المشهد إذاً، يتألف من مراكز قوى تبحث عن أدوار لها في قلب السياسة الاميركية. وصعود "المحافظين الجدد" ورؤيتهم الايديولوجية الى العالم والى دور أميركا فيه كمؤتمنة على قيم الحرية والديموقراطية. أجواء الانتقام من صفعة 11 سبتمبر/أيلول والسعي الى استعادة المكانة التي هزها الهجوم الارهابي لإفهام العالم أن أميركا لا تزال قادرة على فرض نفوذها مهما كان الثمن.
جندي عراقي يستمع الى كلمة صدام حسين يوم 20 مارس 2003
مقولات خصوم اميركا عن السيطرة على النفط العراقي وتأبيد الهيمنة الغربية على الشرق الاوسط، تفتقر هي ايضا الى التماسك.
في هذا المعنى وعلى هذه الخلفية، جاء احتلال العراق ليختتم حقبة ويؤسس لواحدة جديدة مستمرة حتى اليوم. و"الثمن" الذي لم تهتم الولايات المتحدة بجعل المنطقة العربية أولا والعالم أجمع يدفعه، لا يني يُسفر عن وجوه غير مألوفة.
لا مفر هنا من استدراك. فـ"جمهورية الخوف" التي أقامها صدام حسين لا يمكن الدفاع عنها ولا نسبة أية فضيلة اليها. كانت آلة للرعب السلطوي والطغيان المنظم لمصلحة فئة قليلة ذات انحيازات جهوية وطائفية فجة مغلفة بشعارات العروبة والوحدة والاشتراكية. بيد أن المعضلة تمثلت في استعصاء اسقاطها من الداخل سواء بالمعارضة السياسية التي استمرت حتى اواخر السبعينات الى حين القضاء على الحزب الشيوعي العراقي ومن بعده "حزب الدعوة" اوائل الثمانينات، او من خلال الانتفاضات الكردية التي كانت تشتعل ثم تخبو وفقا لعوامل محلية واقليمية متشابكة، من مثل المقايضة التي انجزها حكم البعث مع شاه ايران محمد رضا بهلوي في اتفاقية الجزائر في 1975 والتي افضت الى القضاء على الحركة الكردية المسلحة التي خنقها الشاه مقابل تنازلات اقليمية من العراق.
بينت "الانتفاضة الشعبانية" (نسبة الى شهر شعبان الذي شهد اندلاعها) لشيعة الجنوب بعد هزيمة القوات العراقية في الكويت في فبراير/شباط 1991، والانتفاضة الكردية في الشمال والمآلات التي وصلتا اليها من مجازر في مدن الجنوب الشيعية وتهجير واسع النطاق في الشمال ومطاردات لم تتوقف الا مع إنشاء منطقتي الحظر الجوي، أن النظام العراقي وإن اصيب بضربة قاسية بعد احتلاله الكويت، لا يزال أقوى من معارضيه مجتمعين ومنفصلين، عسكريا على الاقل.
الاستعصاء هذا والذي ادت فيه خلافات المعارضة العراقية وتنابذ اطرافها دورا رئيسا، حسّن في نظر المعارضين فكرة اقتلاع النظام البعثي بالاستعانة بقوة خارجية. وعند إبلاغ الاميركيين أطراف المعارضة العراقية ان الولايات المتحدة قررت اطاحة حكم صدام حسين، تقدم همّ التخلص من نظامٍ ارتكب ما لا يحصى من مجازر في حق مواطنيه، على ضرورة التأمل في ما يمكن أن يفضي اليه جلب قوة عظمى مثل اميركا الى العراق. كان ذلك بمثابة "إدخال الثور الهائج الى متجر الخزف" حيث أطاحت قرونه القاسية معادلات حساسة وتوازنات دقيقة اقتضى التوصل اليها انهارا من الدماء وكانت المنطقة تتعايش معها، على مضض وبقدر كبير من الألم، من دون عناية حقيقية بما سيجري في اليوم التالي، ولا بتخطيط جدي لعواقب اجتياح بلد في قلب الشرق الاوسط تُختزل فيه تواريخ صراعات ومرارات لا توصف.
أسس الغزو الأميركي لسلسلة طويلة من التغيرات، كما سلف، لم تقتصر على الشرق الاوسط. لعل من أهمها أن تُطرح على بساط البحث مسألة سيادة الدولة والحق في إسقاط أنظمة الحكم بواسطة قوة عسكرية اجنبية، على نحو لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية.
جنود من وحدات المارينز الاميركية يتقدمون في منطقة نصب الشهيد وسط بغداد في 9 ابريل 2003
فالحدود الدولية المعترف بها، شكلت منذ انتصار الحلفاء في 1945 نوعا من المحرمات التي يُحظر انتهاكها. حتى الحروب العربية – الاسرائيلية التي يجوز استخدامها كدليل على ازدواج معايير الدول الكبرى، ظلت القرارات الدولية في شأنها تؤكد رفض كل عمليات الضم الاسرائيلية واعتبار الجولان وسيناء والضفة الغربية اراضي محتلة. محاولات موسكو منع الانهيار السوفياتي في دول البلطيق في المرحلة الاولى من سقوط الاتحاد، ومحاولات بلغراد ضرب النزوع الاستقلالي في كرواتيا وسلوفينيا اثناء تفكك الفيدرالية اليوغوسلافية، عبر إرسال ارتال الدبابات، قوبلت بتنديد دولي صارم.
