحميدتي على أن لكل منهما نقطة تركيز مختلفة حول ما إذا كان إصلاح القوات المسلحة السودانية يجب أن يتحقّق قبل الاندماج أو أن الاندماج يجب أن يأتي أولا.

لنكن واقعيين. هذه عملية شاملة يرتبط فيها الجزآن ارتباطا لا انفصام له، ولا بدّ إذن أن يسير الجانبان – إصلاح قطاع الأمن وعملية الاندماج – جنبا إلى جنب، خطوة بخطوة.

سيحتاج الأمر إلى وقت، ولكن ينبغي أن نتّفق على الأقلّ – قبل التوصل إلى اتفاق نهائي – على نهج ما أو خريطة طريق لما سيكون على الحكومة المدنية الجديدة إنجازه، في ما يتعلق بعمليتي الدمج والإصلاح، اللتين يجب أن تسيرا جنبا إلى جنب، كما قلنا.

لنعد قليلا إلى الخلاف أو الجدال أو "الحرب الكلامية" بين الجنرال البرهان والجنرال حميدتي: هل سبب ذلك اختلاف رؤيتهما لأولوية الإصلاح الأمني أم التكامل؟ أم تراه يتعلق بنزاع إقليمي حول مستقبل السودان؟

جوهر القضية هو مستقبل الجيش ومستقبل "قوات الدعم السريع". يرتبط مستقبل "قوات الدعم السريع" أيضا بمسألة من يقودها. الجيش مؤسسة يمكن بموجب قوانينها استبدال القائد العام في النهاية بقائد عام آخر وتكون لديه القواعد المؤسسية المناسبة لذلك. لكن الأمر يختلف في "قوات الدعم السريع"، فنحن نعلم أن هذه القوات تديرها عائلة وهذا شيء يجب تغييره. وأعتقد أن الجنرال حميدتي يدرك ذلك جيدا.

 الخلاف في التفاصيل، إذن، ليس حول الهدف الاستراتيجي المتمثل في وجود جيش وطني موحد، بل حول الجدول الزمني والعمليات – سواء استغرق ذلك ثلاث سنوات أم خمس عشرة سنة. وقد يكون في وقت ما بين الإثنين لتقرير حجم الإصلاح الذي سيجري في القوات المسلحة السودانية قبل أن يُدمج الجميع بشكل كامل حتى على مستوى الكتائب والسرايا.

للقوى الإقليمية مصالح، ونحن نعرف هذا، فلسنا سذّجا. ونعلم أيضا أن القوى السودانية المختلفة لها أيضا مصالح مختلفة. وتهتم القوى السياسية وجميع أنواع القادة وأصحاب المصلحة هنا في السودان بالبحث عن الدعم من القوى الإقليمية أو القوى الدولية. في بعض الأحيان تُجَرّ القوى الإقليمية والدولية إلى الخلافات جرّا، ولكن في أحيان أخرى تسعى القوى الإقليمية والدولية نفسها إلى إيجاد حلفاء لسياساتها وتحقيق مصالحها الخاصة داخل البلاد.

هناك اتفاق عريض للغاية في هذا البلد، لا يضمّ فقط أولئك الذين وقّعوا الاتفاق السياسي الإطاري بل يتعدّاهم إلى سواهم، على أن الفترة الانتقالية يجب أن تكون محدودة، ولا يمكن أن تكون مفتوحة. ويجب أن تفضي إلى الانتخابات وتُتَوَّج بها

أعرف أن دورك، كمبعوث للأمم المتحدة، هو تسهيل العملية ودعمها وليس التدخل، وأعلم أيضا أن من الصعب التكهن، ولكن كإطار زمني للإصلاح الأمني، ما هو في رأيك أفضل وقت لتطبيق الإصلاح والحصول على جيش سوداني موحد؟ ذكرت ما بين 3 و 15 سنة، لكن ما هو أفضل جدول زمني لوجود جيش سوداني وطني محترف؟ 

كلّما كان ذلك أسرع كان أفضل، مثلا أن تبدأ في أول 90 يوما من تشكيل حكومة مدنية جديدة. يمكن البدء بتشكيل لجنة إصلاح أمني وتشكيل هيئة لدمج القوات تحت سلطة رأس الدولة الجديد، وتشكيل الهيئة، بينما يكون لديك القادة العسكريون والقادة السياسيون المدنيون الذين يحدّدون الخطوات التالية، وبدء تحديد الاحتياجات الأمنية للبلد.

