كركوك...الماضي السياسي يُدير الحاضر ويُنذر بمستقبل مضطرب

يوسف كركوكي
يوسف كركوكي
بسبب وجود آبار النفط حتى داخل المدينة، تُعتبر كركوك من أكثر مدن العراق تلوثاً

كركوك...الماضي السياسي يُدير الحاضر ويُنذر بمستقبل مضطرب

يتجول المرء في مختلف أحياء مدينة كركوك العراقية، المتصارع عليها سياسياً وأمنياً واقتصادياً بين إقليم كردستان والحكومة المركزية، فلا يلاحظ أي اختلاف بين سكان أحياء المدينة المتنوعة عرقيا. من أقصى شمال غرب المدينة، في أحياء رحيماوى والشورجى وبارود خانة وإمام قاسم ذات الأغلبية السكانية الكردية المطلقة، مرورا بوسطها التاريخي في أحياء أحمد آغا وحسيركى، التركمانية الكردية المختلطة وحتى الجنوب والجنوب الشرقي في مناطق القادسية والعروبة الشهداء والمندودة والأول من حزيران، العربية تماماً، تتطابق مختلف المناطق بصرياً وسكانياً وثقافياً واقتصادياً وخدمياً فيما بينها.

إذ تبدو جميعها جزءا من مدينة مُتعبة وعشوائية ومهملة، قليلة التنمية وفرص العمل، تعاني تلوثاً بيئياً شديداً، أصاب الجفاف نهرها (خاصاسو) الذي بُنيت المدينة القديمة على ضفتيه، وصارت قلعتها التاريخية مترهلة ودون أية عناية وإعادة تشييد. وخلا بعض مظاهر الزي الشعبي ولكنات اللهجات الشعبية، تبدو مدينة كركوك بسكانها وشكل الحياة داخلها مكاناً هادئاً ومتداخلاً وحيوياً، ليس من حواجز ثقافية أو أمنية أو طبقية ضمنها قط.

لكنه مشهد بصري ظاهر فحسب. وخلفه، ثمة استقطاب وخلاف سياسي واقتصادي وأمني مرير تشهده المدينة، ممتد منذ تأسيس الدولة العراقية قبل قرابة قرنٍ وحتى الآن، أساسه الصراع على الهوية القومية للمدينة والمحافظة، وتالياً شكل حكمها وتابعيتها ومستقبلها السياسي.

عمر عبد القادر
سوق في كركوك

مدينة كركوك، وكامل المحافظة، تبدوان راهناً بؤرة لأشكال كثيرة من الصراع بين القوى السياسية الممثلة لسكانها المحليين، تمتد من الاختلاف بشأن ملكية الأراضي الزراعية بين سكان الأرياف، التي يشكوا الأكراد والتركمان من بينهم، من استمرار سياسات التعريب الممنهج، ويمتد إلى الملف الأمني الشائك، حيث يقول الأكراد والتركمان إنهم محرومون من المشاركة في الإدارة الأمنية، ويصل إلى الحيز السياسي، حيث ثمة خلاف شديد بشأن سجل الناخبين، الذي تقول القوى السياسية العربية بأنه لا يضم عشرات الآلاف منهم، على الرغم من كونهم "السكان الأصليون" الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات المحلية المرتقبة خلال هذا العام.

تلك القضايا التي يتداخل فيها الصراع القومي المحلي مع اشكال نفوذ القوى السياسية العراقية الأخرى ومعها الأجندات الإقليمية، وإلى حد ما الصراعات الدولية المتعلقة بشؤون الطاقة وإدارة التوازنات ضمن العراق.

استقطاب وخلاف سياسي واقتصادي وأمني مرير تشهده المدينة، ممتد منذ تأسيس الدولة العراقية قبل قرابة قرنٍ وحتى الآن، أساسه الصراع على الهوية القومية للمدينة والمحافظة، وتالياً شكل حكمها وتابعيتها ومستقبلها السياسي


 قبل أيام من الوصول إلى المدينة، كان فلاحون أكراد وتركمان من قرية "طوبزاوى" الملاصقة لجنوب المدينة، قد قطعوا الطريق الرئيسي وسط المدينة، محتجين على قرارات بلدية المدينة بناء منطقة عسكرية داخل أراضيهم الزراعية، ومتهمين القائمين على المشروع بتنفيذ أجندة سياسية تتقصد التغيير الديموغرافي، واعتماد سياسات تمتد إلى زمن النظام العراقي السابق.