لكن المفارقة الكبرى كانت ان الخلاف بين صدام حسين والغرب اندلع بسبب غزو الرئيس العراقي جارته الكويت وإقامته حكومة دمية له فيها في أغسطس/ آب 1990. وهو ما سيَرى عدد من المراقبين ان الاميركيين كرروه في 2003. ذرائع صدام لاحتلال الكويت كانت غير مقبولة عربيا (باستثناء لدى ما عرفت يومها بـ"دول الضد") ودوليا. ثمة إجماع على ان الخلاف العراقي – الكويتي حول أسعار النفط واستخراجه من المنطقة المحايدة وتسديد ديون بغداد جراء الحرب العراقية – الايرانية الى الكويت، ما كان يجب ان يصل الى اجتياح دولة شقيقة وجارة تتمتع فوق ذلك بالسيادة والاعتراف الدولي.
الأهم ان الولايات المتحدة رأت في الغزو العراقي للكويت ضربة للمناخ الذي بدأ يتكرس مع سقوط جدار برلين في العام السابق وتوالي سقوط حكومات اوروبا الشرقية الشيوعية بحيث بات محسوما أن الانهيار السوفياتي مسألة شهور قليلة فحسب. وهو بالفعل ما تحقق بعد عام من غزو الكويت عندما فشلت المحاولة الانقلابية التي نفذتها مجموعة من المتشددين في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي في أغسطس/آب 1991 وكانت بمثابة طلقة الرحمة في رأس الدولة السوفياتية المنهكة.
من دون الاسترسال في سرد تفاصيل الخطأ القاتل الذي ارتكبه صدام حسين بغزوه الكويت، والمحاولة البائسة لالقاء المسؤولية عنه على ديبلوماسية اميركية من الصف الثالث هي أبريل غلاسبي التي يقول مؤيدو صدام انها "شجعته" تشجيعا غير مباشر على الهجوم على الكويت، فإن الخطأ هذا حمل في طياته كل ما يستفز الدول الكبرى ويتحدى المزاج الدولي في تلك اللحظة التي انتشرت فيها احلام (أو أوهام) الخروج من الحرب الباردة.
اضرار لا تُرمَّم في النظام العالمي
في المقابل، شكّل الغزو الاميركي للعراق في 2003، تجسيدا لجنون العظمة (ميغالومانيا) عند القوة الكبرى التي تغلبت اعتباراتها الداخلية على القوانين الدولية والمقررات الدولية في شأن العراق. لا يغيب عن بال، ان بغداد فتحت قبل شهور قليلة من الاجتياح الاميركي كامل المواقع التي كان المفتشون الدوليون يطلبون زيارتها، واصدر رئيس اللجنة الدولية الخاصة هانس بليكس في اواخر فبراير/شباط 2003، اي قبل اقل من شهر من بدء العمليات العسكرية الاميركية، تقريره الشهير عن خلو العراق من اسلحة الدمار الشامل. بيد أن القرار الاميركي احتلال العراق كان متخذا قبل عام وبُلِّغ الى العديد من القوى الدولية والعراقية المعارضة.
وزير الخارجية الاميركي كولن باول يتحدث امام مجلس الامن الدولي في 5 فبراير 2003 حاملا انبوبا قال انه ربما يحتوي على سلاح بيولوجي
ضرْبُ إدارة بوش الإبن كل ذلك بعرض الحائط، كان بمثابة طعنة عميقة لما تبقى من منظومة الأمن العالمي التي مثلتها في مرحلة سابقة، على سبيل المثل، مساعي الامين العام كوفي انان الذي افلح في التسعينات في تجنب جولة اخرى من المواجهة العسكرية بين واشنطن وبغداد. فشهادة وزير الخارجية الاميركي كولن باول وصورته المتداولة حاملا انبوبا زجاجيا صغيرا مماثلا لِما قال انه يحتوي على سلاح بيولوجي اعده العراق (تبين عدم صحته لاحقا وابدى باول ندمه على انزلاقه الى تلك الدعاية) ارتقت الى مستوى استغباء المجتمع الدولي عن سابق تصور. وهو ما افضى إلى رفض فرنسا وألمانيا المشاركة في التحالف الذي اعلنه بوش لاسقاط حكم صدام حسين. في حين رفضت تركيا السماح للقوات الاميركية دخول العراق من الشمال ما لم تحصل انقرة على "حق" احتلال قسم من كردستان العراق.
وإذا كانت الدولة الأقوى التي يفترض انها تتمتع بقدرة فائقة على جمع المعلومات والتحقق منها وبناء قراراتها على الحقائق وليس على النيات والتصورات الايديولوجية، تتصرف على هذا النحو، فما المانع من ان يغدو سلوكها عبرة ونموذجا لجميع من يجد في نفسه القوة لتطبيق مشاريعه وليس فقط أخذ حقه، بيده وبيد جنوده وطائراته اذا توفرت؟