ليس هناك شك في أن بلدا مثل السودان، بحدوده الطويلة وسكانه القلائل نسبيا، يحتاج إلى أنواع مختلفة من القوات. فمثلا، أنت بحاجة إلى قوات لحماية الحدود، لكنك تحتاج أيضا إلى قوات يمكن نشرها بسرعة في أي مكان تندلع فيه النزاعات، ليكون ذلك جزءا من استراتيجيا عامة للأمن القومي أو وثيقة قواعد (كتاب أبيض) لتحديد نوع القوات المطلوبة في المقام الأول.

لعلّ القوات المسلحة السودانية نفسها قد بدأت بذلك كما أرى، وسيتعين عليك فقط التأكّد من أن القوانين واللوائح التي تعمل بموجبها لا تزال مناسبة، بما في ذلك معايير القبول في الأكاديمية العسكرية أو اختيار الضباط الذين سيدخلون الأكاديمية العسكرية، وبما في ذلك أيضا التراتبية والعقيدة العسكرية والرواتب.

تبقى غاية إصلاح قطاع الأمن في أي بلد يأخذ الأمر على محمل الجد، هو تعزيز فاعلية القوات المسلحة وتقويتها، ليس بالضرورة من حيث امتلاكها المزيد من الأسلحة، ولكن بمعنى تعزيز ملَكَاتها وفاعليتها وقبول الناس لها. لا بد هنا من مناقشة التفاصيل. الشيء المهم هو أن تبدأ أولا، ومن ثم تحدّد الجداول الزمنية.  

لعلنا ننظر إلى تجارب دول أخرى مرت بعمليات معقّدة لإصلاح قطاع الأمن فيها، بما في ذلك دمج قوات المعارضة أو تفكيك الجيش، ويمكننا أن نأخذ إسبانيا وكولومبيا وتشيلي كأمثلة على ذلك. لا يستحسن أن تخطط لإنجاز كلّ شيء دفعة واحدة، لتحصل على قوات مسلحة تم إصلاحها بالكامل ووضعها تحت سيطرة مدنية كاملة في أقل من 10 سنين، كما أثبتت تجارب الدول الأخرى. يجب ألاّ تكون طموحا أكثر من اللازم وتقول إننا قد ننهيها في غضون عامين لأن ذلك لن يؤدي إلا إلى خيبات الأمل.

لا أريد أن أحدّد أن الأمر سيستغرق خمس سنوات أو ثماني سنوات أو اثنتي عشرة سنة، فهذا شيء يجب أن يكتشفه السودانيون معا، ولا بدّ أن أكون واقعيا. يفترض أن تستغرق الفترة الانتقالية عامين، يتعين عليك خلالهما إعادة العملية بثبات إلى المسار الصحيح الذي قد يتضمن شكلاً من أشكال التكامل المرئي على مستوى القيادة الأعلى.

أما زلت تعتقد بثقة أنه سيكون هناك انتقال إلى حكومة سياسية لمدة عامين، سنحصل بعدهما على انتخابات حرة ونزيهة في السودان؟

أعتقد أنه سيكون لنا عودة إلى الانتقال بشكل ما، فقد كانت هناك عملية انتقالية في ظل حكومة حمدوك بعد سقوط نظام (الرئيس عمر حسن) البشير، واتفق الجميع على وثيقة دستورية وإعلان سياسي، ومن ثم حصلنا على حكومة حمدوك الانتقالية.

وقد أحرزت حكومة حمدوك تقدّما ملموسا، وبخاصة في المجال الاقتصادي وإلغاء الديون، وبدأت أيضا بالإصلاحات السياسية، ثمّ توقف هذا الانتقال بسبب انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. نحن نتحدث الآن عن العودة إلى الانتقال بقيادة مدنية، ونسعى جاهدين لتسهيل عملية سياسية تسمح للسودانيين ببدء مرحلة انتقالية جديدة.