قبل تلك الحادثة بأسبوع واحد فحسب، كادت المواجهة المباشرة في ناحية سركران، شمال غرب المدينة، بين فلاحين أكراد وآخرين عرب أن تصل حد صِدام دموي. حيث يتهم الفلاحون الأكراد في تلك المنطقة قطاعات الجيش العراقي بتنفيذ القرارات والصكوك التي أصدرها النظام السابق لصالح "المستقدمين" العرب.

سكان المدينة وقواهم السياسية منقسمون تماماً بشأن هذا الموضوع إلى حيزين متقابلين: فالأكراد والتركمان يتهمون المؤسسات الرسمية والقضائية بعدم الشفافية والحماسة في تنفيذ المواد الدستورية المتعلقة بإزالة آثار سياسات التعريب التي اتبعها النظام العراقي السابق في سبعينات وثمانينات القرن المنصرم، عندما استقدم عشرات آلاف الفلاحين من مناطق الجنوب والوسط ومنحهم ملكيات في محافظة كركوك.

مقابل ذلك، فإن الفلاحين العرب، الذين حصلوا على صكوك ملكية وقتئذ، يقولون إن هذه الأراضي مملوكة لهم حسب قرارات قضائية مبرمة، صادرة عن الدولة العراقية في الفترة الأخيرة. لكن نظراءهم التركمان والأكراد يردون بأن هذه الهيئات القضائية غير حيادية، ولا تعتد بالقوانين والتشريعات التي صدرت بعد العام 2003، بل تعتبر الصكوك والوثائق التي بحوزة الفلاحين العرب مرجعية وحيدة للأحكام، وتالياً الاستمرار بنفس السياسات السابقة.

قضية الأراضي الزراعية هي جزء من كل ما  يتعلق بالملكية في المدينة ومحيطها: العقارات السكنية وآلية منح تراخيص البناء والعشوائيات التي شُيّدت بعد العام 2003 والقادمون الجدد من المحافظات الأخرى بسبب الأحداث الأمنية في مناطقهم وسجل الناخبين وأمور كثيرة أخرى.

ففي مقاهي المدينة القديمة، في القوريا وأحمد آغا والمجيدية، وبينما يتسامر السكان من مختلف المكونات بُعيد صلاة التراويح، وفي ظل هذا التنازع المتجدد بشأن الملكيات الزراعية، فأنهم يتداولون التحذيرات التي تتبادلها مختلف القوى السياسية في المدينة بشأن الانتخابات المحلية القادمة (انتخابات مجالس المحافظات)، وإمكانية أن تشهد كركوك موجة تصعيد جديدة.

يوسف كركوكي
نهر "خاصاسو" وسط كركوك، جف بسبب السياسيات الزراعية والتغيرات المناخية

فممثلو المكون العربي من محافظة كركوك في البرلمان المركزي، قاطعوا جلسة المجلس المخصصة للتصويت على القانون الخاص بهذه الانتخابات، معترضين على اعتماد القانون على سجل الناخبين المُقر بعد العام 2003، الذي يعتبرونه خالياً من قرابة 300 ألف شخص يعيشون في المحافظة، ومطالبين إدراج المادة 35 من قانون الانتخابات العام في نصوصه الجديدة، الذي يعطي محافظة كركوك خصوصية استثنائية ويعتمد على وثائق تتعلق بالبطاقة التموينية وسجل وزارة التجارة كمرجعية لسجل الناخبين. وهو أمر توافق عليه القوى التركمانية نسبيا، لكن الأحزاب الكردية تعتبره "الخط الأحمر"، لأنه يعني فعلياً شرعنة عمليات الاستقدام والإسكان والتعريب التي اتبعها النظام السابق، وتالياً تثبيت التغيير الديموغرافي، وهو ما نص الدستور العراقي على إلغائه.

الأكراد والتركمان يتهمون المؤسسات الرسمية والقضائية بعدم الشفافية والحماسة في تنفيذ المواد الدستورية المتعلقة بإزالة آثار سياسات التعريب التي اتبعها النظام العراقي السابق


كانت محافظة كركوك قد شهدت آخر انتخابات محلية في العام 2005. وحصلت فيها القوى الكردية على أكثر من نصف مقاعد مجلس المحافظة الـ41، فيما قاطعتها أغلب القوى السياسية العربية، لنفس السبب الحالي. وقد بقي هذا الأمر حاجزاً أمام إمكان إجراء انتخابات محلية في المحافظة طوال السنوات الماضية، ويهدد راهناً بحصول مأزق سياسي وأمني وأهلي.

