ما العمل بالحنين العراقي الى زمن صدام

بعد عشرين عاما على سقوط نظامه

Getty Images
Getty Images
عازفان عراقيان على الكمان في بغداد بعد حرب الخليج 1990-1991

ما العمل بالحنين العراقي الى زمن صدام

يسترجع العراقيون راهناً التحولات التي طرأت على حياتهم طوال السنوات العشرين الماضية، منذ اسقاط النظام العراقي السابق، وتأسيس "العراق الجديد". هذا الاسترجاع يأخذ في الكثير من أوجهه سمة "الحنين" إلى ذلك الزمن، بأحداثه ورموزه وشخصياته وقيمه وشكل الحياة وقتئذ، على الرغم من مختلف أنماط القسوة والحرمان التي عاشها العراقيون خلال تلك المرحلة.

هذا "الحنين العراقي" لا يشبه تلك النزعات الطائفية والقومية التي غطت مراحل ومناطق عراقية بذاتها، بقيت تملك ولاء للنظام السابق، وارتباطا به، بناء على هويته الطائفية والمناطقية والقومية. بل يكاد هذا النوع من الحنين أن يكون جامعاً، لا بمعنى أن جميع العراقيين يمتلكونه، بل أن عراقيين متأتين من مختلف المناطق والطوائف والقوميات والهويات السياسية يملكون وشائج روحية وروابط وجدانية مع ذلك الماضي.

هؤلاء العراقيون ليسوا مجرد أفراد، بل هم طبقات واسعة من المجتمع والشعب العراقيين، وممن يعتقدون أن رتابة حياتهم واستقرار عيشهم وشكل ثقافتهم الاجتماعية قد اهتزت كلها منذ ذلك الوقت. هذه المجموعة تضم مثلاً ملايين العراقيين المهجرين من مناطقهم، داخل البلاد وخارجها، مضافا إليهم ملايين من ذوي الضحايا، الذين فقدوا أفراداً من أسرهم، بقي الكثير منهم دون أي معيل بسبب ما جرى خلال هذه التحولات، وإلى جانبهم الذين كانوا ذوي مهن وظيفية مستقرة، ممن كانوا يملكون مواقع اجتماعية مركزية واقتصادية متقدمة بسبب مهنهم ووظائفهم تلك، ومعهم طبقة واسعة من العسكريين العراقيين، كانوا يشكلون مع عائلاتهم في الزمن السابق "سادة القوم".

اقرأ أيضا: العراق ليس وحيداً

إلى جانب هؤلاء، ثمة أناس كثيرون من ذوي الثقافة الاجتماعية "التقليدية"، لا يستطيعون استمراء أنماط من العلاقات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الجديدة، من أبناء الأرياف والأجيال الأكبر عمرا. فسقوط النظام العراقي السابق في المحصلة، كان نقطة انطلاق العراق للانخراط والانفتاح على كل العالم، بعدما كان بلداً مغلقاً لأكثر من عقدين ونصف العقد على الأقل.

مع كل هؤلاء، ثمة أعضاء الطبقة العليا من جهاز الحكم والإدارة والاقتصاد في هيكل النظام السابق، الذين خسروا كل سطوتهم وامتيازاتهم الاجتماعية والسلطوية والمالية السابقة.

يشبه العراقيون الكثير من المجتمعات والشعوب التي مرت بتجارب مشابهة، فالحنين إلى نظام حكم سابق، مهما كان قاسياً ودموياً، هو في المحصلة تعبير عن رفض الكثير من أوجه الحاضر، أكثر من كونه رغبة بائسة في استرجاع أية قسوة أو دموية كانت

في شوارع العاصمة بغداد ومدن البصرة والموصل وأربيل، لا ينكر العراقيون الذين تلتقيهم، الطبيعة الاستبدادية للنظام السابق، ولا ينفون الكثير من المآسي وأشكال القسوة التي طالتهم بسبب تصرفات ذلك النظام.

Getty Images
محل لبيع الالات الموسيقية في بغداد

لكنهم، مع ذلك كله، يعودون إلى تذكر الكثير من الأشياء واشكال الحنين إلى ما كان يوماً ما: الوفرة الاقتصادية في السبعينات مثلاً، والنظام التعليمي الموحد في مختلف أنحاء البلاد، الأمن والاستقرار يسودان كل حدب، الاجتماع العائلي يومياً حول شاشة التلفزيون التي كانت بقناتين فحسب، الأغاني العراقية الشعبية العذبة التي كان يرددها ملايين العراقيين في وقت واحد، نظام الجامعات والمساواة التي كان يحققها في التوظيف والعمل، مشاركات المنتخبات الرياضية الوطنية في البطولات الدولية والإقليمية، من مثل المشاركة في كأس العالم لكرة القدم في المكسيك عام 1986، أو المباريات المصيرية ضد نظيريه السوري والإيراني في ثمانينات القرن المنصرم، البيئة التي كانت أكثر خصوبة ووفرة بالمياه، قدرة أي عراقي على السفر إلى مناطق العراق دون أية حسابات أمنية أو حساسيات طائفية، الأفلام والمسرحيات والشعراء الشعبيون الذين كانت منابر الإعلام القليلة تبث نتاجاتهم، صورة العراق وسلوكه كدولة قوية، ما كان لأحد من دول الجوار أن يتجاوز على حدوده أو حقوقه.