هناك اتفاق عريض للغاية في هذا البلد، لا يضمّ فقط أولئك الذين وقّعوا الاتفاق السياسي الإطاري بل يتعدّاهم إلى سواهم، على أن الفترة الانتقالية يجب أن تكون محدودة، ولا يمكن أن تكون مفتوحة. ويجب أن تفضي إلى الانتخابات وتُتَوَّج بها. سنتان هي إطار زمني معقول. قال بعض الناس دعونا نُجرِ انتخابات بعد ستة أشهر أو اثني عشر شهرا. لكنني، بصفتي ممثلا للأمم المتحدة، أقول إنني لا أستطيع أن أؤيد هذا الرأي لأننا نعلم أنه إذا قمنا بذلك في غضون ستة أشهر أو اثني عشر شهرا، فلن نكون قد أنجزنا فروضنا – لا نحن الدوليين ولا السودانيون – لإجراء انتخابات ذات صدقية. أنت بحاجة إلى لجنة انتخابية معدلة وقانون مفوضية الانتخابات، وقانون الانتخابات، وقانون الأحزاب السياسية، وتحتاج الأحزاب إلى عقد مؤتمراتها وإجراء حملات انتخابية والتواصل مع الناس. يجب أن يكون لديك أساس إحصائي، إن لم يمثل كامل التعداد، فعلى الأقل الجزء الأول من التعداد. عليك أن تعرف كيف وأين سيصوّت النازحون، على سبيل المثل. لا يمكنك فعل ذلك في ستة أشهر. إذا كنت ترغب في إجراء انتخابات ذات صدقية، أعتقد أن الفترة الانتقالية لمدة عامين لا تزال طموحة، ولكن يمكن القيام بها.

يجد السودان نفسه في موقع وسط طبيعي، وهو لذلك مهتم بشكل خاص بكل ما يساهم في إمكان التنبؤ بتدفق المياه واستقراره، لأن في ذلك مصلحة له

 ذكرتَ الرئيس السابق عمر البشير، ومن العبارات التي سمعناها كثيرا في السنوات العشر الماضية في الوطن العربي كلمة "الفلول" أو بقايا الأنظمة القديمة. في الآونة الأخيرة، اتهم شخص من "قوات الدعم السريع" بعض الأشخاص في المجلس العسكري بأنهم يدافعون عن فلول نظام البشير؟

لن أتحدث عن الأفراد أو تاريخهم أو انتماءاتهم، ولكن عندما يكون لديك دولة تعيش تحت حكم حزب واحد بالإضافة إلى الديكتاتورية العسكرية لمدة 30 عاما، فسيعني ذلك جيلا كاملا في الجيش وفي الخدمة المدنية وأيضا في القطاع الخاص ممن دُمِجوا اجتماعيا في النظام، وقد بنى العديد منهم اتصالات وشبكات وهياكل رعاية. هؤلاء لم يرحلوا جميعا بسقوط نظام البشير. يمكنك حظر حزب مثل حزب المؤتمر الوطني السوداني، ولكن الناس بالطبع لا يزالون هناك ولديهم شبكاتهم ويعملون كمهنيين أو في الخدمة المدنية أو حتى في الجيش ولا يمكن لأحد أن يتجاهلهم. هم هناك كأفراد. هم مواطنون سودانيون شرعيون مثل الآخرين. إذا أطيحت الديكتاتورية، فإن سوسيولوجيا النظام القديم ستبقى قائمة حتى ولو حللْتَ تنظيمها السياسي. ما يمكنك القيام به أيضا، ولكنه عمل صعب كما نعلم من تجربة بعض البلدان في أوروبا الشرقية، هو محاولة تفكيك الأساس الاقتصادي للديكتاتوريات وتفكيك الفساد الذي حدث في ظل الديكتاتوريات. هذا ما بدأ من خلال لجنة التفكيك، ويجب أن ينتهي بطريقة أفضل مما تم في العام الأول بناء على قواعد قانونية واضحة.