فمجلس المحافظة مخول بانتخاب المحافظ وباقي أعضاء أعلى الهرم الإداري في المحافظة، ويشرف على مختلف المؤسسات الخدمية والاقتصادية فيها، بالذات في ما يخص دوائر الملكية والجهاز التعليمي والوحدات الزراعية وإدارة العقارات العامة، والملف الأمني إلى حد ما.

فالأكراد الذين يقولون إن الانتخابات أثبتت أن حجمهم الديموغرافي يقارب نصف مجموع سكان المحافظة، بالرغم من كل عمليات التهجير والاستقدام السابقة، إلا أن نسبتهم في الهيكل الإداري والوظيفي والقضائي في المحافظة دون ذلك بكثير، فالموظفون العموميون الذين كرسهم النظام السابق في الجهاز الحكومي، ما يزالون يسيطرون على إدارة الحياة العامة. خصوصاً بعد العام 2017، حيث قرر رئيس الوزراء وقتئذ حيدر العبادي استبعاد المحافظ "الكردي" المنتخب الدكتور نجم الدين كريم، لمشاركته في عملية الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان، وتعيين نائبه بالوكالة "العربي" راكان الجبوري في المنصب، المتهم من قِبل الأكراد بعدم الحياد والاخلال بالتوازن في إدارة المحافظة.

محافظة كركوك مُعتبرة حسب الدستور العراقي جزءا من "المناطق المتنازع عليها"، والمحالة إلى المادة 140 من الدستور، التي من المفترض أن تلغي آثار سياسات التعريب وتجري إحصاء سكانياً في المحافظة، وتنتهي بإجراء استفتاء يحدد تابعيتها، أما للسلطة المركزية أو إقليم كردستان.

القوى الكردية ما تزال متمسكة بهذه المادة، وتعتبرها جوهر استقرار الأوضاع داخل المحافظة وفي العلاقة بين الإقليم وسلطة المركز، بينما تقول نظيرتها العربية والتركمانية إن "الزمن تجاوزها"، ومن الأفضل التعامل مع الوقائع وتقاسم السلطات وإدارة الملفات والمؤسسات ضمن المحافظة حسب نظام المثالثة، الذي يعطي لكل من المكونات العربية والكردية والتركمانيةنسبة 33 بالمائة من أعضاء الهيكل الإداري، ويبقى واحد بالمائة لأبناء الأقلية المسيحية من سكان المحافظة.

وعند مناقشة تلك التفاصيل مع النخب الثقافية والأكاديمية والكثير من أعيان المدينة، ومن مختلف المكونات، فأنهم يؤكدون على الطبيعة الإيجابية والتعاونية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بين سكان المدينة، وعلى أن الصراع والاستقطاب القومي بشأن المادة 140 من الدستور يمكن التخفيف منه كثيراً عبر تحديد واضح ومبروم لتابعية وطريقة إدارة الثروة النفطية في المحافظة، والشكل الإداري اللامركزي الذي يجب أن تُدار به المحافظة، حسب خصوصيتها، وأخيراً عبر إخراج المحافظة من المعادلة الصفرية، أمام تابعة للمركز وإدارتها مركزياً، أو تابعة لإقليم كردستان.

إذ كلما تصاعدت الخلافات السياسية/القومية بين مكونات المحافظة، شهدت قلاقل أمنية، كان آخرها تفجيراً استهدف ضابطاً عسكرياً وقيادياً في الجبهة التركمانية، حيث اتهمت هذه الأخيرة حزب العمال الكردستاني بالوقوف خلف العملية، انتقاماً من تركيا، التي تدعم الجبهة التركمانية وتخوض حرباً ضد العمال الكردستاني في كامل شمال العراق.

في نفس هذا الوقت، كانت الجبهة التركمانية، التي تُعتبر "أقوى" التيارات السياسية التركمانية في العراق وأكثرها شعبية، والمدعومة من تركيا، كانت ترفع مخاوفها من التوافقات السياسية التي يمكن أن تتوصل إليها القوى السياسية الكردية مع نظيرتها الحكومية/العربية، بغية إعادة قوات البيشمركة الكردية إلى المدينة/المحافظة.