في هذا السياق، يشبه العراقيون الكثير من المجتمعات والشعوب التي مرت بتجارب مشابهة، فالحنين إلى نظام حكم سابق، مهما كان قاسياً ودموياً، هو في المحصلة تعبير عن رفض الكثير من أوجه الحاضر، أكثر من كونه رغبة بائسة في استرجاع أية قسوة أو دموية كانت.

طوال السنوات الماضية مثلاً، أُنتجت دراسات وأبحاث عن حنين سكان دولة الكونغو الديموقراطية (زائير سابقاً) إلى زمن الديكتاتور موبوتو سيسي سيكو، الذي حكم تلك الدولة بالحديد والنار طوال سنوات 1965-1997. فالكونغوليون دخلوا مرحلة الصراع السياسي/العائلي المرير بعد إسقاط موبوتو وحكم لوران كابيلا، التي توجت بانقسام داخلي صارت الزعامات المحلية فيه أقوى من الدولة التي فقدت كل أدوات سيطرتها، ومعها اندلعت أحداث مجازر راوندا، التي اسقطت ملايين الضحايا، وانعكست على داخل الكونغو بسبب التطابق القبلي، ففقد الملايين من السكان وظائفهم واستقرار عيشهم، بينما صار الاستيراد المفتوح أكبر كارثة قضت على الاقتصاد المحلي.

الطائفية مثلاً، كانت حاضرة في أعلى هيكل الحكم في الزمن البعثي، وتُستخدم بأشكال وأدوات مختلفة، لكنها لم تكن مكشوفة وحاضرة وعنيفة كالشكل الذي ظهرت عليه في ما بعد

تقول تلك الأبحاث، إن زمن الرئيس موبوتو في الكونغو، على الرغم من كل دمويته، صار في الذاكرة الجمعية للسكان، يمثل تعبيراً عن "الهوية الوطنية"، بعد عقدين ونصف العقد من التشظي وتفكك كل ركائز الاستقرار، تماما كما يحدث في العراق راهنا.

 أمر شبيه بذلك كان حدث في الصين، بعد نهاية حقبة ما سُمي بـ"الثورة الثقافية" خلال الأعوام 1966-1976. فعقب تلك المرحلة، والتي وإن كانت الأقسى على الأطلاق في شكل سلوك النظام الحاكم مع المجتمعات المحلية، انفتحت الصين اقتصادياً تجاه العالم، وانتهجت نظاماً رأسمالياً، مما خلق طبقات اجتماعية متفاوتة بحدة، وألغى الوفرة الغذائية وبساطة العيش أثناء تلك المرحلة، الأمر الذي استجلب حنينا تجاهها، على الرغم من قسوتها. ذلك الحنين كان تعبيراً عن رفض الوقائع الجديدة التي أفرزتها مرحلة الانفتاح الاقتصادي والتغيرات التي أصابت السلم الاجتماعي في الصين في ما بعد.

Getty Images
عرض فولكور وغناء على المسرح المزين بصورة ضخمة لصدام حسين بمناسبة الذكرى 25 لثورة 17 يوليو

الأمور في العراق هي كذلك تماماً، فالحنين إلى زمن نظام حكم حزب البعث، هو في حقيقة الأمر رفض لما حدث بعد سقوطه، ولما تكرس على شكل وقائع جديدة، مخلة بالمعايير المعتبرة لاستقرار الحياة التي كانت بحسب وجهة نظر حاملي هذا الحنين.

فالطائفية مثلاً، كانت حاضرة في أعلى هيكل الحكم في الزمن البعثي، وتُستخدم بأشكال وأدوات مختلفة، لكنها لم تكن مكشوفة وحاضرة وعنيفة كالشكل الذي ظهرت عليه في ما بعد. هذه الطائفية أودت بحياة مئات الآلاف من العراقيين على الأقل، وحطمت الكثير من العلاقات الاجتماعية والعائلية وأنماط الجوار التي كانت، واقتلعت بلدات ومناطق سكانية بكاملها، وهذا أمر ما كان يمكن تخيله في ظل النظام السابق بأي شكل.