ولا غرابة في أن يكون ثمّة الكثير من الاتهامات المتبادلة في سياق أي خلاف سياسي بين الأطراف السياسيين، كلٌّ يتهم الآخر بأنه من الفلول. ولعل أشخاصا ممن لم يكونوا في الجيش أو الخدمة المدنية قد استفادوا أيضا من النظام القديم، وقدموا في سبيل ذلك بعض التنازلات التي قد لا ترقى إلى المعايير الأخلاقية التي يجب أن نطبقها اليوم.

ماذا عن المساءلة؟ هل أنت مرتاح إلى درجة التركيز على المساءلة المتضمنة في الاتفاق الإطاري؟

من المهم أن تكون هناك إشارة إلى المساءلة. لقد وقّعها العسكر، بإمضاء كل من البرهان وحميدتي، كما وقّعتها القوات المدنية الرئيسية وهناك بعض القوى من خارج فصائل الكفاح المسلح التي وقّعت وأكثر من نصف موقّعي اتفاق جوبا الرئيسيين كانوا أيضا بين الموافقين. ولكن ثمة من لم يسجل نفسه بين الموافقين. المساءلة ليست محل نزاع، فهي مطلب واضح للثورة، مطلب واضح للناس الذين نزلوا إلى الشارع وأسقطوا نظام البشير ونزلوا إلى الشارع مرة أخرى بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021. فبدون محاسبة لا توجد عدالة، ولن تتمتع بالشرعية أي حكومة انتقالية جديدة. 

هناك أسئلة محددة للغاية حول كيفية تصميم عملية العدالة الانتقالية التي تحقق المساءلة والعدالة وفي الوقت نفسه تجعل من الممكن لمن هم في السلطة اليوم تسليم السلطة إلى حكومة مدنية دون الخوف على أمنهم الشخصي – حريتهم الشخصية أو حتى حياتهم.

لدينا تجارب من دول أخرى، من جنوب أفريقيا ومن كولومبيا. يمكنك تصميم عملية العدالة الانتقالية التي تشمل المساءلة من خلال الشفافية، من خلال الاعتذارات، وخاصة من خلال ضمانات واضحة بأن المؤسسات الديموقراطية الجديدة سيتم الحفاظ عليها وسيتم تأمينها.

Getty Images
متظاهرون سودانيون ينددون بالانقلاب نزلوا إلى شوارع العاصمة الخرطوم، في 6 يناير 2022.

بصفتك مبعوثا خاصا للأمم المتحدة، من المثير للاهتمام ملاحظة أنك تصف عمر البشير بالديكتاتور وأنت تتحدث عن الديكتاتورية وتسمي 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 "انقلابا". هل صراحتك ووضوحك يسهلان مهمتك أم يعقدانها؟ 

أعتقد أن ذلك يجعل مهمتي مؤثرة أكثر. لقد تعلمنا استخدام اللغة الديبلوماسية ونفعل ذلك، لكن في بعض الأحيان يتعين عليك تسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية.

إذا تابعت رواية خطاب المسؤولين هنا في السودان، فستجد أنه، على مدار الأسبوعين الماضيين، حتى قادة الانقلاب استخدموا كلمة "انقلاب". لقد استغرق الأمر بعض الوقت. أما نحن فأطلقنا على الانقلاب ذلك الاسم منذ اليوم التالي لوقوعه، اعتبارا من 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، واستخدم مجلس الأمن التعبير الإنكليزي "استيلاء عسكري"، وتحدث الاتحاد الأفريقي عن تغيير غير دستوري للحكومة، وأحيانا مصطلح "انقلاب عسكري". لذلك أعتقد أنه لا ينبغي لنا أن نتظاهر بأنه شيء طبيعي. لقد كان غير دستوري وكان استيلاء عسكريا، وباختصار في العلوم السياسية نسميه الانقلاب. هذا ما كان عليه. 

