هل ولّى زمن "المحتوى المسيء" في كتب الأطفال؟

كيف انتهت محاولات تنقيح لغة أعمال رولد دال الأدبيّة بنتائج عكسية

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese

هل ولّى زمن "المحتوى المسيء" في كتب الأطفال؟

نشأ جدال كبير حول مدى صحّة التعامل مع نفسية الأطفال بأسلوب يتّسم بالرقة والمراعاة. وفقا للمبدأ القائل بأهمية حتى أبسط المهمات عندما يتعلق الأمر بتنقيح ثقافتنا، ظهرت وظيفة جديدة هي "مدقّقو الحساسيات". ووقع خلاف كبير حول التصحيحات التي اقترحها هذا النوع من القرّاء على أعمال رولد دال الأدبيّة. في النسخة الجديدة المنقحة، لم يعد أغسطس غلوب – إحدى الشخصيات الرئيسية في قصة "تشارلي ومصنع الشوكولاتة" – يوصف بالفتى "السمين"، واستبدلت الكلمة بـ"ضخم"، وحذفت كلمة "قبيحة" من وصف السيدة تويت في قصة "تويتس" مع إبقاء كلمة "العنيفة". كما أُضيفت جملة كاملة لقصة الساحرات "ذا ويتشز"، اللاتي وُصفن بالنساء الصلع اللواتي يرتدين شعرا مستعارا لإخفاء حقيقتهن، وذلك لتوضيح أن المرأة قد تضطر إلى ارتداء الشعر المستعار لأسباب عديدة لا تعني بالضرورة أنها شخص سيء أو شرير. في تعليقها على الموضوع، قالت الكاتبة فرانسين بروز: "يتوه القارئ مع هذا النوع من الجمل. عندما تقرأ لمجموعة من الأطفال، يمكنك ملاحظة تشتت انتباههم بعيدا دون رجعة" (ذه غارديان، 6 مارس/آذار).

لا أزال أذكر المرة الأولى التي سمعت فيها عن "مدقّقي الحساسيات". كان الحديث حينها يدور حول قصص الكبار، واقترح أحدهم تمرير هذه الكتب على هؤلاء النقاد، حتى في مرحلة التأليف، للتأكد من خلوّها من الألفاظ أو العبارات التي قد تعتبر "مسيئة" أو "مخلّة بالأدب". وبما أن أحدا لا يعرف ما إن كانت الألفاظ المحذوفة قد تلامس مشاعر أي قارئ عادي، فقد ارتأى الجميع الركون إلى الوضع الراهن.

بدأ الحديث عن "مدقّقي الحساسيات" في قصص الكبار، واقترح أحدهم تمرير هذه الكتب على هؤلاء النقاد، حتى في مرحلة التأليف، للتأكد من خلوّها من الألفاظ أو العبارات التي قد تعتبر "مسيئة" أو "مخلّة بالأدب"


انتقادات

لكن تدخلاتهم الأخيرة التي استهدفت أدب الأطفال أثارت عاصفة من الانتقادات وصلت إلى أعلى شرائح المجتمع البريطاني، بمن فيهم رئيس الوزراء ريشي سوناك الذي قال المتحدث الرسمي باسمه: "يجب الحفاظ على الأعمال الأدبية الشهيرة التي ترسّخت في وجدان الأطفال كما هي، دون محاولة تنظيفها من الشوائب". ويتفق رئيس الوزراء مع عبارة وردت على لسان شخصية العملاق الودود في إحدى قصص دال: عندما يتعلق الأمر بتراثنا الأدبي الغني والمتنوّع، لا ينبغي لنا أبدا محاولة التهام الكلمات". وكانت هذه المرة المسجلة الوحيدة التي يعرب فيها السيد سوناك عن معارضته بأسلوب لفظي شرس، وإن كانت هذه الجملة مستعارة من شخص آخر.

كان الأمر مختلفا مع رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون الذي لم يستطع كبح رغبته بالتعبير عن معارضته لمراجعة الأعمال الأدبية وأعرب عن ذلك بكل وضوح وشراسة، حتى إنه استشهد بأغنية "أومبا لومبا" حول أغسطس غلوب التي نتذكرها جميعا: "أغسطس غلوب، أغسطس غلوب، الفتى المغفل والضخم والسمين والجشع". حتى إن البعض توقع أن يحول جونسون الأمر برمّته إلى موضوع خاص به.

لم يكتف بوريس بهذا، بل تجرأ على القول إنه "يجب على الناس توخي الحذر في ما يخص حرية الكلام والتعبير عند مراجعة أعمال رولد دال".

Getty Images
المؤلف رولد دال أثناء توقيعه على أحد كتبه في مركز تسوق دون لاوجير 22/10/1988.

في الإطار ذاته، وانطلاقا من إدراكها لأهمية اتخاذ موقف الحياد المتناسب مع مكانتها الملكية، كانت عقيلة الملك كاميلا أكثر حذرا في انتقادها الذي أعربت عنه بشكل ضمني واستهدفت الانتقاد المبالغ فيه الذي يقوم به هؤلاء المدقّقون. 

وفي حديثها خلال حفل استقبال كلارنس هاوس في الذكرى السنوية لنادي الكتاب الإلكتروني، خاطبت كاميلا المؤلفين بقولها: "أرجو أن تبقوا أوفياء لرسالتكم، وعدم الاكتراث بمن قد يود تقييد حرياتكم ومنعكم من التعبير أو كبح مخيلتكم". ثم نظرت إلى الأعلى وابتسمت قائلة: "هذا يكفي" واستُقبلت هذه الكلمات بهتافات التأييد (ذه غارديان، 23 فبراير/شباط 2023).