على المنوال نفسه، كان العراق، حتى أواخر العهد السابق، بلداً ريفياً تماماً، يشكل القرويون أكثر من 70 في المئة من سكان البلاد، ويستقرون في بيئاتهم المحلية، ويلتفون حول طابع من الحياة الاجتماعية والقيمية التقليدية الرتيبة، المبنية على تراتبية واضحة في سلم اجتماعي، قائم على مركزية العائلة والجيرة والقيم العليا للجماعة، مثل الكرم والمحافظة والتقدير المتبادل. ذلك الريف العراقي انهار تماماً خلال السنوات التالية، وأصبح أكثر من 60 في المئة منه غير قابل للعيش، بحسب المؤشرات المحلية.

ملايين الريفيين هؤلاء هاجروا إلى المدن، بعدما صار الاقتصاد العراقي مبنياً تماماً على الريع النفطي، الذي استخدمته مختلف الحكومات العراقية كأداة لشراء الذمم وزيادة أعداد الموالين لها. في وقت تضخمت فيه العشوائيات ودخلت أنواع وأنماط جديدة من أشكال الحياة، مغايرة قيمياً وثقافياً واجتماعياً لما كانت عليه رتابة العيش ووضوحها وقتئذ. هذا بالاضافة إلى التبدلات الرهيبة في موازين القوة الاجتماعية والاقتصادية، ومكانة الأفراد في هذا الفضاء. فالمنطقة المركزية العليا في السلم الاجتماعي، التي كانت في السابق للزعماء المحليين وكبار الموظفين وأعضاء الجهاز الإداري للدولة، صارت بكاملها للسياسيين الجدد وقادة الفصائل ورجال الدين والكثير من السماسرة. وهو أمر ترفض الكثير من الطبقات الاجتماعية الاعتراف به كواقع جديد.

على أن الحنين إلى زمن صدام حسين وحكم حزب البعث بالنسبة إلى الكثير من الأفراد هو أيضاً نوع من "الذكورة الوطنية"، خصوصاً للرجال، وإلى حد ما النساء التقليديات.

فالعراق في زمن صدام حسين وحزب البعث في الذاكرة الجمعية لهؤلاء، كان كياناً ودولة عسكرية "جبارة" تهابه دول الجوار إلى حدٍ كبير، ولا تتجاسر أمام إمكان التدخل في شؤونه، ولا تستطيع أن تستقطع أيا من حقوقه الطبيعية، في المياه، وطبعاً لا تخترق سيادته على أراضيه، كما يحدث راهناً.

Getty Images
لقاء حول جهاز التلفزيون في مقهى بغدادي

يحمل هؤلاء هذا الانطباع، بينما يتابعون كل أشكال اهتراء الدولة العراقية حاضراً، بقوتها العسكرية التي كانت تظهر أثناء الاستعراضات العسكرية، أو الحروب التي خاضتها. يشاهدون هيمنة الميليشيات والفصائل المسلحة على الحياة العامة وتجاوزها كل مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية ومواثيقها وأجهزتها، متذكرين كيف أن دولاً مثل إيران وتركيا تتجاوز السيادة العراقية من كل حدب، وتهضم حقوقه الطبيعية.

الأقوياء الجدد في البلاد يحكمون بالفساد والرشى، ويسيطرون على ما يمكن اعتباره النعمة الوحيدة التي حصلوا عليها منذ سقوط النظام السابق، أي الانتخابات الحرة

يُماهي هؤلاء بين أنفسهم والواقع العسكري الانضباطي الذي كان النظام العراقي عليه من قبل. فتراجع هيبة وموقع الدولة والجيش والنظام الحاكم في البلاد، هو بالنسبة إليهم تراجع لموقع الذكورة وسطوة العنف التي كانت تحكم الحياة العامة، ويعتقد الكثيرون منهم أنه الوحيد القادر على خلق الاستقرار وتطبيق القانون.

قد يختلف المرء قيمياً مع الكثير من تلك النزعات، لكنه لا يستطيع نكران أن العراق الراهن غارق تماماً في الفوضى. لأجل ذلك، لا يستطيع أن يلوم ملايين الفقراء العراقيين وهم يتابعون قضايا النهب العام التي تبلغ مليارات الدولارات، والفساد المستشري في كل مناحي الحياة العامة، ومعها قطاعات كاملة محتكرة لذلك الفصيل المسلح أو تلك الجهة السياسية، مع غياب تام لأية محاسبة أو محاكمة، فالأقوياء الجدد في البلاد يحكمون بالفساد والرشى، ويسيطرون على ما يمكن اعتباره النعمة الوحيدة التي حصلوا عليها منذ سقوط النظام السابق، أي الانتخابات الحرة.

 

font change

مقالات ذات صلة