هذا لا يعني أنك لن تتحدث أو تعمل مع الأشخاص الذين قادوا ذلك الانقلاب. لقد جعلوا أنفسهم السلطة الوحيدة. كان الجنرال البرهان والجنرال حميدتي رئيسيين في الدولة، حتى قبل الانقلاب. لذلك عملنا معهما من قبل وتابعنا العمل معهما بعد ذلك، لكننا أوضحنا أننا رأينا أحداث 25 أكتوبر/تشرين الأول على أنها انقلاب غير دستوري وخطأ يحتاج إلى تصحيح.

انظر إلى ما نحن عليه الآن: بعد مرور عام وبضعة أشهر، يتفق الجميع على أنه يجب تصحيح هذا الأمر، ويرون أن علينا العودة إلى الحكم المدني. لم تكن هذه هي الحال بعد أيام أو أسابيع أو حتى شهور من الانقلاب. إذا قارنا الوضع اليوم بما كان عليه قبل عام، لوجدنا كيف كان القادة العسكريون يقولون في ذلك الوقت إنه لا يمكننا التحدث مرة أخرى مع هؤلاء الأطراف الذين أطحناهم، وكان هؤلاء الأطراف يقولون إنه لا يمكننا التحدث مرة أخرى إلى الجيش. لم ينجح الأمر مع الجانبين. لم يكن الجيش قادراً على تشكيل حكومة ذات صدقية، ولم يستطع وقف تدهور الاقتصاد والوضع الأمني. في المقابل، لم تكن الأحزاب السياسية المدنية قادرة على قلب الجيش. الآن يتحدث الجميع إلى الجميع وهي خطوة مهمة للتوصل إلى اتفاق يعيد السودان إلى حكم مدني.

ينبغي أن نتّفق على الأقلّ – قبل التوصل إلى اتفاق نهائي – على نهج ما أو خريطة طريق لما سيكون على الحكومة المدنية الجديدة إنجازه، في ما يتعلق بعمليتي الدمج والإصلاح، اللتين يجب أن تسيرا جنبا إلى جنب، كما قلنا

قبل الانضمام إلى الأمم المتحدة للعمل في شأن سوريا والسودان، كنت تقود مركزا فكريا بارزا. هل تعتبر ما يحدث في السودان جزءا من "الربيع العربي" وهل ما حدث في السودان خلال السنتين أو الثلاث سنوات الماضية هو حقا موجة ثانية من "الربيع العربي"؟

لم أحب عبارة "الربيع العربي"، فهي تعبير موسمي للغاية، قصير المدى وأحيانا يتجاهل أن التغيير، خذ على سبيل المثل سقوط الحكومة في تونس، هو عملية طويلة الأمد تمتد عبر أجيال. أنا أطلقت عليها اسم "ثورات عربية" لكنني لم أسمِّها "ربيعا عربيا" في ذلك الوقت. لذلك لا أعتبر ما يجري في السودان مرحلة ثانية من ذلك.

في التاريخ، يتعلم الناس من تجارب الآخرين. وبالنظر إلى الروابط العميقة بين السودان وبقية العالم العربي، كان الناس هنا يراقبون تجارب الدول العربية الأخرى. لكن علينا أيضا أن نفهم الروابط العميقة بين السودان وبقية أفريقيا. ألم نرَ جيلا من النضالات من أجل التغيير في أفريقيا؟ أدت إلى ديموقراطيات مستقرة إلى حد ما في بلدان لم تكن ديموقراطية قبل 30 عاما: جنوب أفريقيا وكينيا. وفي نيجيريا، تجري انتخابات ذات صدقية حيث لا يشارك فيها ضابط عسكري سابق، وهو أمر مهم للغاية. يقع السودان في عالمين: العالم العربي وتجاربه وأفريقيا وتجاربها. الشعب السوداني، ولا سيما جيل الشباب، يريد أفضل ما في العالمين. إنهم فخورون بثقافتهم المختلطة، وهم يتطلعون بشدة إلى التجارب الناجحة للتحولات الديموقراطية لا سيما في أفريقيا، حيث لا يعرف العالم العربي الكثير منها.

مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان فولكر بيرتس

 ذكرت أفريقيا، بالإضافة إلى ما يحدث داخليا في السودان في ما يتعلق بالانتقال، هناك قضايا عابرة للحدود أيضا مع إثيوبيا: اللاجئون وتيغراي وسد النهضة. ما هو رأيك في ذلك؟

لا تختفي السياسة الجغرافية لمجرد أن لديك ثورة. هناك عوامل وتطورات جيوسياسية وجيو-اقتصادية يتعين على أي حكومة هنا التعامل معها، لكن من المؤكد أن الحكومات الديموقراطية تتعامل في كثير من الأحيان مع النزاعات الخارجية بطريقة مختلفة عن تلك الاستبدادية.

أحد التطورات المهمة في هذا الجزء من العالم، هو أنه بعد محاولة القيام بكل شيء آخر لفترة طويلة، اكتشف معظم القادة الإقليميين الآن أن من غير المنطقي محاولة تقويض جارك، أو رعاية المتمردين في البلدان المجاورة. هناك دائما استثناءات لمنحى التعلم هذا، وأحيانا تعود المؤسسات السياسية أو المؤسسات العسكرية إلى الأساليب القديمة. ولكن، بشكل عام، رأينا تغييرا في الحكومة في إثيوبيا وأدت بداية عهد أبي أحمد إلى نشوء موقف إيجابي تجاه السودان. ساعد أحمد في التوصل إلى حل وسط في السودان في عام 2019. مرت إثيوبيا بفترة صعبة للغاية في العامين الماضيين، والآن بعدما وجدت إثيوبيا سلامها مرة أخرى، رأينا كم ساهم ذلك بشكل واضح في تحسين العلاقات بين السودان وإثيوبيا.

أما بالنسبة إلى قضية النيل، فقد كانت هذه القضية حاضرة على طول الخط مع جار السودان الشمالي، فمصر لها مصلحة قوية في ما يتعلق بالأمن المائي. لكننا نعلم أنه يمكن التعامل معها من خلال المفاوضات والاتفاقات، ويجد السودان نفسه في موقع وسط طبيعي، وهو لذلك مهتم بشكل خاص بكل ما يساهم في إمكان التنبؤ بتدفق المياه واستقراره، لأن في ذلك مصلحة له.

لقد عملت بشكل مكثف في سوريا كباحث، وأكاديمي، ثم مع الأمم المتحدة في سوريا لمدة سنوات، والآن تعمل في السودان. هل تجد أوجها للتشابه بين البلدين؟

عملت مع المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، ستيفان دي ميستورا، لمدة 3 سنوات، وها أنذا في السودان منذ عامين، وهنالك دائما أوجه للتشابه. بالطبع هنالك صراع في الحالتين، ولكن هناك اختلافات أكثر.

كان لدينا حرب أهلية في بعض أجزاء من السودان، خاصة في دارفور وكذلك في الجنوب ومناطق النيل الأزرق. ولكن لا حرب أهلية في السودان اليوم. ونحن هنا كبعثة سياسية مهمتنا دعم عملية الانتقال، ولسنا في مهمة حفظ سلام كلاسيكية. لدينا بعض العمل الذي يجب القيام به في دعم مراقبة وقف إطلاق النار من خلال ترؤسنا لما يسمى بلجنة وقف إطلاق النار الدائم في دارفور.

لكننا عموما نشهد وضعا أفضل بكثير مما كانت عليه الحال – ولا تزال – في سوريا. هناك كان لدينا بالفعل حرب أهلية شرسة للغاية. ولدينا الآن دولة فقدت سلطتها على أجزاء كبيرة من البلاد، وعليها أن تتحمل قيام دول أخرى بالفعل بممارسة سيادة الأزمة على أراضٍ  سورية. وهذا مختلف جدا عن الوضع في السودان.

الفارق الرئيسي هو أنه ليس لدينا حرب أهلية في السودان، وما كان يوما ما حربا أهلية جرى التغلب عليه من خلال اتفاق السلام. لدينا شعور معين بالتفاؤل في أن السودان اليوم هو في مكان أفضل بكثير مما كان عليه قبل عام.

font change

مقالات ذات صلة