فمحافظة كركوك راهناً، تخضع أمنياً وعسكرياً لسيطرة "غرفة العمليات المشتركة في محافظة كركوك"، التابعة بشكل رسمي ومباشر لمكتب رئيس الوزراء العراقي، القائد العام للجيش والقوات المسلحة، لكنها فعلياً هيئة تضم العديد من المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، من الجيش وجهاز الاستخبارات وقوات الرد السريع والشرطة الاتحادية والحشد الشعبي وقوات البيشمركة وقوات الاسايش وقوات مكافحة الإرهاب "الكردية".

هذه التركيبة الأمنية/العسكرية التي يعتبرها التركمان توليفة "عربية/كردية"، خالية من أية جهة تركمانية. لكن السكان المحليين من عرب المدينة "السُنة"، لا يعتبرون فصائل الحشد الشعبي المنتشرة في الأحياء العربية والتركمانية ممثلة لهم، على الرغم من تفضيلهم لهذه الفصائل على وجود قوات البيشمركة الكردية، التي استبعدت من المدينة والمحافظة منذ العام 2017.

عرب المحافظة يشكون من حرمانهم من خيرات المحافظة، ويعتبرون أنفسه "الأكثر فقراً"، مقارنة بنظرائهم الأكراد والتركمان

 الأحزاب السياسية الكردية تطالب أن تكون الإدارة الأمنية والعسكرية في المحافظة مشتركة في عموم مناطق المحافظة، تبعاً لما نص عليه الدستور من تحديد لطبيعة المحافظة كمنطقة متنازع عليها، وتالياً إيجاد آلية لتقاسم الإدارة الأمنية والعسكرية بين قوات الجيش وقوات البيشمركة الكردية. فهذه الآلية، حسب الأطراف الكردية، وحدها القادرة على خلق شراكة ومتانة في ملف مواجهة الإرهاب. حيث ما تزال محافظة كركوك، خصوصاً في المناطق الجنوبية منها في مرتفعات جبال حمرين، تشهد حضوراً كثيفاً لتنظيم داعش الإرهابي.

سوق الثياب المستعملة في كركوك والتي ازدهرت بسبب الاوضاع الاقتصادية الصعبة

مقابل الملف الأمني والإداري، فأن عرب المحافظة يشكون من حرمانهم من خيرات المحافظة، ويعتبرون أنفسه "الأكثر فقراً"، مقارنة بنظرائهم الأكراد والتركمان. فحسبهم، يسيطر الأكراد على مؤسسات اقتصادية حيوية، مثل شركات الاتصالات، وعلى جزء واسعة من التجارة القادمة من المنافذ الحدودية مع إيران وتركيا، المُسيطر عليها من قِبل إقليم كردستان. فيما يشغل التركمان الوسط التجاري في المدينة، ويملكون شبكة واسعة ومتينة من العلاقات مع كبار التجار والشركات الإقليمية، بالذات الموردة للمواد التموينية والأقمشة والكهربائيات إلى المدينة.

لكن سكان المدينة جميعا يشكون من التهميش الاقتصادي الذي يصيب المحافظة جراء التصعيد السياسي والأمني الذي شهدته طوال العقد الماضي، وما تزال. إذ ليس من أية خطط استراتيجية لإعادة هيكلة المدن الرئيسية فيها، مثلما يحدث في إقليم كردستان، ولا تحصل المجالس المحلية فيها على أموال "البترودولار"، التي أقرها الدستور العراقي لصالح المحافظات المنتجة، مثل البصرة وكركوك. فيما تطال اتهامات عديدة مختلف القوى السياسية بتقاسم خيرات المحافظة فيما بينها، متجاوزين كل الانقسامات والصراعات الظاهرة فيما بينهم. وليس انتهاء بانتقادات واسعة تطال فصائل الحشد الشعبي، التي يقول سكان المدينة إن قادته يتحكمون بكل العقود والمخصصات الحكومية، لصالح جهات تابعة لهم، وإن من أبناء المدينة.

فالمحافظة العراقية التي كانت تاريخياً مركزاً تجارياً وزراعياً رائداً، بسبب خصوبة أراضيها وتنوع تضاريسها، صارت منذ أوائل الخمسينات تعد بأن تكون مركزاً للاقتصاد العراقي، بسبب الاكتشافات النفطية الهائلة في أراضيها. لكنها راهناً مكان لانتشار الفقر والبطالة وهجرة النُخب التعليمية والمهنية، حسب المؤشرات والمقاييس الوطنية المتعلقة بذلك.

 

 

font change