انضم إلى ركب المعارضة المؤلف سلمان رشدي الذي قال: "رولد دال بالتأكيد لم يكن ملاكا (كان مؤلف كتب الأطفال متعصبا بارزا)، لكن هذا النوع من الرقابة المبالغ فيه لا يمكن وصفه إلا بالسخافة". من جهة أخرى، اقترح فيليب بولمان أنه حريّ بمؤسسة "دال" الانسحاب بصمت وإفساح المجال أمام مؤلفين جدد لكتب الأطفال، الأمر الذي لم يُقابل بالثناء الشديد، حاله كحال الاقتراحات المرتبطة بمراكز الانتحار الرحيم لكبار السن.

عندما تتحول الكتب إلى أصول، يصبح الناشر مديرا لهذه الأصول ويحاول حمايتها من الاستثمارات السامة المستقبلية مثل استثمار شركة "بريتيش بتروليوم" في قطاع الطاقات النظيفة

 

استجابة جزئية

من يعلم أي من هذه التدخلات – إن وجدت – كان السبب وراء الاستجابة الجزئية من الناشرين، مثل "بوفين". اليوم، تتمثل الخطة في نشر النصوص الأصلية مع النسخ المنقّحة، مع اعتبار الأولى أعمالا كلاسيكية. بالتالي، يمكننا القول إن وجهة نظر السيد بولمان لم تُطبق.

وفقا لمنصة LBC لقيادة حوار بريطانيا، فإن الدور الآن على القصص الخيالية، إذ بدأ ناشرو "ليدي بيرد" الاستعانة بمدققي الحساسيات للبحث عن المحتوى المسيء أو غير المراعي لمشاعر الآخرين: "قد تنطوي الكلاسيكيات التي تحكي عن الأمير الوسيم الذي يقع في حب الأميرة الجميلة مثل سنو وايت وسندريلا على إشكاليات نحن في غنى عنها، فهي تروّج لجاذبية السمات الجسدية والرومانسية غير المتجانسة". ويواصل التقرير: "الشخصيات التي تفترض ضمائر مخاطبة الأشخاص وتناقش الطبقة الاجتماعية هي أيضا تنطوي على إشكاليات كونها تفتقر للتنوع بين الشخصيات الرئيسية".

هذا كله يدفعني إلى التفكير بأن الوقت قد حان للتخلص من الاسم،"ليدي بيرد". أعرف أنه يعني "الدعسوقة" بالعربية، وهي حشرة يجدها الناس جميلة وغير مؤذية، ولكن هل فكّر أي شخص بالنظر إلى هذا الأمر من وجهة نظر حشرة المنّ؟ بالنسبة إلى الاسم "ليدي بيرد"، هل فعلا لم يستغل الرجل أو المرأة أو أي شخص غير ثنائي الجنس فطنته لتغيير الاسم وإيجاد عنوان أقل إثارة للمشاكل يعبر عن هذه المجموعة المحبوبة من كتب الأطفال الأعلى مبيعا؟ استعمال الاسم العلمي لا يضرّ، وليس هناك أي حالة من عدم التجانس في استخدام الاسم "كتب الدعسوقيات".

Getty Images
طفل يقرأ كتابا لرولد دال في مدرسة روث بارك الابتدائية في 23 فبراير 2021 في كارديف، ويلز.

تنقيح ورقابة

ولكن، ربما فاتني شيء هنا. وفقا لزوي دوبنو وفي آخر مقال لـ" ذه الغارديان" عن هذا الموضوع المثير للقلق (9 مارس/آذار)، فإن السبب الحقيقي وراء توظيف الرقابة هو تنقيح الكتب التي أصبحت بمثابة ثروات أدبية وفكرية في قطاع النشر وصناعة الأفلام. وتقول دوينو إن حدوث هذا الأمر قبل الصفقة الضخمة لبيع أعمال دال لشبكة "نتفليكس" ليس من قبيل المصادفة: "عندما تتحول الكتب إلى أصول، يصبح الناشر مديرا لهذه الأصول ويحاول حمايتها من الاستثمارات السامة المستقبلية مثل استثمار شركة "بريتيش بتروليوم" في قطاع الطاقات النظيفة".

ختاما، دعونا نستثني مدققي الحساسيات المتواضعين الذين يكدحون لمواجهة هذا التنقيح والتعقيم الانتقائي. توظف شركة "إنكلوسيف مايندز"، المسؤولة عن خدمات التحرير لدار "رولد دال"، شبكة من الخبراء وأصحاب التجربة ممن هم في الثلاثينات من أعمارهم ويعملون لحسابهم الخاص. من بين الذين تحدثت إليهم دوبنو كان قارئا من العرق المختلط يكسب 0,009 سنت للكلمة الواحدة. وتقول دوبنو: "من المستحيل العيش بالاعتماد على هذا المقابل المادي، وهذا يعني أنهم يراهنون على اختلافهم لدخول عالم النشر المحفوف بالأخطار".

يا مدققي الحساسيات في العالم اتحدوا، فليس لديكم ما تخسروه سوى ضمائر كم النحويّة.

font change

مقالات ذات صلة